شرفات

صدور كتاب «حضارات السند البائدة» للكاتب والصحفي البريطاني أندرو روبنسون

01 مايو 2017
01 مايو 2017

أصدر «كلمة» الترجمة العربية لكتاب «حضارات السند البائدة» للكاتب أندرو روبنسون، نقله إلى العربيّة د. مصطفى قاسم.

ثمة إجماع بين المؤرخين وعلماء الآثار على أن الحضارة ظهرت -متزامنة تقريباً - على الأراضي المروية على طول ضفاف ثلاثة نظم نهرية: دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين، والنيل في مصر، والسند وروافده في شمال غرب شبه الجزيرة الهندية. كان للمدن السومرية التي يربو عددها على عشر والتي ظهرت بالقرب من مصب نهري دجلة والفرات بين عامي 3500 و3000 ق.م، أسبقية زمنية بسيطة على الحضارتين المصرية والسندية اللتين انبثق فيهما تعقيد اجتماعي مماثل بعد نحو ما بين قرنين وخمسة قرون.

امتدت الفترة المبكرة لحضارة السند بين نحو العامين 3500 و2600 ق.م، إذ في العام الأول بدأ استيطان هَرَبّا وربما موهنجو دارو الواقعتين على نهر السند وأحد روافده، اللتين كانتا في أثناء طور «نضج» حضارة السند الممتد بين نحو العامين 2600 و1900 ق.م تضاهيان مدنا مثل ممفيس في مصر وأور في بلاد ما بين النهرين. وبين نحو عامي 1900 و1700 ق.م، ولأسباب غير معلومة حتى الآن، دخلت حضارة السند طورها المتأخر وبدأت المدن السندية في الأفول، والكتابة السندية في الاختفاء، وأخذ الناس يهجرون المدن.

للوهلة الأولى، تبدو حضارة السند مغبونة مقارنة بالنجمين الحضاريين الآخرين: مصر وبلاد ما بين النهرين، وهو ما يمكن إرجاعه إلى وضعية هذه الحضارة من حيث الإنجاز الفني والمعماري والثقافي والفكري مقارنة بالحضارتين الأخريين من جانب، ومن جانب آخر إلى مدى انكشاف هذه الحضارة وحاضنتها الاجتماعية والثقافية والسياسية للعالم، أيضا مقارنة بالحضارتين الأخريين. فإنجاز هذه الحضارة، أو ما بقي منه، أو ما تكشف منه على الأقل، لا يضاهي بحال من الأحوال إنجاز حضارة مصر وبلاد ما بين النهرين فنيا ومعماريا وثقافيا وفكريا، والأهم من ذلك- أو قل ربما يكمن أحد الأسباب الأساسية وراء ذلك في- أن الكتابة السندية لم تفك رموزها حتى الآن بعد نحو قرن شهد أكثر من مائة محاولة فاشلة لفك مغالقها.

مرد الغبن الواقع على حضارة السند نوعان، واحد قهري لا دخل للحضارة فيه، وآخر ناتج عن الأول لكنه يفصح عن أنها لا يمكن بحال من الأحوال أن تقف ندا لحضارة مصر وبلاد ما بين النهرين. أما السبب الخارج عن سيطرة هذه الحضارة وصنّاعها، فهو أنها ظلت منسية تماما ولا يعرف عنها أي شيء تقريبا، على خلاف حضارتي مصر وبلاد ما بين النهرين اللتين، وإن لم تفك رموز كتابتهما وتكتشف أسرار الحياة فيهما إلا منذ نحو قرنين (الكتابة المسمارية السومرية، 1815) وأكثر قليلا من قرنين (الكتابة الهيروغليفية المصرية، 1799)، كانتا على مر التاريخ محط أنظار الشعوب الوارثة لهما والغزاة والرحالة الأجانب ومثار إعجابهم ودهشتهم.

وحتى بعد أن اكتشفت حضارة السند في أوائل القرن العشرين، ظلت الحاضنة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لهذه الحضارة طلاسم، وذلك في المقام الأول بسبب عدم النجاح حتى الآن في فك رموز كتابتها التي يفترض أنها تحوي هذه الأفكار.

