995515
995515
المنوعات

قراءة في رواية «جرأة الياسمين» لنعيمة المهرية: من ينحني يسهل تغييره وتشكيله

27 أبريل 2017
27 أبريل 2017

سامي يوسف القاسمي -

لا شك أن العنوان هو المفتاح الذي به نعبر إلى عالم الرواية لاستكناه كوامنها واستجلاء مقاصدها فهو العتبة التي منها نلج وهو الإشارة الأولى التي تغرينا وتغوينا وتفعل فعلها فينا، تسحرنا فتأسرنا لنجد أنفسنا منشدين إلى، عالمها، تلوح، تلمح ولا تصرح، تفتح لنا شهية القراءة كما يقول رولان بارت.

ارتأينا أن يكون العنوان مدخلنا لأننا نعتقد أولا أن الكاتبة أفرغت فيه جهدا كبيرا وتتطلب منها تفكيرا وتمحيصا وبحثا وثانيا لما ورد في العنوان من بلاغة من خلال نسبة الجرأة وهي صفة متعلقة بالإنسان إلى عنصر من عناصر الطبيعة، ومن رمزية خاصة إذا بحثنا في هذا النبات ودلالته الرمزية والأسطورية «تلك الفتاة التي افترقت عن حبيبها لتهيم بحزنها وحيدة بين الكواكب وكان هو يتبعها باحثا عنها من كوكب إلى آخر حتى وصلت الأرض فبكت طويلا وبحرقة ومع كل دمعة تنزل كانت تنبت زهرة حتى امتلأت الأرض بالزهور ومن ثمة غادرت المكان.

وصل بعدها فرأى المكان مزهرا، علم أن حبيبته كانت هنا،عانق زهورها وكلما قبض على زهرة انحنت له فلوّنها ويقبض على أخرى فتنحني فيلونها، وأبت إحداها أن تنحني فكانت «الياسمين» بيضاء حتى الآن. من ينحني إذن يسهل تغييره وتشكيله وتلوينه ومن بقي شامخا معتزا بنفسه سيعانقه البياض دوما»

ولهذا اتصف كل من ينسب لها بالشموخ مع اللين وبالجمال مع الأنفة.

ذاك هو الياسمين فما بالك لو أضفناه إلى الجرأة «جرأة الياسمين»، جرأة وشموخ، أنفة وجمال لعلنا نجد صدى لذلك في فصول الرواية التي ستفصل ما أجمله العنوان وتبسط ما اختصره وتطلق العنان لما احتجزه.

الرواية هي الأولى لنعيمة المهرية ورغم أن أصعب الأشياء بدايتها فقد كتبتها صاحبتها بكل ثقة في النفس وحرفية وحبكة وإحساس في أسلوب سلس وجميل وغير معقد هي رواية سهلة في أسلوبها حبلى بمعانيها كثيرة في مقاصدها لا تسلم نفسها للقارئ بكل سهولة حتى يبحر في عالمها ويغوص في أغوارها ويرتاد مغامرة البحث في كوامنها أحداثها تتنامى وتتطور لتنكشف للقارئ تدريجيا،هي مزيح من وقائع وأفكار وسيرة يضيع القارئ في تخومها ومتاهاتها فيجد نفسه رهين الواقع أحيانا وأسير الخيال أحيانا أخرى بل قد يصل به الأمر إلى اعتبارها سيرة ذاتية، تشده الفكرة فيترك العنان لخياله ليسبح وسط وقائع لم تقع وتسحره الواقعية فيضطر لتبني بعض المواقف والدفاع عنها وتلامس وجدانه السيرة الذاتية فيتعاطف مع بطلة الرواية ويتفاعل معها فيحب ما تحب ويكره ما تكره إن اللافت للانتباه في الرواية جرأة كاتبتها واقتحامها عوالم ليس من السهل اقتحامها، وأسلوبها الذي لا يخلو من تشويق وجمالية تعبير فمفرداتها كالفراشات جميلة في كلها انسيابية في حركتها رشيقة وخفيفة لا تثقل كاهل من تحط عليه لكنها تترك أثرا عميقا حيثما مرت وأينما حطت، فيها من الفكرية الفلسفية أصناف (تقول سهيلة:«الحياة للأحياء حتى وإن ابتعدوا لابد من لقاء») وتقول: (السلام الداخلي هو بداية سلام الفرد مع الجميع هناك ثقافة واحدة هي ثقافة القوة حين أكون قويا يحترم الناس ثقافتي) ومن الوجدانية العاطفية أشكال (تقول: الورد ورد وإن طال به العمر ترويه أرواحنا حبا ويروينا). أو قولها (سأكتفي بجنوني بك، الشوق سيقتلني إن أطلقته حرا).

الرواية إذن مزيج من هذا وذاك لن تملها وأنت تقرأ سطورها لما فيها من تنويع في المعجم وتفنن في انتقاء اللفظ وصياغة العبارة،هذا المزيج المتجانس مرده دراية الكاتبة بما تكتب واستفادتها من قراءاتها ومطالعاتها لقصص وروايات سابقة (يظهر ذلك واضحا في انفتاح روايتها على كتابات أخرى ومحاورتها إياها في التصدير للفصول أو في ثنايا الرواية (غادة السمان، محمود درويش...) فضلا على عملها في الميدان الإعلامي والجمعياتي فقد استطاعت الكاتبة بفضل الأحداث اليومية التي تعرضها أن تكشف المستور عن واقع مجتمع رفضت تحديده تصريحا بل أشارت إليه تلميحا «(طين الحارة كان أقصى ما يجدونه للترفيه) إن ما يشد القارئ وهو يرتاد عالم الرواية محاولة الكاتبة الجادة في ملامسة مشاعر المرأة وأحاسيسها هي محاولة منها لإثبات الأنا ونحت الذات ووضع الأشياء في أماكنها مدفوعة برغبة جادة في الانعتاق والتحرر من شرنقة الأفكار البالية والوصاية المدمرة لتتحول إلى فراشة تحلق في سماء الإبداع وفي عالم الجمال يتراءى ذلك جليا في شخصية سهيلة تلك الفتاة «الثلاثينية التي تخرج عن دائرة حكر الفكر ومصادرته تبادر وتعلن التحدي وسط أفراد لا يعترفون بهذه المبادرات» هي كما تقول «حورية تمتلك فكرا تميز بطابع الحضارة ومواكب للعصر ومتمسك بالمبادئ وبالزمن الجميل..» ألم تعلن منذ الفصل الأول من الرواية عن المسار الذي ارتأته منهجا في الحياة بقولها «سأفعل ماهو لصالحي لن أكون كغيري، سأكون كما تريد نفسي فقط» هنا تكمن الجرأة هنا تحضر أسطورة الياسمين (من بقي شامخا لم ينحني سيعانقه البياض دوما وأما من ينحني فيسهل تغييره وتشكيله «وهنا تحضر رمزية الغلاف الخارجي ودلالة اللون البنفسجي فيه ذاك اللون الرامز للتغيير، اللون الذي يحفز الخيال ويلهم الإنسان للوصول إلى المبتغى ويشجع في الحصول على المعاني الإبداعية ذاك اللون هو عينه من يجعلك تشعر أنك فريد من نوعك ومستقل يتعاضد اللون مع العينين لامرأة حالمة ناظرة إلى الأفق بكل جرأة وثقة وكبرياء البنية والدلالة: (البناء، الشخصيات، المكان..).

الرواية في سبعة فصول، هي عود على بدء، دائرية تنفتح في فصلها الأول بالحديث عن الجدة التي «تضع مولودها وهي خلف صخرة دون صرخات ألم، تلك الجدّة التي تشهد الكائنات والبراري على قوة تحملها وصبرها، تقطع حبلها السري بيديها وتعود قبل المغيب مع المرعي وفي يدها طفل ملفوف بأمومة» هي ذاتها تحضر في الفصل الأخير من الرواية في الحوار الذي دار بين سهيلة وعبدالعزيز وهذا البناء الدائري المغلق لم يقتصر عن الحديث عن الجدة فقط بل تعداه إلى ذاك الاحتفال الذي انفتحت به الرواية، احتفال البطلة بعيد ميلادها في بداية الفصل الأول واحتفالها بزواجها في الفصل السابع والأخير، وما بين البداية والنهاية خمسة فصول أحداثها مثيرة وشخصياتها تحضر لتكشف جوانب أخرى من شخصية سهيلة البطلة التي تحضر في كل فصل من فصول الرواية يلاحقها الراوي ويقتفي أثرها ساكنة كانت أم متحركة، متكلمة أو صامتة حتى يدخل إلى باطن تفكيرها في حوارها الباطني لقد تمكنت الكاتبة إلى حد كبير من صياغة شخوص الرواية من حيث مشاعرهم المتضاربة وأساليب عيشهم التي تعتمد على ظروف الحياة التي عصفت بهم فعهود ذات الجمال الجنوبي الفائق والقوام الممشوق يتربص بها الدهر لينغص عنها حياتها فيطاردها شبح الموت أينما حلت وحيثما ولت،حيث فجعت أول الأمر في موت أخيها الصغير حامد صحبة والدتها التي كنت تحفظ الصبية القرآن في حادث ثم أصيبت في موت والدها الذي تزوج هندية سحرته ليعيش الهروب من الواقع واللامبالاة ليلقي حتفه هو الآخر بسبب إدمانه على شرب الخمر وإفراطه فيه تاركا «عهودا» في سن الخامسة عشرة مع أختها نور التي ماتت هي بدورها، هذه النوائب التي ألمت بها حولت حياتها إلى جحيم موحش ووحدة قاتلة فاختارت أن تعيش حياة بلا هدف بلا غاية إلى أن وجدوها ميتة في شقتها لا أنيس لها ولا جليس

