شرفات

كرة القدم، المقهى ولذّة اختراق المحرّم

17 أبريل 2017
17 أبريل 2017

غالبا حين يكون الطقس غائماً، وممطراً، وأنا على طاولة المقهى أمامي كوب القهوة المخلوطة بالحليب، وثمة منفضة سجائر على رغم أني قطعت التدخين منذ 12 عاما.. عليها سجائر، تركها السابقون في الكرسي المستطيل الذي أجلس عليه، بينما يمر الغرباء في القرية أو المدينة، فرادى وجماعات يعتمرون قبعات أو من غيرها حاسري الرؤوس أمام سماء مفعَمة بالغضب والغيم... ومن مألوف المعيش اليومي أن يندفعوا في الطريق متحدثين مع بعضهم فيما يشبه الهذيان، حتى لكأن الواحد في منولوج ذاتي، وليس رفيق الدرب إلا واسطة لتفجر الهذيان واستمراره بينما الأفراد يكون هذيانهم من غير وساطة، عاريا مع الذات المتوحدة ومن غير أقنعة.. أصحاب القبعات من المارة في هذيانهم الصامت، يضيفون على المشهد جواً أكثر رومانسية وخيالاً، فكأنك في فيلم من الماضي السينمائي بالأبيض والأسود من غير وسائط إلكترونية ولا تليفونات جوالة.

في مثل هذا الجو وأنا أجلس على الطاولة لابد من كتاب ودفتر لتكتمل عناصر الحالة التي أتقمصها روحاً من الماضي قرأتها في كتاب أو شاهدتها في فيلم مليء بتأملات جمالية وفكريّة. بعض تلك الأرواح الضائعة المغتربة اغتراباً ساحقاً وجذرياً، تتلبّسني في حين من الزمن، شخصية (ميرسو) في رواية «الغريب» لألبير كامو، تلك الذات الهاربة والتي تحاول الانسلاخ من الماضي والقافلة والمجتمع والتاريخ، الذات المغتربة عن ذاتها الهائمة في مدار اللاجدوى الذي يجرف كل الأشياء والكائنات، يجرف الوجود والعلّة والمعلول..

هكذا كانت تتقمصني حالة (ميرسو) غارقا في المتاه، حتى توقظني ذكرى قتل الشاب الجزائري على شاطئ البحر بينما الشمس في عز الظهيرة والحرارة الراعبة في الصيف. وتحضرني رؤى بعض النقاد، بأن هذه الواقعة تحمل في ثناياها عنصرية مبطنة، رغم مناخ اللاجدوى والعبث الذي يطبق على الشخصية والرواية من الغلاف إلى الهاوية... وبما أني خبرت سطوة حرارة الصيف في بلادي، من فرط قسوتها (التي تستدعي القيامة بشكل مبكر) راودتني هواجس عدوانية تجاه العالم، حد الرغبة في القتل والابادة، أو الامحاء أي الاختفاء في هوة سحيقة.. تشبه ثقباً أسود تفرزه أرض الجدْب واليباب.. في ضوء هذه الخبرة برّرت (لميرسو) عدم حمل واقعة القتل إلى هاجس عنصري ولو كان غاطساً تحت طبقات اللاوعي البعيدة والصدفة جعلته جزائريا، لأن بلد وقائع الرواية هي الجزائر، ابان الاستيطان الفرنسي، وتلك صدفة محظ، ومن الممكن أن تكون ضمن سياق الرواية قريباً او من أي جنسية أخرى، وتذكرت أيضا أن التهمة الموجهة لبطل الرواية، هي بجانب القتل انعدام الاحساس والعاطفة تجاه موت أمه، وأنا ربما من أكثر الذين تأثروا بغياب الأم وموتها، بحيث انفجرتُ باكياً أمام جميع المشيعين من الأهل والبلدة، وهو ما يعتبرونه ضعفاً، إذْ على الحزين أن يحبس دموعه أو يفجرها حين يكون وحيداً، أو يدفعها إلى داخل أعماقه فقط فتطفح قسماتُه بالألم والحزن لكن من غير دموع واضحة، بل دموع خفية مثل تلك التي كنت أراها في عيون الوالدة في حياتها وخاصة الوالد حين يكون في خضمّ ملمة أو مصاب..

وهناك شخصيات لا تحصى في الكتب والروايات خاصة، في فترة من الزمن وأطواره مثل شخصية (توماس) في خفّة الكائن التي لا تحتمل.. وغيرها من الشخصيات الرمزية والواقعية المترحلة الممزّقة التي لا تستقر على حال ومكان..

ومثل شخصيات الروايات وقبلها شخصيات الملاحم والأساطير، التي كان الرواة يسردونها لنا في الطفولات الآفلة..

أما في مثل هذا الجو الغائم الممطر، والمارة الغرباء تسيل هذياناتهم بقبّعات وغيرها فشخصيات الأفلام السينمائية لا تحصى أيضا حسب أطوار العمر، الزمن والوعي، من شخصية محمود ياسين في فيلم (على من نطلق الرصاص) لكمال الشيخ الذي شاهدته في سينما ميامي حين كنت تلميذا في القاهرة تلك الشخصية المثقفة (المأزومة في وعيها حدّ التخبط والتيه والارتباك، حتى شخصية مارلون براندو في (التانجو الأخير في باريس) تلك الشخصية السينمائية الفريدة التي أبدعها خيال الإيطالي (برتلوتشي) تتضافر عبقريّة التمثيل مع الإخراج ، ذلك الفيلم الذي يغلب على أجوائه اللون الأصفر، كأنما قذف المخرج بطله خارج الزمان والمكان، تائها بين الأحياء والموتى وتائهاً حدّ الخراب والتدمير بين الأحاسيس والجنازات والانتحار الذي يحمل حتميّة النهاية المنطقيّة لمثل هذه المسارات التي ترسم علامات مصيرها القاتم..

