المنوعات

التـجـربة الصيـنـيّـة فـي عـيـون النـّخـب العـربـيّـة

13 أبريل 2017
13 أبريل 2017

قوه شياو يينج (لبيبة) -

منذ تطبيقها سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، اعتُبرت تجربة الصّين في البناء والتنمية الاشتراكيّة، ذات الخصائص الصينيّة، تجربةً مُلائِمة للظروف المحلّية الصينيّة. فهي لم تُحقِّق إنجازات التنمية فحسب، بل قدَّمت أيضاً دروساً للدول الأخرى. وقد لفتت إنجازات التنمية الصينيّة هذه أنظار الكثير من الباحثين العرب، الذين طالبوا باتّخاذها نموذجاً للدراسة المُعمَّقة. فهناك مَن دَرس التجربة الصينية وناقشها من زوايا مختلفة، استناداً إلى مواقف نظرية مُتباينة، سعياً إلى استكشاف أسرار صعود الصّين المُتسارِع، وتحليل طبيعة التجربة الصينيّة، ومضمونها، وخصائصها، وأهمّيتها، واختبار مدى إمكانيّة استفادة الدول العربيّة منها في تحقيق النهضة العربيّة، ناهيك بالتغيّرات التي قد تُحدثها التجربة الصينيّة في النّظام الدولي. 

شكَّلت التجربة الصينية منذ بدايتها محطّ سِجال بين النُّخب العربية. فذهب بعضهم إلى القول إنّها تجربة رأسمالية ذات خصائص صينية، فيما رأى بعضهم الآخر أنّها براجماتية، أمّا قلّة منهم، فقد اعتبرت أنّها اشتراكيّة ذات خصائص صينيّة.

الاقتصادي والمفكّر المصري سمير أمين رأى أنّ الصين اختارت الطريق الرأسمالي، والسبب في ذلك هو أنّها تستمدّ شرعيتها بالكامل من مبادئ الثورة الصينية، ولا تستطيع التنكّر لها لأنّ ذلك التنكّر يقود إلى دمارها. ورأى أنّ «اشتراكيّة السوق» هي مجرّد طريق مختصَر لبناء الهياكل الأساسية للرأسمالية ومؤسّساتها، مع التقليل بقدر الإمكان من النزاعات والآلام المُصاحِبة للتحوّل إلى الرأسمالية.

بدوره، أكَّد الدكتور عبد العزيز حمدي أنّ الصين والغرب قدَّما رؤية متباينة لمفهوم «الرأسمالية». فمفهوم «الرأسمالية» في النصوص الصينية يشير إلى الاستغلال وتغليب مصالح الفرد على مصالح الجماعة، كما يشير إلى الفساد والانقسام الطبقي. أمّا في النصوص الغربية، فإنّ مفهوم الرأسمالية يشير إلى حرّية العمل، وفُرص الإبداع، والأخذ بزمام المبادرة، ومنْح الحوافز لأصحاب المُقاولات والمُغامرين في المجال التجاري والاقتصادي. وتوصَّل إلى استنتاجٍ مفاده أنّ الصين تحاول الدَّمج بين الاشتراكية بالمفهوم الصيني، والرأسمالية بالمفهوم الغربي، وهو ما يمكن وصفه بالرأسمالية ذات الخصائص الصينيّة.

انطلاقاً من توصيف التجربة الصينية بالبراجماتية، رأى إبراهيم الأخرس أنّ نقطة التحوّل التاريخية في الصين تمثّلت بانتهاج بعض آليات السوق، وبخاصّة عند افتتاح المُدن والمناطق الاقتصادية؛ بحيث شكَّل ذلك إيذاناً بولادة سياسة النفعية البراجماتية لدى القيادة الصينية في نهاية القرن العشرين. وقد تجلّت السياسة البراجماتية، إبّان قيادة الرئيس الصيني زيمين، في تنشيط التجارة، والاستثمار الأجنبي، والمعلوماتية، والقروض والمساعدات من الهيئات الدولية المانِحة، والعمل على نقل التكنولوجيا من الخارج، واكتساب المهارات الإدارية في الداخل. وكانت تلك الإنجازات ضرورية للارتقاء بالصين إلى مصافّ الدول المُتقدّمة.

