المنوعات

لماذا أحببنا لحم موتانا؟

09 أبريل 2017
09 أبريل 2017

بين توماس -

ترجمة: أحمد شافعي -

ليست الكانيبالية [أي أكل اللحم البشري] نادرة. فقد قدَّس البشر استهلاك اللحم البشري، لا لمرات قليلة، بل المرة تلو المرة، في شتى أرجاء الأرض تقريبا. وقد وجدت أدلة على ممارسة الكانيبالية في جنوب أمريكا، وفي كثير من جزر المحيط الهادي، وبين بعض قبائل سكان أمريكا الأصليين العتيقة، وفي كثير من أماكن العالم الأخرى.

وليست الكانيبالية حقيقة تاريخية بعد بها العهد. ففي ثمانينيات القرن الماضي، وثَّقت منظمة «أطباء بلا حدود» الطبية الدولية الخيرية «ولائم كانيبالية شعائرية» بين الجنود في ليبريا. ومنذ ذلك الحين، ازدادت تلك الشعيرة شيوعا. وبحلول مطلع العقد الأول من القرن الحالي، باتت الكانيبالية المقدسة ممارسة شائعة في هذا القرن شبه الفوضوي الذي يشيع فيه العنف والاغتصاب وتعاطي المخدرات. ووثِّقت الكانيبالية أيضا في الكونغو وسيراليون وأوغندا حيث اشتهر بممارستها المجنَّدون الأطفال في جيش جوزيف كوني.

في هذه المناطق التي مزقتها الحرب، غالبا ما يبدو المشاركون في الكانيبالية الشعائرية سعداء إذ يوضحون حقيقة دوافعهم. فهم ينشدون من استهلاك اللحم البشري القوة الجسدية والروحية. كما أن للممارسة نفسها قيمة دعائية واضحة أيضا، فهي تبثُّ الرعب في أنفس الأعداء. وفي جيوش الأطفال، تمثّل الكانيبالية أحد طقوس الانضمام، فهي بمثابة عتبة يتحول عندها الإنسان من طفل إلى رجل، وتبثُّ فيه شعورا بالقداسة، والقوة والأمان تحت وابل الرصاص.

وليس للكانيبالية معنى واحد كلي. بل هي بالأحرى تتكيّف لتوائم الإطار الروحي لكل ثقافة تجري ممارستها فيها. فهي لدى فراعنة مصر القدماء كانت ضامنا للخلود. ولعلها كانت ترتبط لدى الدروديين Druids بالزراعة والخصوبة. والكانيبالية لدى غير هؤلاء وأولئك أداة تقوية وتخويف وسبيل إلى تكريم عزيز ميت. لكن الكانيبالية في أغلب الحالات تتعلق بالمحرم، بالتابو taboo.

نحن غالبا ما نرى التابو في ضوء عمل محظور: فمن التابوهات أن تتزوج امرأة أخاها، أو أن يأكل شخص لحم الخنزير في بعض الثقافات. لكن كلمة «التابو» بمعنى أعمق تشير إلى النقاط التي يلتقي عندها المقدس والدنس: كالالتقاء الجنسي، وقتل النفس، والميلاد. تعتبر كثير من الثقافات أن هذه الأفعال «قذرة»، غير أنها في الوقت نفسه «مقدسة» على نحو عميق. والحق أن علماء الأنثروبولوجيا يعرَّفون التابو بأنه الفعل الذي يبلغ الاعتقاد في قداسته حدَّ تحريم القيام به في الظروف العادية، الفعل الذي يستدعي الخطر الأعظم ويستنفر القوة الكبرى. والكانيبالية من أقوى التابوهات على الإطلاق وقد يكون هذا هو السبب الأقوى لاعتبارها إحدى أقدس الشعائر في شتى أرجاء العالم وفي أعمق أغوار التاريخ.

الكانيبالية (أو الأنثروبوفيجي anthropophagy ـ وتعني حرفيا «أكل الإنسان» بحسب المصطلح الذي يفضله علماء الأنثروبولوجيا) معروفة منذ ما قبل سلالة الهوموسابينز الحديثة. ففي الكهوف التي سكنها أسلاف الإنسان العاقل ـ وهو السلف المشترك لكل من البشر المحدثين وإنسان نياندرتال ـ اكتشف علماء الأنثروبولوجيا عظاما بشرية «منزوعة اللحم» ترجع إلى ستمائة ألف سنة. كما يتبين في أقدم ما عثر عليه من عظام الهوموسابينز في إثيوبيا علامات انتزاع لحم لبشر على أيدي بشر.

