أفكار وآراء

معركة «النفس الطويل» .. أمنيا وفكريا

02 مايو 2017
02 مايو 2017

محمد حسن داوود -

,, حماية المدنيين من الهجمات الإرهابية لن تتحقق بالقطع إلا باستئصال الجماعات والتنظيمات الإرهابية من جهة ومواجهة أسباب التطرف والتشدد من جهة أخرى، وفي الحالتين نحن بصدد معركة كبرى تحتاج إلى سياسة «النفس الطويل»,,

لم نعرف على مدى عقود عديدة أن تنظيمات إرهابية تمكنت من هزيمة دولة أو سحق أمة حتى ولو تمكنت في ظروف زمانية ومكانية معينة من تحقيق مكاسب سريعة أو نشر الخوف والفزع والتوتر في ربوع ديار معينة، ففي المحصلة النهائية تعد التنظيمات الإرهابية جماعات إجرامية مارقة، أي أنها جماعات خارجة على القوانين الإنسانية والوضعية والمجتمعية بشتى أشكالها وأنواعها، ومن ثم فهي حالة استثنائية بالنسبة للسياق العام للمجتمعات والنظم السياسية، ومواجهتها بشتى الوسائل ومعاقبتها بصرامة أمر حتمي لا جدال فيه ولا مساومة عليه لأن التراجع أمام مثل تلك الجماعات -و«داعش» ليس استثناء منها- يعد تراجعا غير مبرر وغير مقبول تحت أي ذريعة من الذرائع أو في ضوء أي تفسيرات أو تبريرات اقتصادية أو مجتمعية أو سياسية.

قد يكون ذلك مهما في قراءة البيئة التي قد تساعد على تهيئة الأجواء على ظهور توجهات متطرفة أو متشددة حتى تمثل أساسا مهما لعلاج الظاهرة واقتلاعها من جذورها وفقا لبرامج طويلة المدى،إلا أن قتل الأبرياء وترويع الآمنين ودهس البشر وتفجير المساجد والكنائس وقتل المصلين جماعات وفرادى وتدمير المنشآت الحيوية والاقتصادية واستهداف رجال الشرطة والجيش والقضاء والإعلام والسياسية والمثقفين بمبررات واهية قد تتراوح بين ادعاء رفع المظالم أو تلبية مطالب ذاتية وصولا إلى حلم إقامة دولة الخلافة الإسلامية على الطريقة «الداعشية» كلها أسباب ودوافع لا يمكن القبول بها كمبررات لقتل الأبرياء، فمن قتل نفسا بغير نفس كأنما قتل الناس جميعا، هذا ما تعلمناه من القرآن الكريم ضمن منظومة من القيم العظيمة، يتجاهلها الإرهابيون ويشرعنون لأنفسهم أعمالهم الخسيسة بأسانيد دينية ضعيفة، والدين منها ومنهم براء.

ومن حيث المبدأ عندما تأخذ هذه الجماعات الشكل الميليشياوي المنظم بتشكيلات عنقودية نظامية تضم خلايا يقظة أونائمة بدعم لوجيستي قوي من حيث التمويل والإسناد والمعدات والأسلحة، وتلجأ بالتالي إلى العمل المسلح ومن بينه قتل الأبرياء بشكل عشوائي وجماعي كما هو الحال مع القاعدة وداعش لن يكون أمام الدول والحكومات والسلطات نهج آخر سوى تجريد آلتها العسكرية وبمنتهى القوة للتصدي لهذه الجماعات الإرهابية المسلحة التي لا يجوز التفاوض معها أو العمل على إدماجها في المجتمعات بأي شكل من الأشكال، لأنه وفقا لتجارب كثيرة هذه الجماعات تعد - وفقا للتعبير الطبي الشهير - حالة ميؤوس منها، ومن الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل تطبيع أعضائها على العيش في المجتمعات بسلام، فعمليات غسيل المخ التي تعرضوا لها جعلتهم غير منفتحين على أي إمكانية للعودة للحياة الطبيعية من جديد.

وفي مواجهة مثل هذه الجماعات المسلحة لا مجال للحديث عن برامج إصلاح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية عاجلة، لتبقى المعالجة الأمنية هي الحل الحتمي العاجل لوضع هذه الجماعات عند حدها ووقف نزيف الدم والحيلولة دون وقوع المزيد من الضحايا والخسائر البشرية، ولتحقيق ذلك لا بد من رفع الكفاءة القتالية ودعم جهود الاستطلاع والمعلومات المخابراتية والتزود بأحدث المعدات والأسلحة والأجهزة التكنولوجية والإلكترونية والقيام بعمليات نوعية تعتمد بشكل أساسي على الضربات الاستباقية لإجهاض المخططات الإجرامية للتنظيمات الإرهابية.

فليس من المعقول انتظار الفئران والأفاعي حتى تخرج من جحورها لتعيث فسادا في الأرض ثم تبدأ مراحل مواجهتها، فمن الأفضل الذهاب مبكرا إلى جحورها وسحقها في منابعها، ولن يتسنى تحقيق ذلك إلا بمهنية رفيعة المستوى تعتمد على المعلومات الدقيقة للوصول إلى مصادر التمويل سواء داخل البلاد أو خارجها، لأن التمويل في نهاية المطاف هو الشريان الحيوي لحياة تلك التنظيمات، فبدونه لا كوادر بشرية ولا معدات أو أسلحة، ومن المؤسف أنه في بعض الدول وعندما تحدث بعض الضربات الأمنية الناجحة سرعان ما تحدث حالات تراخٍ ينفذ من خلالها الإرهابيون ويتمكنون من تحقيق ضربات إرهابية مؤلمة تعيد الأمور إلى المربع الأول وتعطي انطباعا بأن شيئا لم يتحقق، وهذا ما نعنيه بمعركة «النفس الطويل» أي لا تعرف راحة ولا تكاسلا ولا تراخيا ولا تراجعا ما دامت غيوم الخطر قائمة وواضحة للكثيرين.

