أفكار وآراء

الضربة العسكرية لسوريا وسياسة واشنطن في الشرق الاوسط

18 أبريل 2017
18 أبريل 2017

د.عبد العاطي محمد -

وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بضربته العسكرية في سوريا رسائل عدة لكل المعنيين بشخصه وسياسته في الشرق الأوسط كلها ذات مضمون واحد هو أن ما كان يجري في عهد سلفه أوباما شيء وما يجري في عهده هو شيء آخر مختلف تماما بكل ما يعنيه ذلك من نتائج سواء ما يتعلق بالدور الأمريكي في مواجهة أزمات المنطقة أو علاقات بلاده مع الحلفاء أو الخصوم أو المتنافسين.  

في مرحلة الاستكشاف لما يمكن أن تتجه إليه السياسة الأمريكية عقب الفوز المثير للجدل الذي حققه ترامب في الانتخابات الأمريكية كان الغموض هو سيد الموقف إلى حد التصور أنه ليست هناك سياسة واضحة، وعزز من ذلك شخصية ترامب ذاتها التي عرف عنها التغير السريع ، فضلا عن الرغبة الشديدة في تنفيذ بعض وعوده وقد أوشكت مدة المائة يوم على الانتهاء. ولكن شاءت الأحداث السورية أن توفر له ذلك، فكانت مجزرة «خان شيخون» التي قضى فيها 86 شخصا بينهم 30 طفلا بسلاح كيماوي. وبين لحظة وأخرى تحول موقف ترامب وإدارته من حال إلى حال وباتت الولايات المتحدة طرفا صريحا في الحرب السورية بعد 6 سنوات من التردد إن لم يكن النأي بالنفس عن تطوراتها الدامية.

قبل أيام قليلة كان ترامب وكبار مسؤوليه بمن فيهم وزير الخارجية والمندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة قد أعلنوا بوضوح أن الأولوية لإدارة ترامب هي القضاء على الإرهاب لا إسقاط نظام الأسد. وجاء التصريح صادما بالقطع بالنسبة لحلفاء ولأصدقاء الولايات المتحدة وللمعارضة لأنه تضمن موافقة واشنطن على بقاء الأسد ونظامه ولو إلى وقت آخر غير محدد. وفجأة وقعت المجزرة التي هزت ضمير العالم أجمع، بينما الأطراف المعنية وفي مقدمتها روسيا مشغولة تارة بوقف إطلاق النار بين قوات النظام والمعارضة وتارة أخرى بمفاوضات جنيف بحثا عن تسوية سلمية للأزمة والتي وصلت جولاتها إلى خمس أو ست جولات حيث لم يعد أحد مهتما بالكم طالما باتت عاجزة عن التقدم خطوة واحدة. هنا بدأ التحول اللافت في الموقف الأمريكي الذي ظهر مختلفا إلى حد كبير عن موقف مشابه حدث 2013 وقت إدارة أوباما وانتهى إلى حل وسط!. سارع ترامب بالإعلان أنه غير موقفه من الأسد، حيث شن هجوما حادا عليه مؤكدا أن إدارته لن تسكت على ما جرى وسترد بقوة لعقابه. تبدلت التصورات فتبدلت الأفعال، وعلى نحو سريع غير معتاد قياسا بما كان يجرى في عهد أوباما. فالإدارة الأمريكية هذه المرة قررت أن يكون لها نهج مختلف، فإنها لم تعط بالا لعدم التوصل إلى قرار من مجلس الأمن، ولا لأي رد فعل متوقع من الجانب الروسي قد يمنعها من القيام بعمل عسكري كعقاب للجهة التي رأتها واشنطن وحلفاؤها الغربيون المسؤولة عن القيام بمجزرة «خان شيخون»- حسب روايتها، وهو ما حدث بالفعل فجر الجمعة 7 أبريل عندما تم قصف قاعدة «الشعيرات» الجوية وإحداث خسائر كبيرة فيها بإطلاق صواريخ توما هوك من السفن الحربية الأمريكية في البحر المتوسط، وهي القاعدة التي رأت واشنطن أنه تم من خلالها قصف القرية السورية بأسلحة كيماوية.

الواقعة مهمة وفارقة في مسار الأزمة السورية على الصعيد العسكري لأنه لم يحدث مثيل لها على مدى السنوات الست الماضية، ولكن دلالاتها السياسية أكثر أهمية لأنها حملت رسائل واضحة لكل الأطراف التي تابعت أداء الرئيس الجديد في البيت الأبيض سواء داخليا أو إقليميا أو عالميا.