ربما كان شعب السند أقدم في الاستقرار من شعبي مصر وبلاد ما بين النهرين القديمتين، إذ ترجع أقدم المستوطنات الواقعة في مهرغره ببلوشستان إلى العام 7000 ق.م. وكذلك غطت حضارتهم مساحة أوسع كثيرا من مساحة مصر أو بلاد ما بين النهرين. وعلى الرغم من اتساع رقعة انتشاره، ربما أوجد شعب السند نوعا من الوحدة السياسية تجلت في تماثل حضارته ومنتجاتها الفنية والمادية، وبنوا بيوتا وبنايات عامة من الطوب اللبن والطوب المحروق، وشيّدوا نظاما للصرف الصحي لم يظهر له ند حتى زمن الإمبراطورية الرومانية، وزرعوا الشعير والقمح والبقوليات، ودجنوا الأغنام والماعز وجاموس الماء، وصنعوا الأختام الحجرية والخرز والأساور والسفن واستخدموها في تجارة المسافات الطويلة التي وصلت حتى الخليج العربي والمدن النهرية السومرية.

لكن هل تتمثل الحضارة فقط أو في المقام الأول في قِدم الاستقرار بديلا عن الترحال، وتدجين النبات والحيوان بديلا عن الجمع والصيد، أو حتى صنع الأدوات وتشييد البنايات؟ لا شك أن ذلك جزء أصيل من معنى الحضارة، يمكن أن نسميه «المكون الصلب» hardware لها، لكن هناك الجزء الأهم المتمثل في الفكر أو طريقة إدارة الجماعة الإنسانية software. فإلى جانب الاستقرار والتدجين وتشييد البنايات، وربما قبله، كانت الحضارة انتقالا بالبشر من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع وانتقالا بالبشر من حالة التوحش إلى حالة الإنسانية.

تتجسد الحضارة -إذن- باختصار في الأفكار والقيم والمبادئ من النوع الذي تحويه الاقتباسات التي تصدر هذا المقال، وما فرضته هذه الأفكار من ضرورة بناء مؤسسات لتنفيذها والسهر عليها. فبهذه الأفكار والمؤسسات فقط، انبثق الإنسان الأخلاقي صاحب الضمير، كما في رأي جيمس هنري برستد صاحب كتاب «فجر الضمير». ومن أجل إنفاذ هذه الأخلاق والمبادئ والمثل، ظهرت مؤسسات الدولة والقانون وغيرها.

ما مدى تقييم حضارة وادي السند في ضوء هذا التعريف للحضارة؟ حتى على الجانب المادي لا تضاهي منتجاتها منتجات حضارة مصر وبلاد ما بين النهرين بأي حال من الأحوال. أما على الجانب الفكري والأخلاقي والمؤسسي، فإننا رغم مرور ما يناهز القرن من الاكتشافات والبحوث الأثرية لا زلنا لا نعرف شيئا يقينيا عنه، أو حتى معلومات كافية لبناء صورة واضحة مكتملة له.لكن أليس من الوارد أن يكون الجانب الفكري موجودا بقوة في حضارة السند وأن يفصح عنه نفسه لنا في حال ما فُكت رموز الكتابة السندية؟ للأسف لا يعد ذلك احتمالا واردا. فعلى مستوى وجود مؤسسة الدولة، فإن تماثل مدن مثل هَرَبّا وموهنجو دارو يؤكد وجود دولة موحدة، بينما يدحض تنوع الحضارة واتساع رقعتها هذه الفكرة. وحتى لو كانت حضارة السند قد تشكلت من دول مدينية وليس دولة موحدة- وهذا ليس نقيصة في الحضارة- فإنها على الأرجح لم تعرف نوع سلطة الحاكم الفرد الذي عرفته حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين وأورثتاه للبشرية. وغياب الملوك والبلاطات الملكية والأسلحة العسكرية والقصور والمعابد العامة ينبئ بأن هذه الحضارة لم تُمارس فيها سلطة من النوع الذي عرف في الحضارتين الأخريين، وربما أيضا لم تشهد دولة ومؤسسات من النوع الذي يتبع وجود الدولة.