أفكار وآراء

السلطة .. الصورة المزهوة جانب واحد فقط !!

09 أبريل 2017
09 أبريل 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

الـ «سلطة» هذا الهيلمان المسيطر على العقول والقلوب والمشاعر، يصبح ويمسي حلما يدغدغ المشاعر، ويأخذ بتلابيب النفس حتى يسقطها من عليائها إن هي لم تعط هذا المفهوم حقه، ويرفعها الى العليين في لحظة ازدهار لا تلبث عن تتراجع ويتضاءل بريقها، فللأيام دورتها، وللزمن استحقاقاته، حيث لا بقاء للمطلق من المفاهيم، مهما امتد الزمن، فكما أعمارنا محدودة بلحظة الميلاد، وبصعقة الموت، فكذا هي متعلقاتنا بالحياة لن تخرج عن هذه الصيرورة لمختلف مناخات هذه الحياة التي تمثل الـ «سلطة» احد أركانها الأساسية، حيث تتوغل في مفاصل حياتنا المختلفة، بدءا من الأسرة، مرورا بالمجتمع، ووصولا الى التنظيم الإداري المتعدد الجوانب والمقاصد، ولذلك تحظى بهذا الاهتمام، وبهذه المتابعة، وبهذا الاحتضان الكبير من قبل الجميع، ولأنها تحتل هذه المكانة، فهي في المقابل مربكة للفعل الإنساني الى حد كبير، لمن لم يكن في مستوى الحدث، فللـ «سلطة» شروطها، وتنظيمها، وتطبيعها، وهي بالقدر الذي تعطي صاحبها كل هذا الاهتمام، تأخذ في المقابل الشيء الكثير، ولو يجيء ذلك على حساب جوانب أخرى بالغة الأهمية للإنسان، والتضحية بالكثير من جوانب الحياة الخاصة، فهي دين مسترد طالت المدة أو قصرت، وللذين لا يدركون هذه المظان تظل الـ «سلطة» بالنسبة لهم حلم جميل، ولا بد من تحقيقه، مهما كلف ذلك من مشقة، ومن تضحيات، ومن التنازل في بعض الأحيان عن مبادئ وقيم، المهم ن أن تمثل الـ «سلطة» غاية، ومتى أنزل هذا المفهوم هذه المنزلة، عندها يدق ناقوس الخطر، وعلى صاحبها الذي ينظر إليها هذه النظرة أن يكون أكثر حذرا من غيره، لأنه أوقع نفسه في شرك معقد وخطير، والأخطر من ذلك عندما يتوغل مفهوم السلطة في نفس صاحبها، من علاقة وظيفية - في المواقع الثلاثة التي ذكرناها- الى علاقة عضوية، حيث تصبح جزءا من تكوينه النفسي، هنا تأخذ المسألة منحى آخر، وهؤلاء الأكثر عرضة للوقوع في مطب الارتباك الذي نعنيه.

ينظر الى الـ «سلطة» على أنها حكمة، وهي أحد معانيها المهمة، فبغير الحكمة لن ينجح صاحبها، وستتوالى خساراته منذ الخطوات الأولى لعمر الـ «سلطة» ولقد عايشنا الكثير من الأمثلة والتجارب التي مرت أمام أعيننا، وكأنها شريط سينمائي، فما بين لحظة وضحاها انقلبت الـ «سلطة» الى لعنة، ان تجوز التسمية، ذلك لأنها فقدت الحكمة في التعامل مع جوانبها وتشعباتها المختلفة، حيث ظن صاحبها أنها مكانة قد استحقها وأنزلها منزلة التكريم وفقط، ولذلك فالذين يكسبون الزمن الطويل في التعامل مع السلطة، يقينا كسبوا رهان البقاء والتميز، لأنهم لم ينظروا الى الـ «سلطة» على أنها مكسب مادي ، ولم ينزلوها منزل الربح والخسارة، بل نظروا إليها على أنها تجربة حياة، وعلى أنها قنطرة عبور الى مفاهيم أكبر تحملها الـ «سلطة» من حيث الأمانة، والإتقان، والصدق والحكمة، والتعامل الإنساني الرشيد، بخلاف الذين وجدوا فيها التسلط، ووجدوا فيها المكاسب المادية، ووجدوا فيها تنمية الوجاهات الاجتماعية، ولذلك فقدوها في مرحلة الولادة، قبل أن يشتد عودها وتأتي بثمارها الناضجة، فكانت الخسارة أكبر.

