المنوعات

ضفاف :كيف اعتنى «هيكل » بثقافة الوجدان والعقل معا ؟

20 أبريل 2017
20 أبريل 2017

ماجدة الجندي -

القراءة طولا.. وعرضا.. أفقيا ورأسيا.. وفي مختلف الأفرع.. انفتاح كل المسام والحواس، وشحذ كل الحواس، بتلق رفيع، مقصود، وتشرب لأفرع الفن.. الثقافة من مختلف الروافد وعبر تباين الوسائط.. للعين ثقافة، والأذن، والعقل يتغذى بقراءة غير محدودة وإجمالا تتكامل منظومة، تصب في العقل والوجدان، معا، وبهما مكتملان يمكن أن نختزل علاقة الأستاذ «محمد حسنين هيكل بالثقافة. ولا أدري لماذا كلما استحضرت علاقة الأستاذ بالثقافة، راودني العنوان الذي قدم تحته أستاذنا ثروت عكاشة سلسلة أعماله «العين تسمع والأذن ترى»

ـ كم يقرأ «صحفيو اليوم» بالقياس إلى حجم ما يخطونه فوق الورق؟ ماهي علاقتهم بفعل القراءة وبفكرة المعرفة؟ ما موقع الموسيقي.. اللوحة.. القصيدة الرواية، من تلقيهم؟

إجابة الأسئلة تفسر المسافة الفاصلة بين «هيكل الجورنالجي»، الذي صار أشبه بمؤسسة معرفية مستقلة ونوعية وحجم ما خلفه من إنتاج «استراتيجي» وبين الصورة السائدة عن صحفيي اليوم. مصادر الاطلاع عند الأستاذ كانت متشعبة بحيث تستحق التأمل.. خذ على سبيل المثال علاقته بالموسيقى، وهي من العلامات البارزة إن ولجت عالمه.. كانت خريطة أبرز مهرجانات العام للموسيقى العالمية حاضرة في أجندته، بحيث لا يفوته منها الأقيم والأكثر رفعة، وبحيث أدخلها في نظام حياته باعتبارها جزءا حيويا، مؤثرا في الوجدان بنفاذ حقيقي، وإذا ما عدت لعلية القراءة التي تتوزع علي ساعات اليوم، سوف تجد أن اليوم كما يبدأ بالقراء، يختمه أيضا بالقراءة.. يمسك بقلم رصاص، ليس ليخط هامشا فقط، بل ربما ليسجل فكرة تواتيه، عن موضوع يشغل باله، ويكون خارج موضوع الكتاب الذي يقرأ فيه.. هناك حالة موصولة من التداعي، تضغط في لحظة وتكون أشبه بوحي الفنان، لحظة لا يعرف لها توقيت ولا موعد، يصطاد خلالها « الفكرة ».

المعرفة كانت عملية متجددة، وتيار نهر مستمر.. أتذكر أننا التقينا يوما وكان إلى جواره كتاب Panorama of Renaissance أو بانوراما عصر النهضة. لم يكن بالتأكيد ذهاب هيكل لمثل هذا العنوان، بغية الوصول إلى مجرد معلومات عما عرف باسم عصر النهضة، لكن المنظور العرضي الذي تعامل به الكتاب هو الذي دفع هيكل له.. لم يكن البحث عن حوادث تتالى، بل كان الربط ما بين ما جرى في الفن على سبيل المثال، في العلوم، في التجارة، في الدين والموسيقى، خلال فترة زمنية.. النظر عرضيا وملاحظة التأثير والتأثر المتبادل أمر يختلف عن تتبع مجريات الحوادث بشكل رأسي، وهو الشكل الذي تم الاعتياد عليه في مثل هذه المؤلفات.. الرؤية العرضية لا تمنح مجرد معلومة، بل تقدم «شريحة من حياة معاشة»، فيتمكن المتلقي من ملاحظة التأثير المتبادل بين مختلف افرع النشاط الإنساني.

