abdallah
abdallah
أعمدة

هوامش...ومتون: نسمات على أجنحة الكلمات

15 أبريل 2017
15 أبريل 2017

عبدالرزّاق الربيعي -

[email protected] -

هناك بلدان تظلّ لها صورة محفورة في ذاكرتنا الجمعيّة، رغم تبدّل الأحوال، ولبنان من هذه البلدان التي كانت زيارتها تمثّل حلما لمن تفتّح وعيه في السبعينات قبل نشوب الحرب الأهليّة، إذ كان مصيفا، يقصده السيّاح، ومركزا ثقافيّا، وساحة فنيّة، ورغم سنوات الحروب، إلا أن صورة لبنان، ظلّت ناصعة، في أحلامنا، لم تخدشها صور الدمار، لذلك كانت زيارتي الأولى لها عام2011م، كانت عودة لمكان مألوف بالنسبة لي، وليست انتقالا إلى مكان لم تطأه قدماي، هناك استحضرت قصيدة الجواهري التي كتبها عام 1947 والتي يقول في مطلعها:

ناغيت لبنانا بشعري جيلا

وظفرته لجبينه إكليلا

لُعن القصيدُ فأيّ مثر شامخ

سرعان ما استجدى الحسان، ذليلا

لهذا سعدتُ كثيرا، وأنا أتنفس نسمات لبنانيّة هبّت على «مسقط» محلّقة على أجنحة القصيدة، وهل نستطيع أن نختصر الأزمنة، وننتقل ما بين الأمكنة، ونعيش عدّة حيوات، بشيء آخر سوى الشعر؟

جرى هذا في أمسية للشاعر اللبناني د. هادي عيد عندما استضافه صالون «أثير» الثقافي في النادي الثقافي، تلك الأمسية أقيمت بالتعاون مع منتدى الشعر (بـعقلين) الواقعة في وسط الواجهة الجنوبية الغربية لسلسلة جبال لبنان، وبعيدا عن مجال تخصص الشاعر الضيف بعلوم النفس البشرية، والأديان الإلهية الثلاثة، والفكر الخفي، أو الضمير الباطن، أراد لتلك الأمسية أن تكون شعرية خالصة، فحلّق بنا في عوالم الشعر الوجداني، وافتتحها برواية عن علاقته بعمان التي تعود إلى عام 1974 حين زارها، ووقع في حبّ «هذه الجبال السمراء، واللجج البحرية الزرقاء التي تتخللها الواحات الخضراء»، كما قال، وألقى قصيدة عبّر من خلالها عن هذا الحب، الذي جعله يختلف مع صديق لبناني حول قدم مدينة(صور) لينتصر إلى صور العمانية، وقد قدّم للقصيدة بقوله «بين العمانيين واللبنانيين أكثر من صداقة تتجدّد، إنها علاقة تبدو متأصلة في الدم، لكن صديقين لنا:عماني، ولبناني، تباينت آراؤهما مؤخرا حول صور لبنان وصور عمان: من هي الأم ومن هي الابنة، فاقتحمنا مجاهل التاريخ لتحري الحقيقة:

قالوا لنا صور العريقة نورت

ثغرا جنوب الساحل اللبناني

واستعمرت قدما شواطئ بحرنا

المتوسط المتعدد الشطآن

بدءا بقرطاج ومرسيلية

غربا لأرض الشاطئ الإسباني

ومن المضيق لقادش خضعت لها

لجج المحيط بهمة الشجعان

واستعمرت جزر الشمال فعرّفت

باسم فينيقي هو «بريتاني»

وتحوّلت للشرق حيث تأسست

(صور) الشقيقة في شواطئ عمان

فأجبت:لا، (صور) العمان ترسّخت

أصلا وفصلا قبل كل كيان»

وطاف بالحضور إلى صلالة عبر قصيدة كتبها قبل خمسين سنة عندما دعي إليها لافتتاح أول فندق فيها فكتب:

«هبت تواثب في صلالة نسمة سكرى ندية

تتثاءب الهمسات فيها تنثني نشوى إليا

يشدو على يدها الصباح وتستكين لها العشية»

ثم انتقل إلى الأندلس، وغرناطة، وألقى نصوصا وجدانية بدأها بقصيدته «نظرة» التي أهداها إلى زوجته، وكانت من بين الحضور، إلى جانب قصائد أخرى، بعدها قال: سألقي عليكم قصيدة ليست من شعري، لكنّي أعتبرها قمّة الشعر العربي الوجداني، وهي عمل من افتقدهما الشعر، والإبداع الفني: منصور الرحباني، وسعيد عقل، القصيدة التي دفعت بالشاعر الكبير عمر أبو ريشة ليقول لمنصور: أعطيك ديوانا من شعري مقابل بيت من قصيدتك، وهو:

«نسيت من يده أن أستردّ يدي

طال السلام وطالت رفّة الهدب»

وأضاف: كان لي شرف تعديل إحدى كلماتها، وروى الحكاية قائلا» عندما قرأها منصور علينا، وقال الشطر الأخير:

«يا عطر فوّح على الشباك وانسكب»، قلت له «ما رأيك في يا عطر خيّم» فهزّ رأسه ورفع سبابته استحسانا، وأبدلها، ثم ألقى القصيدة:

لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب

ورحت أحضنها بالخافق التعب

أيد تلوّح من غيب وتغمرني

بالدفء والضوء،بالأقمار،بالشهب

وبعد أن انتهى من إلقائها، التفت إلى حاسوبه الشخصي، وضغط على أحد الملفات، قائلا «والآن لنستمع إليها جميعا بصوت أجمل من صوتي، صوت سفيرتنا إلى النجوم، فيروز»

وانساب صوت فيروز، ليملأ الأسماع جمالا، وسحرا، وعذوبة، ناتجة عن امتزاج الصوت، واللحن، والشعر الذي حمل معه نسائم جبال لبنان، ونقلنا إلى تلك الأماكن المضمّخة بالطيب، والجمال، في البلد الجميل الذي خاطبه الجواهري بقوله:

لبنان يا خمري وطيبي لا لامستك يد الخطوب

لبنان يا غرف الجنان الناضحات بكلّ طيب