فضلا عن حقيقة أخرى تؤكد أن تأثير العملية الإرهابية مهول ومخيف على مستويات متعددة، وكذلك تداعياتها وتأثيراتها السلبية بحاجة إلى وقت طويل لنسيانها أو تجاوزها، بينما الضربات الحكومية تحقق نتائج عالية على أرضية الميدان ولكنها لا تأتي بنفس التأثيرات المعنوية أو حتى السياسية لعملية إرهابية واحدة، ولعل ذلك هو سبب المقولة الشهيرة التي وجهها قادة الجيش الجمهوري الإيرلندي لرئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارجريت تاتشر، «عليك أن تنجحي في كل مرة وعلينا أن ننجح مرة واحدة فقط».

ولا شك في أن هناك العديد من القضايا التي لا يجوز الحديث فيها عن حلول أمنية فقط، وتنطلق المطالب في أكثر من مناسبة بضرورة تبني برامج إصلاح شاملة لاجتثاث الإرهاب من جذوره، هذه البرامج تعتمد منظومة شاملة من الإصلاح السياسي والتشريعي والاقتصادي والمجتمعي والديني والإعلامي والتعليمي والثقافي بصفة عامة لحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية والمالية في المجتمعات بما يساعد على تحقيق درجة عالية من الاستقرار بلفظ العنف وخطاب الكراهية والتطرف وإيجاد البيئة المناسبة لتحقيق كل هذه الأشياء، ولكن كل هذه البرامج ليست هي النهج العاجل لمواجهة الإرهاب المسلح الذي ينبغي مواجهته بآلة عسكرية وأمنية قوية كما سبق الذكر، أما البرامج المشار إليها فهي خطط علاج وبرامج مواجهة طويلة المدى لمواجهة وحصار التطرف والأفكار المعوجة منذ البداية، وهدفها بالتأكيد حماية الأجيال الحالية والمستقبلية بدلا من إضاعة الوقت مع أناس باعوا أنفسهم للشيطان.

وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أهمية دور الشباب في المجتمعات وتوفير كل سبل الرعاية والتنشئة السليمة لهم لضمان ظهور أجيال قادرة على العطاء والبناء، ولعل من المناسب في هذا الشأن الإشارة إلى أحدث تصريحات غسان غصن، الأمين العام للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب الذي أدان سلسلة التفجيرات الإرهابية التي استهدفت الأبرياء في مدينتي طنطا والإسكندرية بمصر مؤخرا وما سبقها من أعمال إرهابية بسوريا والعراق، المهم في تصريحاته أمام الدورة الـ(44) لمؤتمر العمل العربي بالقاهرة تأكيده على أن الأمة العربية تمر بظروف صعبة، لافتا إلى أن الإرهاب في كل بقعة عربية يهدد العمال الساعين لرزقهم والتلاميذ في مدارسهم، كما أكد على أهمية التدريب المهني وضرورة تكامل الجهود المشتركة بين أطراف العمل الثلاثة للارتقاء بمنظومة التدريب المهني لما له من علاقة وطيدة بتحقيق التنمية المستدامة.

وأشار الأمين العام كذلك إلى أنه من المتوقع أن ترتفع أعداد البطالة لحوالي ٤١ مليون شخص خلال العقدين القادمين بين الشباب، مما يحتم ضرورة التطلع لمستقبل العمل من خلال هيكلة اقتصادنا العربي وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والسلم، وتعزيز برامج الحماية الاجتماعية وبرامج الضمان الاجتماعي، وأكد أهمية تقرير المدير العام لمنظمة العمل العربية فايز المطيري وما تضمنه من محاور تحقيق الأمن الغذائي للقضاء على الفقر وتوفير فرص العمل من خلال تعزيز النمو الاقتصادي وإعادة النظر للمنظومة التعليمية العربية ومواءمتها لاحتياجات سوق العمل وأبدى استعداد الاتحاد الدولي التعاون مع كافة الوزارات وأصحاب الأعمال في الوطن العربي، مطالبا بضرورة وضع خطة فاعلة لتحقيق التنمية من خلال سياسة تراعي حقوق العاملين، والتي في مقدمتها قضايا العمل النقابي، وضرورة أن يتاح للنقابات العمالية دورا في حوار مجتمعي مع أصحاب الأعمال والحكومات.

ونظن أن تلك الحقائق وهذه التصريحات هي جزء مهم من معركة النفس الطويل في المجال الإصلاحي للقضاء على كثير من أسباب ومظاهر التردي الاجتماعي التي لا تمثل بالضرورة سببا لاندفاع الشباب نحو الجماعات الإرهابية ولكنها على أقل تقدير توفر بيئة خصبة يسهل نثر بذور التطرف في أراضيها، ثم يجب العمل بجدية وبجهود مشتركة لاستئصال الإرهاب وأسبابه من الجذور وبالتالي حماية المدنيين والأبرياء والمجتمعات عموما من عدوان الإرهابيين.