شرفات

حبر.. على ورق!

10 أبريل 2017
10 أبريل 2017

رؤية يكتبها: محمد بن سيف الرحبي -

قبل 30 عاما، ويا للمصادفة، في الأسبوع الأخير من فبراير، كنت أقف موظفا في أولى أيام تعرفي على معنى «وظيفة» في مطابع جريدة عمان، محملا بقراءات عابرة لحكايات مع الشعر والسرد، تذوب أمام سطوة ماكينة الشمع في قسم المونتاج، وأحاول أن ألصقها على تصاميم صفحات الجريدة أمامي، ومتصفحا لمجلات مرحلة السبعينات حيث أضع ورقة بيضاء على صفحتها لأشفّ الكلام بذات طريقة الرسم.

كنت محظوظا، كقارئ، حيث ماكينة الطباعة أمام باب القسم مباشرة، بما يمنحني فرصة قراءة ملحقين ثقافيين أسبوعيا، فور خروجهما من المطبعة، يوم أن كانت الصحيفتين العمانيتين الوحيدتين تخرجان من ذات الورق والحبر.

وكنت محظوظا، ككاتب، أن أجد فرصتي سانحة لأبدأ رحلتي مع الرسم بالكلمات كوني أعمل في مؤسسة صحفية، يمكنني الجلوس إلى محرر صفحة بريد القراء ومحرر الملحق الثقافي، والابتهاج بأنني أرى هذه الأسماء أمامي تتحرك بإنسانيتها.. كما هي حروفها تتحرك على الصفحات.

وكبرت بي الأمنيات، قليلا، حتى رأيت حروفي على صفحة «القراء» معتبرا أن الصفحات الثقافية «للكتّاب» فقط، ولعلّي أكون بينهم ذات يوم، مجرّبا على فعلي القراءة والكتابة يوميا، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، حاملا أحلامي بين يدي، شاقا عتبات السلالم الفاصلة بين دورين في المبنى القديم لدار جريدة عمان في روي، الدور الأرضي للمطابع بأقسامها الفنية، والدور الآخر للتحرير، وأقسام الإدارة.

.. وكبرت بي الأمنيات، أكثر، حمل الملحق توقيعي على قصة احتلت أكثر من صفحة، بعنوان الانتقام، وكأنني انتقمت من سنوات الترقب لأرى حروفي على صفحة جريدة، وتوالت النصوص، بعضها محسوب على القصة، وآخر على النص النثري الشعري، وهناك المقالات التي تشبه القراءات النقدية في إصدارات زملاء.

.. وكبرت بي الأمنيات، فوق ما توقعت، حين جلست على كرسي المحرر الثقافي، متأملا السنوات الفاصلة بين أول حروفي على سطح صفحة بريد القراء، وآخر الحروف اختارها لتكون ضمن ملحق ثقافي أضع لمساته التحريرية، والفنية أيضا، نظرا لاشتغالي كمخرج صحفي عدة سنوات.

سرت على درب سبقني إليه أساتذة أعترف لهم بالفضل والسبق.. تعلمت منهم، وفاتني الكثير مما لم أتعلمه، شكرا للمجموعة التي شكلت وعيي بالتجربة في تلك المرحلة: الأساتذة حمود بن سالم السيابي، سعيد بن سالم النعماني، محمد بن خلفان اليحيائي، مسعود بن محمد الحمداني، طالب بن هلال المعمري، محمد بن سليمان الحضرمي، والمرحومان محمد الصليبي وعلي بن سهيل حاردان.

كان ملحق عمان الثقافي عامرا بالأسماء والاكتشاف لمجموعات من الكتّاب في مجالات الشعر والقصة والمقال الثقافي، وكانت الحوارات صاخبة أحيانا، صدام أفكار وتوجهات.. في مرحلة شكلت فيها حرية الرأي تناقضا، حيث يمكن الاصطدام بسهولة بين المثقفين أنفسهم، لكن المستحيل أن يكون هناك صداما، ولو خفيفا، مع توجه رسمي، ولو من باب الإيحاء، حيث التأويل يسبق النوايا، ويتفوق عليها.