لكن من أبرز الذين وصفوا التجربة الصينية بأنّها اشتراكية ذات خصائص صينية، السفير السوري السابق محمّد خير الوادي، الذي أكَّد على أنّ الرئيس الصيني دينج شياو بينج أثبت أنّ آليّة السوق أو آليّة التخطيط هما أسلوبان مختلفان لتنظيم الاقتصاد وتحسين قدرة الإنتاج الاقتصادي، وأنّ اقتصاد السوق قائم في المجتمع الاشتراكي أيضاً، ويُمكن، بل يجب، تطبيق اقتصاد السوق في الدولة الاشتراكية للاستفادة من مزايا الرأسمالية لكي تخدم الهدف النهائي لتحقيق النهضة الصينية.

ليس من شكّ في أنّ التباين الإيديولوجي واضحٌ في فَهم النُّخب العربية لطبيعة التجربة الصينية. فقليل منهم اعترف بطبيعة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وذهب أكثرهم إلى أنّ الاشتراكية فقدت الكثير من مبادئها أثناء مراحل الإصلاح والانفتاح. وبما أنّ اقتصاد السوق مرتبط بالرأسمالية، فقد ترسَّخ في ذهن بعض الناس أنّ إصلاح دينج شياو بينج سيقود الصّين إلى الرأسمالية. وعلى أرض الواقع، كما قال الزعيم دينج نفسه، تبيّن أنّ اقتصاد السوق ليس رأسمالياً لأنّ هناك أسواقاً في ظلّ الاشتراكية أيضاً. غير أنّ الصين تمسّكت بالطريق الاشتراكي، حيث تبقى الملكية العامّة هي الغالِبة إلى جانب تطوّر الملكيات المتنوّعة الأخرى والتوزيع في سوق العمل، وحيث يتمّ تعايُش أنواعٍ من التخصيصات، مثل تخصيص المواد على قاعدة نظام السوق، والتنظيم الرائد من جانب الدولة الصينية التي تتمسّك بالتنمية السلمية سعياً لبناء عالَم مُتناغِم. فالصين ما زالت تتمسّك بالنظرية الاشتراكية ذات الخصائص الصينيّة، وهي دولة اشتراكية بكلّ معنى الكلمة.

عن خصائص التجربة الصينيّة في عيون النُّخب العربيّة

ذهب طارق فارس إلى أنّ الإصلاح المتدرِّج سمة من أهمّ سمات التجربة الصينية. فالإصلاح في الصين بدأ برأيه من الريف إلى المدينة، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن اقتصاد التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق. وقد تمَّ، بشكل متدرِّج ومرحلي وتجريبي، توسيع نطاق الإصلاح من منطقة إلى أخرى، ومن قطاع إلى آخر. ومارست الصين عملية الإصلاح وفقاً لسياسة متدرِّجة قائمة على المراحل، ومن دون القفز فوقها.

وبرأي إبراهيم الأخرس، إنّ الحكومة القويّة هي من الخصائص المهمّة للتجربة الصينية، حيث قامت التجربة الاقتصادية الاشتراكية الصينية على أساس الاعتماد الكامل على الدولة في المجالَيْن الاقتصادي والاجتماعي. ومع تحوّل الصين نحو الإصلاح والانفتاح، بدأت مرحلة جديدة من إعادة البناء والتحوّل إلى اقتصاد السوق الاشتراكية. هكذا أضافت الصين بُعداً جديداً إلى دَور الدولة في ترشيد أدائها وتحسينه. ولمّا كان وجود الدولة ضرورياً لاستمرار الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ الدولة القوية ضرورة لا غنى عنها حتّى في ظلّ اقتصاد السوق. ولا تزال الدولة الصينية القويّة تلعب دوراً إيجابياً ونشيطاً وفعّالاً.

على جانبٍ آخر، ذهب بعض الباحثين العرب إلى أنّ الإصلاح السياسي الحذِر هو من الخصائص المهمّة للتجربة الصينية. فأشاروا إلى أنّ الإصلاحات السياسية في الصين طُبِّقت بحذر شديد لأنّ الإصلاح السياسي يتطلّب فترة انتقالية لزيادة مساحة الديمقراطية. فالدول المتخلّفة اقتصادياً غالباً ما تسودها نُظم دكتاتورية. في حين أنّ ثمّة علاقة سببيّة بين التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية. فكلّما زادت مساحة التنمية الاقتصادية زادت مساحة الديمقراطية، لأنّ النُّظم الديمقراطية لا تنشأ أو تتطوّر إلّا في المجتمعات المتقدّمة اقتصادياً.