أما «عبد العزيز» تلك الشخصية التي تؤمن كثيرا بالمبادئ والالتزام يترك خطيبته فاطمة بسبب السمعة والمبادئ محملا إلى جانب أهل القرية المسؤولية لسهيلة ليعود في الفصول الأخيرة من الرواية إلى الإعجاب بسهيلة بعد أن التقى بها في الجامعة في لندن يقول في «مونولوج درامي» أنت السبب يا فاطمة فلم تكن سهيلة، كان فضولي يسألني عنها، من أنت يا سهيلة ومن أيّ صنف من النساء، أنا خال من العيوب فما أتى بك؟ لتثيري أول عيوبي...«لقد وصل إليه عبق الياسمين» كما تقول سهيلة وجد فيها ما لم يجده عند فاطمة، وجدها مختلفة «متمكنة في التعامل مع المحيطين بها مقربة من محبيها لم يشعر بطيبة مثل طيبة قلبها ولم ير امرأة بهذه الجرأة والمبادرة، امرأة لا تلتفت من الخوف،عكس خطيبته السابقة... سهيلة رآها شيّقة المناقشة، لا تتراجع، وتحتفظ باحترام الطرف الآخر لقد تخيلها في حكايات فاطمة وأحاديثها عنها متمردة قوية متمسكة بقراراتها وتبادله هي بدورها نفس الشعور والموقف تقول وهي تحاور ذاتها رأيتك في أحاديث فاطمة، تمنيتك وسط أقدار صعبة، رباه ما الذي يحدث !! هل هو أنت أم القدر؟!

عبد العزيز الذي أحرجها وفي القرية تسبب في اتهام الناس لها تلتقيه صدفة «صدفة الممر» في الجامعة في لندن لترد اعتبارها دون أن تنحني أو تتنازل كما عهدها الجميع فيصبح عبدالعزيز سبب سعادتها وفرحها بعد أن كان له دور كبير في مأساتها.

ومن الشخصيات التي تحضر في الرواية شخصية «سعيد» ذاك الشاب الهادئ الذي يتصف بالتوازن والرصانة والتعقل يحضر الى جانب العم خليل وزوجته والصديقتين اللتين تقاسمانها الشقة ميادة وسوسن وشخصية هاشم الذي ما انفك يراقبها لينقل كل تحركاتها إلى والدها، وفاطمة صديقتها ضحية الفكر والخوف وانعدام الثقة بالذات...الكل يحضر بحضور البطلة سهيلة هذه الفتاة التي تستطيع أن تلتهم قوة الآخرين عندما ترى في نفسها الحق أو صاحبة الموقف الأقوى (مشهد اللقاء الأول مع عبدالعزيز، مشهد الاختلاف مع هاشم، مشهد إقناع الأب..) محنة سهيلة والظروف المعاكسة لها جعلت منها مقاومة أكثر لما هو آت متمردة متمسكة برأيها محافظة في الآن ذاته على الخلق الذي تربت عليه في قريتها سهيلة البطلة التي تحضر على كامل فصول الرواية ثابتة قوية صلبة لا ينكشف الجانب الضعيف فيها إلا إذا اختلت بنفسها وانفردت بذاتها تمتلك من الأنفة وعزة النفس ما يمنعها من الظهور بمظهر الضعف والانكسار،هي فتاة ثلاثينية مقبلة على الحياة مؤمنة بذاتها يسكنها طموح كبير في الارتقاء بذاتها وتأصيل وجودها وكيانها فقد تحدث عنها والدها قائلا «(ها البنت، اللي خلاني أوافق مو إلحاحها وعنادها، طموحها كنت أشوفه في عيونها، دايما أشوفها كأنها تمشي في السماء، طفولتها مفعمة بالطوح...) لقد أعلنت هذه الفتاة التحدي فشاركت في العمل السياسي تطوعا وساهمت في الأنشطة الاجتماعية لا لشيء إلا لتثبت أن المرأة قادرة على البذل والعطاء يشير السارد في الرواية إلى أنها لم تأخذ اسم جدتها فحسب بل ورثت عنها إلى جانب الاسم «سهيلة» القوة والصلابة والإصرار.

إنها امرأة تتعامل بكل ثقة بالنفس واعتداد بالذات وبكل شفافية ووضوح، ولعل ثقتها بنفس كما تقول «أبعدت عنها الكثيرين» وتقول في حوارها مع عبد العزيز: (الفتاة كالياسمين لا تتنازل عن مبادئها، فبذلك تفوح رائحة عبقها كشذى الياسمين، تواجه، تعاقب، تنتقم، دون أن تخطئ في حق أحد...) لقد استطاع الراوي ومن ورائه الكاتبة أن يقتفي أثر البطلة ليكشف عن جوانب خفية فيها فتلك الفتاة المتمردة القوية في الظاهر تنكشف في حواراتها الباطنية لتتراءى لنا ضعيفة قلقة باكية كما يصورها في حالة غضبها «لا تتمالك أعصابها تتحول إلى جبروت يضخ النار من فمه».