في مثل هذه الأجواء الغائمة الممطرة الغريبة تتقمصني حالات وأرواح شتى.. أرواح بشر وطيور وحيوانات حالماً بأمواج البحر المتوسط التي تغمرني بحنانها الوحشي بعد قليل..

***

فجأة أصيب بالخَرسْ

الوجود كله أصيب بالخرس والامحاء والغياب

لا يستطيع الكتابة (ولا النطق)

لا يستطيع الكتابة لا يستطيع التعبير.

وحقل الشجر الذي يحيطهُ

انفصل عنه من غير عودة

النساء، والأطفال والذكريات،

ماذا يعمل بأثقال هذه

النهارات وهذه الليالي؟

ماذا يصنع بأيامه؟

بأيامه التي من غير عودة ..

رأى على مقربة فوّهةَ

العدم السحيق، كفرج

امرأة يغوي بالانزلاق

والسقوط

انزلق وسقط في ثقب الفضاء

الأسود المضيء كسرّة

امرأة قادمة من ضفاف الأزلِ البعيد...

***

تفكر أمام الصفحة البيضاء

وكانت الأولمبياد مقامة هذا العام في ريو دي جانيرو.. حيث مزارع الكاكاو وعمال النقابات وقراصنة البرتوكس، بلحاهم الطويلة التي تبعثرها رياح المحيط

إزاء الصفحة البيضاء

حلبة الملاكم الأعزل

الكاتب ما هو إلا هذا الملاكم

الذي يخوض النزال

مع مخلوقات وهميّة

موجودة أو لا وجود لها

النزال غير متكافئ، لكنه

يخوضه برباطة جأش

المحارب، لا تهمه الهزيمة

ولا يهمه النصر، كل شيء يتوقف

على ضربة القدر اللازب،

ليس هناك قوي ولا ضعيف

ولا محال: كل شيء في قبضة

هذه اللحظة المحتدمة بالهواجس

والانتحارات، بالهوام

وغضب المحيطات..

هناك في تلك الدّجنة

الهادرة حيث لا يعود

أحد إلى مُستقره الأول،

موت أو عُصاب موت وانهيار ..

هناك حيث الموج يبصق

أشلاءه على غُرباء مجهولين

***

هناك تحت ضلع الطوفان

تهذي الأجسام المثخنةُ في

موج أحلامها المدلهم،

هناك حيث ينام

مشردو الحروب الاجرامية

في العراء الهائج بالدم

والكوابييس

نخلة الدم التي حفرها الرسام

الإلهي في خيال الطفل الهارب

من هول المذبحة

شجرة الدم التي حملها من صحن

البيت وإلى مهب الأماكن والقارات

***

تدخل عائلة مصرية إلى المقهى، الكبرى في منتصف العمر بنتوءات انثوية واضحة، كان يراقبها من وراء الزجاج حين تذكر في الأزمنة البعيدة قراءته رواية لنجيب محفوظ نسي اسمها لكنه ما زال يحتفظ باسم المقهى الذي كان يقرأ فيه الرواية وسط البلد (الاكسلسيور) أمام السينما ومسرح ميامي، أتذكر تلك العبارة من الرواية التي ما زالت محفورة في تضاريس ذاكرة مثقلة، «... قسماتها الرقيقة الواضحة حركت ذكرياته البعيدة فتفجرت ينابيع الذكريات...» أكتب العبارة المحفوظة، وكلب أسود ضخم على ظهره ما يشبه البردعة أو «الحلس» باللهجة العُمانية، يشمشم رجليّ ويعوي عواء خافتاً بينما صاحبته المتقدمة قليلاً في السن ، تسحبه إلى ناحيتها ليواصلا الطريق إلى البيت أو الحانة ..

***

حين وصل المسافر، إلى بلد الضباب والغيوم، قادماً من بلد الحقد والغبار، متنزهاً في حدائقه المفضلة ذهابا وايابا، محدقاً في الشجر والأمطار الموشكة على النزول، أحسّ أنها تمحو تجاعيد وجهه، تضاريس الجبل التي حفرتها الأيام والسنون .. ورأى الماعز والظباء تركض في الوهاد الخضراء، كما في أيام طفولته الضاربة.. رأى الريح تحمل السفن إلى مينائها الأخير. والكلاب تحاور الغياب بنباحها الليلي الذي لا ينام..

كان الغريب مقيدا مخطوفا بنشوة الروح بين الغرباء والغيوم..

***

هذه الأطياف المكدّسة

أمام بابي

هذه الشموس

والمجرات التي توشك على الانفجار

ثقوب سوداء تبتلع الخليقة:

حروب وطغاة يحتلون الأفق

مأخوذين بنشوة الدم المُراق

كل هذا أو غيره من إلهام القائلة

في بلاد العرب..

... بلادنا...

***

غراب وحيد يجوب الحديقة

في هذا اليوم الحار

غراب متوحش وجريح

لا يبدو على وجهه سيماء النجاة

غراب وحيد

يبدو ان الطيور

في هجرة مؤقتة إلى الغابات المجاورة..

العقعق بلطخته البيضاء وذيل مرحهِ الطويل

مبتهجاً على الدوام وهو ينقر الحشرات

في تموّجات العشب

عصفور الدوري عابر الأزمنة والأكوان

السنونو بخفة الربيع يزهر في الأعماق

الحداءات في هدوء قيامة قادمة..

غراب وحيد يجوب الحديقة

من أي طوفان قدِمتَ هذه

المرة أيها الغرب؟

* جزء من كتاب قادم.