فبهذه الضربة أكد ترامب لخصومه داخل الشعب الأمريكي أنه ليس في جيب الرئيس الروسي بوتين كما كان يقال، وهي الفكرة التي أقضت مضاجعه حتى تلك اللحظة منذ أن دخل حلبة الانتخابات الأمريكية وأثرت إلى حد كبير على شعبيته ومصداقية انتخابه وبحث كثيرا عن الطرق التي تخلصه من وصمه بهذا الاتهام. قراره بتوجيه الأوامر للقوات الأمريكية بضرب قاعدة «الشعيرات» إنما هو تحد قوي لروسيا التي دأبت وسائل الإعلام الأمريكية على اتهام ترامب بأنه تابع لها لأنها - وفقا لتقديراتها - لعبت دورا في وصوله إلى البيت الأبيض عبر الاتصالات بين حملته وجهات روسية وتجسس الأخيرة على حملة منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. ولا شك أن تحقق قدر من النجاح المترتب على هذه الضربة يعيد قدرا من المصداقية لترامب على الصعيد الداخلي، ويسجل له إنجازا ما أمام الرأي العام الأمريكي قبل نهاية مدة المائة يوم يعوضه عن خسارته لمعارك أخرى.

وإقليميا بدا ترامب أمام الأطراف النافذة المحسوبة في مربع الأصدقاء أو الحلفاء الجدد قيادة أمريكية صادقة وموثوق منها برغم ما صدر منها سلفا وأثار القلق. وكثيرا ما تأملت هذه الأطراف أن تتخذ إدارة أوباما موقفا مشابها لما فعله ترامب طوال عمر الأزمة ولكنها لم تفعل تحت ذرائع عديدة لعل أهمها التحسب لرد فعل مضاد من جانب روسيا التي ألقت بكل أوراقها خلال السنوات الثلاث الأخيرة في سلة النظام السوري. لم يكن مفاجئا ان ترحب اسرائيل واطراف اقليمية صديقة لواشنطن بالضربة الامريكية بحكم موقفها مما يجري في سوريا ، وان تعبر ايران عن انزعاجها، فقد بات واضحا أكثر من أي وقت مضى أن موقف ترامب المناوئ لطهران لا يقف عند مجرد البيانات والتصريحات وإنما قد يتعداها إلى الفعل المباشر، وهو هنا موجه إلى الفناء الخلفي داخل الساحة السورية.

وعلى الصعيد الدولي هناك أكثر من رسالة هدفها استعادة الدور الأمريكي على الساحة العالمية بعد أن كان قد تراجع لصالح الدور الروسي. فمن ناحية أعادت الخطوة العسكرية الأمريكية الثقة عند الحلفاء الأوروبيين بأن إدارة ترامب لن تغرد خارج السرب الأوروبي فيما يتعلق بالملف السوري، كما كان متصورا من قبل، وإنما الجميع يصطف في خط واحد، ومن ناحية أخرى فإنها بحكم ثقلها الذي يؤهلها لقيادة الغرب تبادر وتتحدى. وبالنسبة لروسيا فالرسالة واضحة مضمونها أن الولايات المتحدة بقيادة ترامب أشهرت سلاح التحدي وقادرة على إنفاذه، وأنها تتعمد إحراج موسكو في المنطقة ككل، وأنه من الآن فصاعدا لا يجب التعامل مع واشنطن بالاستبعاد أو الإقصاء خصوصا في أية خطوات تتعلق بحل سياسي محتمل للأزمة السورية. والمعروف أنه حتى واقعة الضربة العسكرية لم يكن هناك دور واضح أو مؤثر في مسار مفاوضات جنيف ولا في مفاوضات الأستانة. على أن التطور الأكثر أهمية هو في تبدل النظرة الأمريكية لدور مجلس الأمن. فقد وضح أنه لن يظل الورقة التي تستخدمها موسكو لتوجيه مسار الأحداث في سوريا وفقا لرؤيتها هي للأزمة، وإنما هناك طريق آخر في يد واشنطن هو العمل الأحادي الجانب. يؤيدها في ذلك حلفاؤها من الدول الأوروبية نعم من الضروري اللجوء إلى الشرعية الدولية، ولكن الوضع المعقد داخل مجلس الأمن أضحى مشكلة تعوق تحقيقه لأي إنجاز. ورسالة ترامب هي ألا يستمر هذا الوضع، والبديل هو العمل الأحادي الجانب.

لقد أصبح التصعيد العسكري والسياسي هو السمة العامة للمشهد السوري بعد هذا التدخل الأمريكي المفاجئ. وبدوره يطرح ثلاث ملاحظات؛ الأولى هى التغير في تكتيكات العمل العسكري باستعادة خبرة الحرب الأمريكية على العراق 2003 عندما تم التركيز على توجيه الضربات الموجعة للمنشآت العسكرية من الخارج البعيد وغبر منظومة صواريخ توما هوك، والثانية هي تلازم العمل العسكري مع العمل الدبلوماسي بنفس القدر إن لم يكن بثقل أكبر للنوع الأول على عكس ما كان سائدا بتقديم العمل الدبلوماسي على العسكري. وقد لوحظ أن رد الفعل المباشر لروسيا هو إلغاء الاتفاق مع واشنطن حول تفادي الاشتباكات الجوية، بالإضافة لتعزيز القدرات الدفاعية الجوية السورية. ثم اعادتها بعد زيارة وزير الخارجية لموسكو الاسبوع الماضي وأما الملاحظة الثالثة فهي رغبة إدارة ترامب في التعامل بأسلوب الصفقة لحل الأزمة السورية وهي حصيلة تنازلات ومكاسب متعددة من جميع الأطراف المعنية.