عشنا مرحلة كتابات الشيخ عبدالله بن علي الخليلي والأستاذ أحمد بن عبدالله الفلاحي والشيخ سليمان بن خلف الخروصي وأسماء شكلت الحالة الثقافية العمانية وهي تنطلق في حقل صحفي لم يكن متاحا في مرحلة سابقة، بهذه الكثافة، مع تطور طباعة الصحف وتحولها إلى يومية بعد أن كانت أسبوعية في 8 صفحات.

تغيير المحرر الثقافي للملحق يشكل بالنسبة لنا حدثا في تلك المرحلة، منتصف الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات، من باب التقريب، وليس الجزم، مع دخول الحداثة الكتابية إلى محك الكتابة المحلية المحسوبة على التقليدي في عمومها، وكل اسم يضاف إلى قوائم النشر في الملحق يجد شهادة ميلاده ككاتب، في فترة مثلت ولادة عشرات الأسماء الشابة والتي تقود المشهد الثقافي اليوم..

أشير هنا إلى جامعة السلطان قابوس التي مثلت حاضنة للكتابة الإبداعية مع افتتاحها عام 1986، ووجود مجموعة أدبية تتوازى مع حيوية في النادي الثقافي والمنتدى الأدبي أعطت المشهد أفقا أفضل بالحوارات واللقاءات والأمسيات.

توسع الملحق الثقافي في صفحاته، من أربع صفحات، ثم ثماني صفحات، وكانت التجربة في تدرجها تمضي إلى خطوة رائعة تبنى على مسار تجربة الملحق وهو يمضي من يد إلى أخرى، فكان «شرفات» الصحيفة الثقافية الأسبوعية التي بدأت ب16 صفحة (تابلويد) ثم وصلت إلى 24 صفحة.

عشت تجربة «شرفات» منذ العدد الأول، وبقيت أعود إليه وفق الظروف، حتى خروجي من جريدة عمان مطلع عام 2008، أستعيد أحيانا الأسماء التي أزهرت الـ«شرفات» بها، ومن بينها الشاعر الجوال محمد القيسي والمسرحي العراقي قاسم مطرود، وكلاهما غادر الحياة، إنما هناك مصابيح ما زالت مضيئة في مشهدنا الثقافي العماني جديرة بأن تعود إلى صفحات الملاحق الثقافية المحلية لترفدها.

كانت الملاحق الثقافية شهادة اعتماد للكاتب، الآن ليس بوسع جيل اليوم انتظار هذه الشهادات، حيث مواقع التواصل الاجتماعي تمثل شبكة من الانفتاح على عوالم من «الاعتمادات» التي لا يصنعها محرر ثقافي في جريدة أو مجلة.. حيث العلاقة بين الكاتب والقارئ مفتوحة دون ورق صحف، حتى وإن افتقد الاثنان صفتي الكاتب والقارئ.

مجلة «الثقافية»

في عام 2008، ومع تركي للبيت الصحفي بعد 21 عاما وجدتني في ديوان البلاط السلطاني أساهم في وضع اسس بناء آخر، كان موجودا تحت مسمى رسالة المسجد، فكانت مجلة «الثقافية» الصادرة عن مركز السلطان قابوس للثقافة والعلوم (وفق مسماه الحالي)، وتوليت رئاسة التحرير فيها أربع سنوات، وخرجت مع تركي الوظيفة الحكومية متقاعدا عام 2013.

كانت تجربة جميلة، لكنها مؤطرة بجانب فكري يركز على الديني أكثر، أنا الخارج من «شرفات» حيث الكتابة المتمردة والمشاغبة، قدر ما تسمح به قوانين النشر، لكنها كانت جريئة، وكنت صاحب القرار في شرفات، بينما «الثقافية» كنت «دخيلا» عليها، ولم يكن في طاقمها شخص متفرغ، إنما نجتمع مع قرب الصدور (الفصلي) للاشتغال على صفحاتها الـ64، ولا أملك حرية التصرف والاختيار، كما اعتدت في بلاط صاحبة الجلالة، وكما عرفت الفارق بين الخطوط الحمراء.. والرمادية!.

