الملف السياسي

المهارة والمرونة «الاستراتيجية» لصالح بيونج يانج .. ولكن؟

01 مايو 2017
01 مايو 2017

طارق الحريري -

,, ليس من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه التشاحنات الإعلامية والتلاسنات المليئة بالتهديد والوعيد في الوقت الحالي بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية ,,

ما يحدث الآن لما يبدو أنه صراع بين الطرفين قابل للاشتعال لا يزيد عن كونه حلقة جديدة من سلسلة طويلة من التجاذبات التي يصعب أن تنقلب إلى صراع عسكري مباشر على نطاق واسع، منذ أن فصل خط العرض 38 بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب وكان الاتحاد السوفيياتى السابق قادر على أن يزيد بسهولة من مساحة كوريا الشمالية إلا أن القيادة السوفيياتية أحجمت عن هذا لدعم موقفها في التفاوض بشأن أوروبا الشرقية وبقي الشمال الكوري تحت حماية الصين والاتحاد السوفيياتي لذلك لم تتمكن أمريكا طوال فترة الحرب الباردة من تجاوز حدود التقسيم، وواقعيا منذ يونيو 1951 وبعد سنة من المعارك العنيفة بين طرفي شبه الجزيرة الكورية التي لم تحسم على الأرض فلا الأمريكيون وحلفاؤهم دحروا المد الشيوعي ولا الشيوعيون الكوريون وحلفاؤهم السوفييات والصينيون استطاعوا توحيد شطري كوريا تحت اللون الأحمر وتدريجيا صارت الصين الطرف الفاعل. وفي النهاية اقترح مندوب الاتحاد السوفيياتي في الأمم المتحدة وقفا لإطلاق النار وتم التوصل إلى اتفاق في الأمم المتحدة بتوافق الولايات المتحدة والصين في 27 يوليو 1953 بقرية «بانمونغوم» وعلى الرغم من انتهاء الحرب إلا أن النزاع الحدودي ما زال حتى هذا اليوم مستمرا بين الطرفين.

استراتيجيا تغيرت المعادلة كثيرا بعد سقوط الاتحاد السوفيياتي والتحولات الاقتصادية في الصين التي أثرت على طبيعة علاقاتها الدولية وإن كانت الصين لا تزال ذات تأثير نسبي في الملف الكوري الشمالي نظرًا لما تقدمه من مساعدات اقتصادية لبيونج يانج التي حصلت فيما مضى على دعم ضخم من جمهورية الصين الشعبية ودعم محدود من الاتحاد السوفيياتي في مجال المستشارين العسكريين والطيارين والأسلحة لكن الأهم هو أن كوريا الشمالية انتهجت سياسة مستقلة منذ عام 1970 في صناعة أسلحة الردع وتحديدا في مجالي الصواريخ الباليستية والأسلحة النووية، مستغلة في ذلك مظلة الحماية من الصين والاتحاد السوفيياتي، فاستطاعت بناء قدرات عالية في التخصيب ووصلت إلى السلاح النووي على عكس محاولة بناء مفاعل نووي في العراق الذي تعرض للتدمير بواسطة القاذفات الإسرائيلية بمباركة ودعم استخباراتي ومعلوماتي أمريكي.

وفي مجال الصواريخ الباليستية حققت كوريا الشمالية تقدما هائلا في هذا المجال رغم بعض التجارب الفاشلة وآخرها تجربة شهر أبريل الماضي، إذ من المؤكد أن بيونج يانج تمتلك صواريخ متعددة المديات أي القصيرة والمتوسطة وأنها قادرة بالفعل خلال أقل من عامين على أن تحوز صواريخ بعيدة المدى يمكن أن تطول الساحل الغربي الأمريكي وإن كان من غير المؤكد مدى دقة الصواريخ بعيدة المدى لكن يبقى الاحتمال كبيرا بقدرتها على حمل رؤوس نووية مما يجعل من الآلة العسكرية مصدر تهديد خطير للولايات وهذا ما حذرت منه أجهزة المخابرات الأمريكية.

ومع هذا فإن التوازن الاستراتيجي في معادلة القوة العسكرية والاقتصادية بين طرفي المعادلة بين كوريا الشمالية في مقابل كوريا الجنوبية والولايات المتحدة يكشف إلى أي مدى يبلغ الفارق الهائل إذ تبدو كوريا الشمالية كما لو كانت فأرا صغيرا لكنه قادر على إيذاء ديناصور مخيف وذلك للاعتبارات الآتية:

