yousef
yousef
أعمدة

«صلاح عبد الصبور» في بيت «الأبنودي»

28 أبريل 2017
28 أبريل 2017

يوسف القعيد -

هذه حكاية شاعر عن شاعر، عبد الرحمن الأبنودي في مذكراته: أيامي الحلوة، كتب فصلاً عن صلاح عبد الصبور، وكلاهما شاعر كبير. الأول شاعر العامية الكبير، والثاني - صلاح عبد الصبور - ثالث أهم شاعر عربي من وجهة نظري بعد المتنبي وأحمد شوقي.

كتب الأبنودي:

- فجأة وجدت في بيتنا ديوان (الناس في بلادي) وقرأت اسم شاعره «صلاح عبد الصبور». لا أذكر الآن من أتى به فهو يعتبر مثل هذه الجريمة كُفراً بالشعر وتلويثاً وتدنيساً للميراث والمقدسات. ذلك أن الشعر الذي يحاول تجاوز (حسان بن ثابت) هو تجديف وخروج على أمور الشرع. هذا ما تعلمته في بيتنا في سنوات عمري الأولى.

أخطأت مرة، وحدثت والدي عن «أغاني الكوخ» لعمنا العظيم الصعيد ابن النخيلة الشاعر «محمود حسن إسماعيل» فأغلق باب حجرته عليه وفي اليوم التالي ألقى بالديوان إليّ قائلاً: «عرفت ما الذي أفسدكم؟». قلت في نوبة صراحة أعجَبُ لها ومنها حتى الآن: «إذا ما لم يكن الحب حب امرئ القيس ترفضونه، دُعرُه مقبول والحب الراقي عند رجل من أهلنا مرفوض».

وبالطبع اندفعت خارجاً مهرولاً قبل أن أقع تحت حد المقصلة.

من الذي جاء بهذا الديوان؟

أيكون (الشيخ جلال) أخانا الأزهري الأكبر؟

.. وكيف ذلك وهو ووالده فولة وانقسمت نصفين؟.

في النهاية قلت: «لا بد أن أحد زملاء الشيخ جلال في كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف أتاه بالديوان ليُفنِّد أقوال ذلك الشاعر الذي يجسد كتابة القصيدة العربية كما تركها لنا القدماء وعلى الرغم من ذلك يشُط وينُط ويركل كل ميراثنا، ويلجأ إلى كتابة شعر مقطع تقطيعاً عجيباً وغريباً. ولا بد أن «الشيخ جلال» وهو شاعر ضليع في اللغة العربية سيرد على الديوان و«يجيبه الأرض» ويرد لشعرنا العربي اعتباره. وإلا فما معنى أن أجد «صلاح عبد الصبور» في بيت الأبنودي؟.

سألت الآخرين فنفوا معرفتهم بمصدر الكتاب أو محتوياته وأنهم لم يسمعوا بشاعر أبوه اسمه «عبد الصبور». تسلل الكتاب المريب وأصبح معي لمدة يومين أقرؤه وأنهيه لأعاود قراءته. لم يسأل عنه أحد. «تعجبت أني لم أر الديوان في مكتبة قنا العامة، ولا حتى دواوين «محمود حسن إسماعيل» وإن اطَّلعت -هناك - على «ملاح» «علي محمود طه» التائه.

كنت قد قرأت العديد من دواوين الشعر وعرفت شوقي وحافظ والبارودي وغيرهم لكن أبدا ما ارتبط الشعر بالسحر – في حالتي – كما كان الحال مع «صلاح عبد الصبور».

حملت الديوان وأنا أخبئه كأنه قطعة مخدرات وأسرعت نحو بيت «أمل دنقل» على خور الماء الذي يخترق مدينة قنا. كان كعادته «معصعصاً» يلبس جلباباً مخططا. سألتني أمه – شفاها الله – إن كنت جوعاناً، فقال لها بسلاطته المعروفة: «مانا صاحي بقى لي ساعتين، ما سألتينيش ليه إذا كنت جعان؟».

وضعت السيدة الفاضلة ضاجن البيض على «الوابور (البريموس)» وصنعت لنا بيضاً وجُبناً. لكن «أمل دنقل» وهو يقرأ الديوان يدون صوت كان يغمُس الهواء أو قاع الصينية أو يلسعه طاجن الفخار المتقد بحثاً عن الغموس الذى توهه عنه «صلاح عبد الصبور».

هكذا انتقلنا من الدار إلى بيت «كمال عارف» – الصديق الذي يحتفظ بكثير من قصائد «أمل دنقل» الأولى، والذي ثارت ضده الثورات في القاهرة حين نشر بعضاً من قصائد «أمل» الأولى، ربما لضعف مستواها في ذلك الزمان وكأننا نزلنا من بطون أمهاتنا ناضجين عارفين مكتملين!.