مشاغبة تلفزيونية

ذات حين من التجربة طلب مني تقديم برنامج تلفزيوني مدته نصف ساعة يوميا خلال إحدى دورات معرض الكتاب، لم يكن عن قناعة من الجهة الطالبة إنما بسبب موقف المذيع (المعتاد) واعتذاره.. جلست أمام الكاميرا أسائل زملائي، مذيعا، عن تجربتهم في الكتابة، وقد اعتدت على الجلوس أمام المذيع، رافضا اقتراحات سابقة لأني أجيد الصمت أمام الكلمة أكثر من إطلاق الصوت بها، وصوتي الكتابي لم يبلغ سن الرشد رغم خبرته فكيف بصوتي الصاعد من حنجرتي ضعيفا يتلمس الكلمات دون وقت لاختيار أحسنها كما أفعل والورقة مادة بياضها أمامها.

حسبت أن «المديح» من المسؤولين لما قدمته في تلك الحوارات سيحفزهم على المضي في التجربة لكني مع إيماني الدائم بأن «القول يناقض الواقع» وهذا ما بدا واضحا في تجربتي مع القناة الثقافية مع انطلاقتها مطلع عام 2016، قابلت بسبب «أسئلة» كافة مستويات المسؤولين في هيئة الإذاعة والتلفزيون، وبعد دورتين، و26 حلقة من البرنامج، توقفنا في استراحة الصيف، ولكن اختفى حتى الربيع من أجندة البرنامج.. ولم يتصل بي أحد، من تلك المستويات التي أشرت إليها سابقا.

وضعت احتمال الضعف كأبرز أسباب «المقاطعة» لكن إعادة الحلقات التي سأمتها (شخصيا) تقول لي أنه لم يكن ضعيفا.. وهو يجد هذه الإعادات، ولم يكن قويا وقد انسدّ أفق استمرارية تواصله.. إنما استضفت عشرات الأسماء من الكتاب، عمانيين وعرب، شعراء ونقاد ومسرحيين، وبعضهم من يقتنع للمرة الأولى بدخول مبنى التلفزيون لمحاورته!.

وصولا.. للتكوين

هي ليست تجربة يمكن إدراجها تحت بند الإعلام الثقافي، إنما المزاج الشخصي بدا بيّنا في تحديد هوية المجلة، حيث طغى الثقافي والفني على هذه الهوية، فاعتبرها البعض ثقافية، لسببين: صدورها من دار نشر، وأني رئيس التحرير، يضاف إليهما أن الشاعر حسن المطروشي مدير تحرير لهذا المولود الجديد وهو يطرق فضاءات الصحافة العمانية في وقت حرج.. تخرج فيه المجلات الورقية من السوق واهتمامات القراء.. ويتراجع فيه الدعم، عبر كافة المستويات بحيث يغدو إصدار مطبوعة ورقية مجازفة، فكيف بمجلة!.

.. وهي ليست تجربة بقدر ما هي حلم قديم ترسّب في الخاطر منذ أن بدأ وعيي بالمجلات، لم أحلم أن أصبح رئيس تحرير صحيفة إنما بقي هذا الحلم حاضرا لأشهده واقعا في مجلة، ربما هي صورة روز اليوسف وصباح الخير وأكتوبر والوسط والمجلة والصياد، وغيرها من مطبوعات قادمة من تلك العلاقة المتجذرة منذ الطفولة، طفولة العمر.. أو طفولة الاشتغال بالعمل الصحفي في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي.

أعيش المشروع في بداياته، أكمل عاما، ويحتاج إلى سنوات أخرى لينضج.. أو أقفز إلى حلم جديد، كعادتي معها، لا يستقر لي قرار في مكان، إلا وأبحث عن بقعة أخرى لعلي أنجح فيها بشكل أفضل مما أعايشه في ساعتي هذه.

بعد ثلاثين عاما من العلاقة «الرسمية» مع الصحافة، وعلاقته بالمشروع الثقافي، على وجه التحديد، أسائل نفسي.. هل تركت المسيرة أثرا حقيقيا.. أو كانت حبرا على.. ورق؟!