أولا: بالنسبة للقوات التقليدية وغير التقليدية فإن قدرات الجيش الكوري الشمالي طبقا لآخر تصنيف من مؤسسة جلوبال فاير باور تشير إلى أن عدد القوات من الأفراد في الخدمة مليون ومائتا (1200000) ألف جندي والجنود في الاحتياط أربعة ملايين ونصف المليون (4500000) جندي، وفيما يخص القوات البرية تمتلك بيونج يانج 4100 عربة مدرعة و4500 دبابة و5500 قطعة مدفعية و2500 قاذفة صواريخ تكتيكية و15000 من المقذوفات الموجهة المضادة للدروع و35000 مركبة دعم لوجيستي و2000 من أنظمة الهاون المحمولة، وفيما يخص القوات الصاروخية تبلغ ترسانتها قرابة 2400 نظام صاروخي عبارة عن نودونج الذي يبلغ مداه 1000كم وتايبودونج1 الذي يبلغ مداه 2200كم وموسودان ومداه 4000كم وتايبودونج2 بمدى يصل 6700كم وتايبودنج2 المعدل، ومن المتوقع له مدى يصل إلى 10000 على أقصى تقدير خلال عامين على الأكثر، أما عن القوات البحرية فهي تتكون من 70 غواصة و25 كاسحة ألغام و3 فرقاطات وحوالي 400 قطعة من لنشات الصواريخ ومراقبة السواحل وسفن التموين، وفيما يخص القوات الجوية وهي تعتبر ضعيفة وهزيلة بمقاييس العصر فانها تتشكل من قرابة 1500 طائرة ما بين طائرات هجومية ثابتة الجناحين واعتراضية ونقل وتدريب، أما فيما يتعلق بالرؤوس النووية يوجد عدد غير معروف منها لكن من المؤكد أنها تمتلك عددا، منها يشكل خطورة بالغة في حال استخدامها كما تمتلك أسلحة كيميائية غير معلن عن تفاصيلها وإن كان يعتقد أن مخزونها كبير. ومع كل هذا فإن ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية تبلغ 100 مرة مثيلتها في كوريا الشمالية وهذا يكشف بطبيعة الحال الفارق الرهيب في ميزان القوة لصالح الولايات المتحدة.

ثانيا: كل هذه الترسانة الضخمة من الأسلحة التقليدية والأعداد الهائلة من الجنود جعلت الجيش الكوري الشمالي يأتي في المرتبة الرابعة للقوات تحت السلاح بين كل جيوش العالم وفقا لما ذكرته وزارة الخارجية الأمريكية ومراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية ومع هذا فإن التقييم الواقعي للقوة في كوريا الشمالية لا يجعلها تحتل موقعا متميزا في مصاف القوى الكبرى بل إن الولايات المتحدة تمتلك من الإمكانيات ما يجعلها تستطيع أن تبيد كل المواقع النووية وأماكن تمركز الجيش ومنصات الصواريخ الباليستية لكن نتيجة مثل هذا التصرف يمكن أن يتسبب في نتائج كارثية في جنوب شرق آسيا بالكامل نتيجة الإشعاع النووي بعد انفجار المفاعلات والرؤوس النووية التي تمتلكها كوريا الشمالية وما يمكن أن ينتج من رد الفعل في حال نجاح إطلاق صواريخ حاملة لرؤوس نووية على كل من كوريا الجنوبية وقواعد الولايات المتحدة في المنطقة.

ثالثا: تدرك القيادة العسكرية والسياسية في كوريا الشمالية بالطبع هذه الحقائق لذلك خرج تصريح من هيئة الأركان العامة للجيش الكوري الشمالي جاء فيه: «إذا اعتدت واشنطن على بلادنا فسترد بيونج يانج بقصف القواعد العسكرية الأمريكية ومقر الرئاسة في سيئول» وقال البيان الذي نشرته وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية: «سنقوض كل الاستفزازات والمكائد السياسية والاقتصادية والعسكرية ذات الطبيعة الاستفزازية وسينال أصحابها الرد القوي من جانب جيشنا وشعبنا» ونوه ممثل جيش كوريا الشمالية أن رد بلاده سيتضمن خيارات توجيه ضربات استباقية برا وبحرا وجوا، وكأهداف محتملة للضربات الانتقامية قال المتحدث الكوري الشمالي: إن الخطط جاهزة لضرب القواعد العسكرية الأمريكية في «أوسان» و«كونسان» و«بيونجتايك» بالإضافة إلى مقر الرئاسة الكورية الجنوبية «البيت الأزرق» وهدد بأن هذه «الأهداف ستتحول إلى رماد في غضون دقائق» ودعا إلى عدم نسيان أن الصواريخ الكورية الشمالية موجهة ضد القواعد الأمريكية في اليابان وداخل الولايات المتحدة كما أكدت الأركان الكورية الشمالية أنها جاهزة لقصف حاملة الطائرات الموجودة بالقرب من بلادها.

السياسة الكورية تعيد الآن إنتاج الحرب الباردة بنسخة جديدة تكيف بها مقتضيات إمكانياتها ذات الحساسية الاستراتيجية وتجلى ذلك في إعلانها عن خططها العسكرية عمدا وإعلان التأهب في قواتها الصاروخية، لذا يمكن القول إن التوجه الكوري الشمالي يتأسس على مبدأ إرباك العدو وإشغاله وفي إطار هذا التوجه الاستراتيجي فإنه ليس ضروريا أن يكون الهدف تحقيق انتصارات عسكرية، بقدر ما يكون المحافظة على استمرار الصراع وتصاعد وتيرته ليتزايد الضغط على الجانب الآخر باستخدام وسائل محدودة ولكن بأساليب تتسم بالمهارة والمرونة مع تواصل الضغط المعنوي مما يحدث مناخا من البلبلة لدى أجهزة الدولة الأمريكية في حين سيحقق هذا الموقف تماسكا للجبهة الداخلية في كوريا الشمالية وهنا أستطيع أن أجزم أن الولايات المتحدة لن تستطيع الإقدام على مغامرة توجيه ضربة لكوريا الشمالية مثلما فعلت في سوريا.