أصحاب المكتبات في عواصم الدنيا كانت تربطهم «بالأستاذ» علاقات عمرها عقود، وعلى الأخص مكتبات «لندن».. كل عاصمة أو بلد له فيها مكتبة أثيرة.. بعض المكتبات متخصصة، جزء منها كان معنيا بالقديم النادر من الكتب، وآخر كان يلتقط «الطازج» من العناوين.. من أمتع ما سجلته مع «الأستاذ» بضع دقائق من أرق ما يمكن أن يقال عن «ملمس» الكتاب.. وتصفحه.. والاكتشاف. «كيف يبدو الكتاب» ككون «منغلق على نفسه، فإذا ما وصلت يد الأستاذ إليه، صارت أبواب تنفتح على أبواب.. كيف أمتلك القدرة علي تقييم عنوان، بخبرات متعاقبة لا تتوقف. حدثني الأستاذ عن «مستر ديفز»، واحد من أصحاب المكتبات التي كانت قريبة إلى قلب «هيكل» والتي كانت أيضا توزع كتبه، وكيف نسج الزمن بينهما نوعا من الطقوس. قال لي الأستاذ، إنه ما إن يدخل إلى المكتبة حتى يبادره ديفز بتقرير قصير سريع «كتابك الفلاني باع الرقم التالي من النسخ» أو «هؤلاء سألوا عن العناوين التالية لكتبك».. بعد هذا التقرير الأشبه بموجز الأنباء، ينسحب السيد ديفز، تاركا «الأستاذ »، ونفسه في جولة حرة بين العناوين.. ينسحب ديفيز دون أن يحاول التدخل باقتراح عنوان أو الإشارة لكتاب. كم تستغرق «الجولة الهيكلية» بين أرفف المكتبة..؟ ليس بمقدور أحد التنبؤ.. فإذا ما انتقى المراد من العناوين، وتجمعت الكتب تحت عيون السيد ديفز، هنا يعود السيد ديفز إلى الظهور، ويطرح السؤال على الأستاذ «هل رأيت العنوان الفلاني، أو هل سمعت بالكتاب الفلاني؟ في تلك اللحظة التنويرية كما في الدراما، يأتي تثمين «الأستاذ» لدور ديفز الذي يلفت نظره إلي ما قد يكون قد فاته.

على وعورة المجالات التي كتب فيها الأستاذ هيكل، سواء كانت تاريخا أو سياسة أو استراتيجيات أو حتى في مقتبل حياته، المهنية وباكورة أعماله الصحفية، لا بد وأن يحس القارئ، بحضور فكرة المعرفة الشاملة والمتأنية فيما يمكن أن نطلق عليه الأدبيات السياسية.. المقدمات.. البنية التي يختارها، الإضاءات التي تتخلل النص، حتى المفردات، وأتصور أن اللغة التي كتب بها الأستاذ أعماله، هي واحدة من التجليات اللغوية التي يمكن أن يطلق عليها «السهل الممتنع».. وهي لغة مركبة وبدت بسيطة، مركبة من حيث الأخيلة، والأبعاد التي تتخذها ومن حيث توظيفها للصور. هناك واقعة لا بد وان أرويها، لأنها عندما جرت، أربكتني شخصيا وسوف أقول السبب. عالم الاقتصاد الفرنسي «بيكتي» الذي قلب عوالم الاقتصاد قبل سنوات محدودة باقتحامه عوالم الرأسمالية بنظرية عرفت باسمه.. حين صدر كتابه الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، عن دار النشر الفرنسية «سوي»، كنت في باريس وقتها، وهالني ما أحدثه العالم الشاب وكتابه «بالمناسبة الكتاب ترجم إلى العربية قبل عام فقط» وكان من الطبيعي أن أنقل للقارئ ما أحدثه الكتاب الذي ما إن صدر حتى لوحق مؤلفه من مراكز الأبحاث وجامعات العالم وفي مقدمتها جامعة كولومبيا واستنادفورد الامريكيتان. كان من أجمل ما تلقيت من مكافآت العمر، أنني عقب ما كتبته عن بيكتي بساعات تلقيت مكالمة من الأستاذ، يسأل عن مزيد من التفاصيل حول الكتاب والكاتب وان كان قد ترجم إلي الانجليزية وعن وعن.

وفي ختام المكالمة قال لي إنه أرسل في طلب الكتاب من امازون، ثم أهداني عبارة « جود ورك».

وكانت تعني بالنسبة لي الكثير.