صار «أمل» يقرأ بصوت مرتفع فيه تعال، وكنت أغتاظ بشدة وأتهمه بأنه لا يحب الرجل الذي لا نعرفه..

طبعاً سرعان ما عرفناه.

فأنت إذا أحببت كتاباً استحضرت كاتبه، ولا يستطيع أن يتململ أو يرفض.

سرعان ما عثر «أمل» على ديوان «أحمد عبد المعطى حجازي» «مدينة بلا قلب». أعجبت شديداً بالشاعرين كأني أطرق أول أبواب الوعى بالشعر، وسرعان ما ألقيت بما كتبت وبدأت أكتب قصائدي الأولى بالعامية والتفعيلة، أصبت بجنون الكتابة وأنجزت ديواناً كتبه لي بخطه الجميل صديقي «فاروق كتات» رحمه الله، ورسمه أخي وصديقي «جمال نصارى» أطال الله عمره.

هكذا وبسرعة صار لي ديوان شعر وأنا في السنة الثانوية. ديوان بكر التجارب فيه بدايات تحسس الحياة من حولي. ولا أدرى إذا كان عثور «الشيخ الأبنودي» عليه من حسن حظي أو من سوئه.

لم أكن بالبيت.

قالوا لي: «صارت شفاهه ترتعش، وتغير وجهه وصار يتمتم (أستغفر الله العظيم). كان الديوان طويلاً مثل دفاتر التموين. استلهمت فكرته من «البيَّاض» الذي كان يجمع بيض الدجاج من النساء. مدَّ والدي الشيخ الجليل يده بقوة وظل يمزق ديواني الأول ورقة ورقة.

أحمد الله أنى لم أكن هناك وإلا ما تحملت، ولربما حدث ما لا تحمد عقباه. لكنى - وقد أصبح الديوان طعاماً للنيران - ظللت آسفاً عليه وأكاد أنوح مدة طويلة، وأحمد الله أن الواقعة لم توقفني عن كتابة الشعر!. ما زلت أذكر القصائد العاطفية الساذجة في ديواني الأول الذي كان اسمه مضحكاً إلى حد ما وإن لم يكن مضحكاً لي تماماً في ذلك الوقت.

لكن قصائد أخرى فى هذا الديوان تناولت تاريخ «أبنود» وعاداتها مثل:

عارفين بلدي «أبنود» ديه

مرَّة مات فيها فرنسيين

أجدادي هناك

دفنوهم تحت الطين.

كانوا جايين غازيين

زرعوا ف سكِّتهم

ياما عيون زرقا

وشعور ناعمين.

صدّتهم بلدي.. صدّتهم

عملت في طريقهم جسر من العظم.

لسه الجامع فيها محروق

والنخيل هناك مشنوق

وتاريخ جرار

تحكيه البركة القبلية والبحرية

ويحكيه السوق!!.

* * *

قصيدة ملحمية طويلة ربما أخذت أكثر من اثنتي عشرة صفحة طولية من ذلك الدفتر العجيب الذي من المؤكد أنه تطلب جهداً بالغاً لتمزيقه فبسبب قوة غلافه وخيوطه. يستعمله البيَّاضون فيتحمل عرق الأيدي في الصيف المتقد، ويظل مع البياض سنوات وسنوات يقيد فيه في خانات الدائن والمدين التي كان يشير إليها بـ (ليها) و(عليها).

لن يصدق أحد أنني نشرت قصيدة بأكملها من ذلك الديوان الشهير بعنوان (النعش طار). قصيدة عن رجل طار نعشه في الهواء لكثرة كراماته لحبه للموت الذي اندفع به للقاء الله . قرأت القصيدة على عبد الفتاح الجمل وكنت بالجيش عام 1960 فنشرها وطبع إلى جوارها صورتي وأنا ألبس «البيريه» ونشر «أمل دنقل» إلى جواري مقطعاً من (أوجيني) لتنشر صورتينا معاً.

والقصيدة كانت تبدأ بـ:

من زمان والناس تقول عنه:

«ده شيخ».

قالوا ده مؤمن وواصل

قبل ما تقولله يقولك

ع اللي حاصل..

وما زالت أصداء قديمة لأشعة قديمة ضمها ذلك الدفتر المضحك الذي مزقه الشيخ بتشفٍ وأنا بعد هارب من التوجيهية والمحكمة!.

صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، عبد الرحمن الأبنودى.

ليرحمهم الله جميعاً رحمة واسعة.