الاعتماد على الذّات

ثمّة مَن اعتقد أنّ الاعتماد على الذّات خاصّية من أهمّ الخصائص الصينية أيضاً، حيث تتمّ السياسات الصينية في إطار رؤية تنموية شاملة، تلعب فيها الدولة دوراً قوياًّ وإيجابيّاً. لذا اعتمدت الصين سياسة الانفتاح بإرادة مستقلّة وليس تحت ضغوطٍ خارجية كما حصل في بعض الدول النامية. وتمّ توظيف الاستثمارات الأجنبية بشروط الصين، وليس بشروط الأجانب. والصين قادرة على اتّخاذ مواقف مستقلّة في القضايا الدولية، ولم تتحوّل كغيرها من الدول الآسيوية إلى دولة تابعة. الأمر الذي ساعد على تحقيق هدف الصين في التنمية.

نخلص إلى القول إنّ آراء الباحثين العرب عن خصائص التجربة الصينية كانت موضوعية بشكل أساسي، لكنّ بعضهم أهمل خصائص مهمّة في هذه التجربة، وذلك نتيجة عدم استخلاص الحقيقة من تحليل الواقع الصيني نفسه، والذي يُشير إلى التحسّن الذي أدّت إليه التجربة الصينية في مستوى معيشة الشعب الصيني في جميع مناطق سكنه.

عن أهمّية التجربة الصينيّة في عيون النُّخب العربيّة

يُجمِع غالبيّة الباحثين العرب على أنّ الصين والدول العربية تنتمي إلى دول العالَم الثالث كما تنتمي إلى الدول النامية. ولأنّ ثمّة الكثير من القضايا المُماثِلة بين هذه البلدان، فإنّ تجربة الصين بنظرهم تقدِّم نموذجاً جديداً للتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمجتمعات دول العالَم الثالث، يُمكِن للدول النامية، ولاسيّما الدول العربية، الاستفادة منها. وتتجلّى أهمّية التجربة الصينية عند الباحثين العرب في أنّها يُمكن أن تُحدِث تغيّرات مهمّة في النظام الدولي. فأكّد عدد من الباحثين العرب على أنّ تعاظُم القدرات الاستراتيجية للصين، وتنامي إمكاناتها الكونية، باتتا حقيقتَيْن راسختَيْن لا يمكن التغاضي عنهما، وذلك على المستويات الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية والثقافية كافّة. لذلك، يغدو احتمال ارتقاء الصين إلى مكانة كونية مرموقة تعيد التوازن للنظام الدولي الذي اختلّ في العقدَين الماضيَين احتمالاً وارداً بشكل كبير، بحيث قد يُحدث ذلك تبدّلات مهمّة في النّظام الدولي، بتحويله من نظام القطب الواحد إلى نظام متعدّد الأقطاب. وتبرز أهمّية التجربة الصينية أيضاً في أهمّية القوّة الصينية الناعمة التي اعتمدتها الصين لتعميق فهم العرب للتجربة الصينية. في الخلاصة، يُمكن القول إنّ الصين، وباعتمادها على جاذبية تجربتها، تحرص على مُعالَجة العديد من القضايا العالمية. وتبرز أهمّية تجربتها في أنّها ساعدت الصينيّين أوّلاً على التخلّص من الفقر، وحقَّقت ثانياً النهضة الصينية في فترة زمنية قصيرة نسبيّاً. فهذه التجربة قامت في دولة نامية يختلف نموذجها عن مثيله في الديمقراطية الغربية اختلافاً كبيراً. ويُمكن لبعض البلدان النامية، ومنها الدول العربية، الاستفادة منها، لكن مع التنبّه إلى أنّه لا يمكن نقلها إلى بلد آخر. لذا يتعيَّن على كلّ بلد إيجاد نموذج تنموي يتوافق مع ظروفه الخاصّة. أخيراً، أثبتت التجربة الصينية أهمّية دَور القوّة الصينية الناعمة في نشر القيَم الاشتراكية بالمفهوم الصيني، فضلاً عمّا قدّمته هذه التجربة النَّوعية من إضافة إلى الحضارة الإنسانية في عصر العَولمة.

*طالبة دكتوراه - جامعة الدراسات الدوليّة في شانغهاي

بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي