إشراقات

حوار بين زوجين

04 مايو 2017
04 مايو 2017

فوزي بن يونس بن حديد -

مما يدعو إلى الحيرة أن الآباء الذين لا يجلسون مع أبنائهم بحكم العمل المتواصل والسفر الدائم يظنون أن بتوفيرهم جميع الحاجيات التي يطلبونها منهم سيجعل هؤلاء الأبناء طائعين ولا يفكرون في الانحراف الخلقي والاجتماعي دون أن يسألوا عن أحوالهم وعن أفكارهم وعن قراراتهم، ولكن هذا الاعتقاد أثبت خطأه وخطره على الفرد بل إن الإسلام عدّ هذا النوع من التصرف عقوقا في حق الأبناء الذين تعلموا الدلال وأفرطوا في التبذير والإسراف وضيعوا أوقات الفراغ فيما يغضب الله، وولي الأمر بعد ذلك بعيد عن الأنظار، يختفي بالليل والنهار، لا يرون منه إلا ظلا يدخل البيت ثم يخرج، فهل هذه حقا حياة أم أنها نوع من الإصرار على التفاني من أجل جمع المال.. لذلك ما نراه اليوم من انشقاقات في الأسر سببه انشغال رب الأسرة بالعمل والزوجة بالعمل ومن بقي في البيت يتعلم حياته من الهامش الذي لا يربيه بل يجعله يعيش أزمة نفسية خانقة في القرب أو البعيد.

أبدأ مقالتي بقصة لرجل حدثني أنه يعمل طوال الوقت ولا يجد فسحة للجلوس مع زوجته وأطفاله الذين ينامون باكرا، يخرج من البيت باكرا ويرجع متأخرا وفي كلا الحالتين يترك أطفاله نائمين، هذه حياته استمرت لفترة طويلة إلى أن وجد نفسه يوما أمام واقع جديد، ورغم أن زوجته صابرة على ما يقوم به وتخفي ذلك في نفسها، ترى زوجها يعمل ويكدّ طوال الوقت من أجل توفير لقمة العيش لها ولأطفالها، فهي تقوم بعملها على أكمل وجه ولم تُظهر له يوما أنها بائسة وأنها منزعجة من تصرّفه وأنها لم تعد تطيق هذه الحياة بل كانت تمارس عملها بكل إتقان، لم يشعر الزوج خلالها بأي إخلال يمكن أن يوقفه عن ممارسته تلك.

وفي يوم من الأيام سافر هو وزوجته للخارج دون أن يصطحبا معهما الأطفال، توقفا للحظة مع نفسيهما، وجدا الوقت المناسب للحديث عن كل ما يتصل بعلاقتهما بكل هدوء ودون تشنّج، فكانت الزوجة حكيمة لأنها اختارت الوقت المناسب للتحدث وبثّ الهموم وطرح المشكلات التي كانت تعانيها بمفردها، وبدأ الحديث والنقاش في جوّ من المرح والتوافق لأن الزوج كان يريد أن تحدثه زوجته وتفضفض له عن كل ما في قلبها حتى يطمئن أنها بجانبه، بينما هي وجدت الفرصة كاملة وتامّة للتعبير عن مشاعرها وعن قلقها مما يفعل معها ومع أطفاله الذين هم بحاجة إليه، لامها عن عدم الحديث في ذلك الوقت، أجابت بكل ثقة أعرف غضب الرجل حين يكون متعبا، تزداد المشاكل وتتعقد، ولن يصل الطرفان إلى حل، لذلك رأيتُ أن الحل يكون الآن مع هذا التوافق والانسجام.

فعلا أصابت المرأة حيث أخطأ الرجل في كل حساباته، دارت به الدنيا يمينا وشمالا، كيف لرجل مثلي أن يظن أن هذه المرأة سعيدة معي؟ كيف كانت حياتي؟ ظننت نفسي أني سعيد بتوفير المال لأطفالي، بينما أنا في قائمة من الرجال التعساء، ولولا أنها تحدثت عن معاناتها ما كان لي أن أعرف أبدا.

يقول الزوج منذ ذلك الوقت تغيرت حياتي كلها بعد أن فهمتُ زوجتي وطلبتُ منها الاعتذار مما حصل طوال تلك السنوات التي لم أبال فيها ولم أجلس يوما مع أطفالي ألاعبهم وأعرف حاجاتهم وأقضي شؤونهم، يا ليتني كنت معهم، وجدت نفسي بعيدا عن زوجتي وعن أطفالي يوما وهم لا يبادلونني الحب ولا حتى الحديث فليس من قولي سوى افعل أو لا تفعل، لأن أدوات الحوار منقطعة فلا مكان يجمعنا ولا زمان يلمّنا ولا حديث يسامرنا، كل ذلك لم يتوفر وأنا السبب، ماذا أفعل؟

كان هذا الحوار الذي دار بين الزوج ونفسه في بعض الأوقات التي كان يختلي فيها بنفسه، وقرر فور العودة أن يغيّر نمط حياته، وأن يسعى لبناء أسرة سعيدة قبل أن يجمع مالا وفيرا.

هذه القصة تبين لنا مدى تأثير عمل الرجل المتواصل دون الالتفات إلى من هم أقرب الناس إليه، فهو قد تأخذه الحياة ويوسوس له الشيطان أن ما يفعله صحيح غير عابئ بما يقوم به من أعمال تسيء إلى أهل بيته. فالإسلام أمر الرجل بأن يسعى وأن يعمل وأن يجدّ وأن يكدّ لكن ذلك لن يكون على حساب العائلة التي تريد من ربّ البيت أن يكون معها وأن يخصص جزءا من وقته للحديث والمسامرة والبحث في شؤونهم والتناقش فيما يهمّ الأسرة بأكملها، فلا ينفرد بالقرار بل عليه أن يشرك الصغار والكبار، الذكور والإناث على السواء، فلا يميل إلى جنس دون آخر ولا إلى زوجة دون الأبناء، ولا يسيطر جانب على آخر، بل لا بد من التوازن في الأداء والأحكام.

ولنا في القرآن الكريم قصص وعبر لأولي الألباب فهذا لقمان الحكيم استطاع بفضل الله عز وجل أن يجعل ابنه مخلدا في القرآن الكريم من خلال ذلك الحوار الأبوي الجميل، وجعل من هذه القصة نموذجا مثاليا للعلاقة بين الأب والابن، فهي علاقة أبوّة وبنوّة، علاقة متكاملة الأركان، متماسكة البنيان، في كل مرة يذكر كلمة «يا بُنيّ» للتعبير عن العلاقة الوطيدة بين الأب والابن، وإلا ما كان الابن ليستمع وينصت لأوامر أبيه وهو في هذه المرحلة لولا تقدير الابن للأب والانصياع والإحسان له، ولولا معرفة الأب بمدى الحكمة في الخطاب واختيار الكلمات والأسلوب والمكان والزمان لتعبئة الطفل بما أمر الرحمن.

وكذا الأمر مع سيدنا إسماعيل عليه السلام وأبيه إبراهيم، حيث بأن التكامل في العلاقات بين الأب والابن من خلال الحوار الهادئ والانقياد التام الذي ظهر عليه الابن لأبيه حينما قال له: « افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين» فبينما يتوجّس إبراهيم خيفة من أن يفقد ابنه الوحيد في العائلة يأتي الجواب مطمئنا وكله إيمان بأن ما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

وها هو يعقوب عليه السلام وهو الأب لاثني عشر ابنا، كيف كان يحاورهم رغم انشغاله بالدعوة إلى الله، ورغم ما عاناه من ابتلاءات كثيرة إلا أنه كان في خطابه هادئا يحتويهم بقلبه وفؤاده ويعطف عليهم بوجدانه كما لو أنه خائف عليهم من رياح الزمان وهو المؤمن بالله الواثق به من أنه لا يضيعهم أبدا مهما حدث، والقصص في ذلك كثيرة في القرآن تبين أن الحوار مع الأبناء والجلوس على طاولة واحدة على السواء مهم للغاية، يتبادلون أطراف الحديث ويتناقشون في أمور تهمهم ويتفقون على منهج واحد يسير عليه الجميع ليعيش الجميع سعيدا في زمن نبني العلاقات الجميلة ويعرف كل طرف ما عليه من واجبات وما له من حقوق، ومن خلال ذلك نؤسس لأسرة لها مكانتها في الحياة.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة، فهو الرسول الذي قاد أمة وبنى حضارة وأسس دولة بأركانها، ورغم هذه المهمات الصعبة التي كانت على عاتقه لم يغفل عليه الصلاة والسلام يوما أنه كان زوجا وأبا وجدا، وأنه أعطى كل ذي حق حقه وعلم أصحابه هذا النهج القويم حتى تعجب منه الأقرع بن حابس حينما كان صلى الله عليه وسلم يلاعب الحسن والحسين ويقبلهما ويضمهما إلى صدره الشريف وهما لا يزالان طفلين، بل إن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام كان يفعل فعل أهله في بيته فكان يخيط ثوبه ويخصف نعله وينظف بيته ومع كل ذلك كان يعمل ويحكم ، فكان مثالا رائعا يجمع بين العمل والأسرة، يعطي كل ذي حق وحقه.

ومما يدعو إلى الحيرة فعلا أن الآباء الذين لا يجلسون مع أبنائهم بحكم العمل المتواصل والسفر الدائم يظنون أن بتوفيرهم جميع الحاجيات التي يطلبونها منهم سيجعل هؤلاء الأبناء طائعين ولا يفكرون في الانحراف الخلقي والاجتماعي دون أن يسألوا عن أحوالهم وعن أفكارهم وعن قراراتهم، ولكن هذا الاعتقاد أثبت خطأه وخطره على الفرد بل إن الإسلام عدّ هذا النوع من التصرف عقوقا في حق الأبناء الذين تعلموا الدلال وأفرطوا في التبذير والإسراف وضيعوا أوقات الفراغ فيما يغضب الله، وولي الأمر بعد ذلك بعيد عن الأنظار، يختفي بالليل والنهار، لا يرون منه إلا ظلا يدخل البيت ثم يخرج، فهل هذه حقا حياة أم أنها نوع من الإصرار على التفاني من أجل جمع المال.

والأخطر من ذلك أن يتعدى هذا الفيروس للمرأة العاملة فتدع أطفالها في أيد عاملات لا وازع لديهن في الحياة، وقد ورد أن رأيت تسجيلا لعاملة قاسية على رضيع يبكي وهي تضربه على وجهه، كلما صاح أكثر كانت ضرباتها أكثر شراسة تريد أن تبكته بالقوة والعنف وتستخدم في ذلك كل وسائلها الإجرامية وولي الأمر لا يدري أن ابنه تعرض للقهر في غيابه، كيف تطمئن امرأة لعاملة تجلبها من دولة أجنبية لا دين لها إلى بيتها لتعتني بأطفالها، ألم تعلم أن أقرب أقربائها لا يستطيعون فكيف بامرأة لا صلة لها بها، كيف لا تفكر في أطفالها أولا وذلك بأن توفر لهم المكان الآمن والعناية اللازمة. ولكن مع الأسف انجرت المرأة العربية وراء دعوات العمل وتحقيق الحلم ونسيت أن أعظم حلم ضاع منها في لحظة من الزمن، رغم تعبها وشقائها، ورغم كل ما توفر لديها فالأبناء محتاجون للأب وللأم أكثر من أي وقت مضى، منهم يستقون كل المشاعر والأحاسيس ومنهم يرضعون الحب والعطف والتناغم والتناسق، لذلك ما نراه اليوم من انشقاقات في الأسر سببه انشغال رب الأسرة بالعمل والزوجة بالعمل ومن بقي في البيت يتعلم حياته من الهامش الذي لا يربيه بل يجعله يعيش أزمة نفسية خانقة في القرب أو البعيد.