***

في هذا التاريخ السحيق يصعب علينا أن نقطع بالسبب الدقيق الذي جعل أسلافنا القدامى يأكلون بعضهم بعضا. يذهب بعض علماء الأنثروبولوجيا إلى أن نقص الطعام كان عاملا بالتأكيد، بالتوازي مع حقيقة أنه لو تركت جثث الموتى للتعفن فقد تجذب ضواري آكلة للحم كالنمور والأسود. غير أنه يبدو جليا أن الكانيبالية أصبحت ـ بحلول العصر الحجري القديم ـ تحقق غرضا أعمق. فالبقايا البشرية المعثور عليها في كهف جوخ Gough’s Cave بإنجلترا وترجع إلى 15000 قبل الميلاد تحمل أدلة على الكانيبالية: إذ يبدو أن كثيرا من الجماجم استعملت أواني للشرب بما يشير إلى أن التهام الميت البشري كان ذا غرض شعائري لمن كانوا يترددون على هذا الكهف. فلم تكن تلك كانيبالية من أجل البقاء، بل هي كانيبالية من أجل ممارسة مقدسة.

ولم تدم الكانيبالية الطقوسية إلى العصور التاريخية وحسب، بل لقد بقيت حتى بعض أوائل الثقافات المتحضرة ـ لا سيما حضارة مصر القديمة. ففي عام 1881 وصل الأثري الفرنسي جاستون ماسبيرو إلى مقبرة في المقبرة المصرية الشاسعة بمنطقة سقارة قرب القاهرة، وفي نهاية سرداب طويل عثر على معرض رسومات ساطعة الألوان: ففيه مشاهد حصاد، وطقوس معبدية، ومعارك مع أعداء. وكان فيها أيضا نقوش شعائرية. وتبين أن تلك النقوش تنتمي إلى مجموعة من التعاويذ المعروفة بنصوص الأهرام، وهي كتابات واسعة متنوعة من الأدب السحري المصري الذي يظهره في شكله الكامل في بعض أقدم المقابر بما يشير إلى أن هذه التعاويذ ترجع حتما إلى عصر ما قبل الكتابة.

لعل أغرب نصوص الأهرام هي تلك التي تتعلق بالكانيبالية، فلا تقتصر على أكل البشر، بل وأكل الآلهة:

فرعونٌ هو

الحي في كل إله

هو الآكل أحشائهم ...

فرعونٌ هو الذي يأكل الناس

ويعيش على الآلهة.

هذه الترنيمة الكانيبالية هي من بقايا تراث ثقافة قديمة شعائرية تماما تمتد جذورها قديما إلى ضباب ما قبل التاريخ حيث لا كتابة أو مدنا وحيث كان أمراء الحرب في دلتا النيل يقيمون المآدب على لحم أعدائهم المهزومين. ولقد سجل الكاتب الإغريقي ديودوروس سيكولوس Diodorus Siculus ـ وهو يكتب بعد آلاف السنين في القرن الأول قبل الميلاد ـ قصة قديمة منع فيها أوزيريس المصريين من أكل لحم بعضهم بعضا. وكانت هذه القصة لا تزال تروى في الحقبة الرومانية، تذكرة بزمان كان أكل لحم البشر فيه فعلا مقدسا.

والحق أن الكانيبالية المقدسة دامت (أو عاودت الظهور) في الغرب وصولا إلى العصور الرومانية. إذ يبدو أن عشائر درودية معينة عرفت الأضحيات البشرية والكانيبالية في القرون الأولى بعد الميلاد، ولدى كثير من الكتاب الإغريق والرومان إشارات إلى قبائل عرفت الكانيبالية. إذ يذكر سان جيرومي St Jerome شعبا كانيباليا يطلق عليه الـ أتاكوتي Attacotti، ويشير هيرودوت إلى قبيلة يطلق عليها ببساطة «آكلو البشر» (أنثروبوفيجي anthropophagi).

وفي قصة لافتة، يروي هيرودوت واقعة يقرر فيها الإمبراطور الفارسي داريوس Darius ـ الذي كان حاكما على المساحة الممتدة من تركيا إلى أفغانستان الحديثتين ـ القيام بتجربة في النسبية الثقافية. يأمر الإمبراطور فيؤتى إليه في بلاطه بجماعة من الإغريق وجماعة من الكالاتيانيين ـ Callatians (وهم من الشعوب الهندية an Indic people). ويسأل الكالاتيانيين ما الذي يمكن أن يجعلهم يحرقون جثث آبائهم الموتى مثلما يفعل الإغريق. فيصاب الكالاتيانيون بالذهول من هول ما قال ويقولون إنهم لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الفعلة الشنعاء. وحينئذ يسأل داريوس الإغريق ما الذي قد يجعلهم يأكلون جثث آبائهم الموتى مثلما يفعل الكالاتيانيون، فلا يجد الإغريق ما يقولونه من فرط اشمئزازهم. وعلى الرغم من الرؤى المتناقضة التي تتبناها الثقافتان حيال ما ينبغي عمله لجثث الموتى من الأقارب، فهما تتفقان في نقطة حاسمة: هي أن جثث الأسلاف تابو ـ دنسة مقدسة في آن واحد ـ بعبورها عالم الأحياء إلى عالم الموتى.

والحق أن بعض الرهبان والنسّاك يمارسون الكانيبالية بهدف اجتياز هذا التخم على وجه التحديد. وانظروا على سبيل المثال إلى الأغوريين Aghoris ـ وهم طائفة من النساك الهندوس في الهند. من المبادئ الجوهرية في العقيدة الأغورية أن كل الأشياء في الكون سواء في القداسة ـ ومن ذلك البقايا البشرية. وبإمساكهم جثث الموتى ومعانقتهم إياها ـ وهي ممارسة تعد من أشد التابوهات في الهندوسية السائدة ـ وأكل اللحم البشري، ينشد الأغوريون اجتياز جميع التناقضات، والنفاذ بأبصارهم إلى ما وراء الطبيعة الوهمية لجميع التصنيفات البشرية، وبلوغ النيرفانا بالتوحد مع الواقع الأقصى.

ولعل أوضح فهم على الإطلاق هو الذي يستخلص من رهبان معينين في التبت كانت لديهم شعيرة حتى مطلع القرن السادس عشر تقوم على تناول «أقراص من اللحم البشري» يأخذونها من النساك البراهمة Brahmin ، وقد تركوا توثيقا مكتوبا وضخما للنظرية التي يقمون عليها ممارستهم تلك. ويتبيّن أن هذه النظرية استثنائية في تعدد طبقاتها وتعقيدها، ولكنها تصفو على أن «أقراص اللحم البشري» هذه تعبر التخم القائم بين الذات والموضوع، وتمثل مناولة شعائرية تجسد رحمة البوذات السابقة، كما تذكر الآكل نفسه بطبيعة لحمه الزائلة.

إلى أي مدى في التاريخ الإنساني يصل هذا المفهوم للكانيبالية بوصفها عبورا وتجاوزا؟ قد لا نعرف الإجابة على وجه التأكيد، ولكن في لحظة ما من لحظات تطورنا، بات من الواضح أن الكانيبالية لم تعد عملا بسيطا غايته البقاء أو السيطرة، وصارت تابو حقيقيا، ونقطة التقاء بين المقدس والدنس. لقد أدرك أسلافنا أن الجسد البشري الميت سبق أن احتوى عقلا، ووعيا تحول الجسد برحيله من شخص واعٍ إلى شيء جامد. ولم يعجز ذلك الوعي أن يترك أثرا عميقا على سكان إنجلترا في العصر الحجري القديم، وعلى أسلاف الفراعنة، وعلى الإغريق والديوريديين Druids والأغوريين ورهبان التبت، وعلى مئات المجتمعات الأخرى في شتى أرجاء العالم، وعبر كل حقبة في ماضينا وحاضرنا. وعبر جميع تبريرات أكل اللحم البشري لدى هذه الثقافات المختلفة، ثمة فكرة مركزية واحدة تتردد: نحن نأكل الموت عسى ألا نكون مثلهم.

كاتب المقال صحفي يكتب في العلوم والتاريخ والثقافة والجغرافيا، وهو مؤلف العديد من الكتب ومحرر «The Strange Continent».

نشر المقال في مجلة آيون