تعمل الـ «سلطة»، وكما هو معروف على خلخلة كثير من القيم التي لدى صاحبها، إذا لم تكن هذه القيم قوية وعميقة وثابتة ، وهذه الخلخلة هي التي تفضي الى نتائج الممارسة بعد ذلك، وهي التي يقيم على أساسها صاحب الـ «سلطة» فإما أن يكسب رهان الاستحقاق، وإما أن تعثره الخطوة الأولى، وهناك من ينظر الى مجموعة من المحددات المهمة في سبيل نجاح الـ «سلطة» عند فلان من الناس، وعدم نجاحها عند فلان آخر، ومن هذه المحددات، الخبرات الحياتية التي يمر بها هذا أو ذاك، ومنها اتساع المعرفة، ومنها العمر المكتمل، ومنها البيئة التي عاش فيها، ومنها الفطرة، فهناك أناس مفطورون على القيادة، كما يقال، حيث تجد فيهم ملامح هذه القيادة منذ الأعمار الأولى في حياتهم، وكل هذه المحددات تخضع لمستويات نسبية، وعلى هذه المستويات النسبية تتمايز نتائج الـ «سلطة» عند كل واحد على حدة، والمسألة معقدة جدا، على عكس ما يعتقد البعض، وانعكاسا لهذا التعقيد ينجح هذا ولا ينجح الآخر، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

لم تكن الـ «سلطة» في يوم الأيام لغزا محيرا، يفرض أسئلة حائرة، أو يسقط أحكاما مطلقة، فهي بقدر بساطتها عند النظر إليها في مستواها الأفقي، خاصة إذا نظر إليها على أنها وسيلة، إلا أنها في المقابل لا يجب التعامل معها ببساطة، فارتباطها بالآخر، هو الذي يخرجها من سياقها البسيط، ويرفعها الى مستوى التعقيد، على اعتبار «أن رضا الناس غاية لا تدرك»، هذا في الحالات العادية، أو في القيم التقليدية، إلا انه وحلا لهذه الموازنة بين التعقيد والتبسيط، تأتي مجموعة من القيم الضابطة في العصر الحديث لتعفي صاحب الـ «سلطة» من الوقوع في موقف الرضا والسخط تجاه القائم عليها، وهي القيم المتمثلة في مجموعة النظم والقوانين والأحكام، وبالتالي فصاحب الـ «سلطة» ليس مطلوبا منه الجهد المطلق في تسيير دفة الـ «سلطة» إلا بالقدر الذي تذهب إليه مجموعة النظم والقوانين والأحكام واللوائح المنظمة لعمل الـ «سلطة» وتوظيف كل ذلك التوظيف الرشيد من غير تكلف، مع جهد ثانوي داعم مطلوب من صاحبها حتى لا يصطدم بمجموعة من المواقف الآنية، والتي عادة ما تربك مشهد الـ «سلطة» ويتم التعامل معها في حينها، ولذلك فالذين يتجاوزن محددات الـ «سلطة» باجتهاد مبالغ فيه يقومون به من أنفسهم خارج مجموعة القيم الضابطة الآنفة الذكر، حيث يذهبون الى تحقيق الغاية اكثر، كثيرا ما يتعرضون بشكل ما إلى حدوث الأخطاء، وبالتالي يتعرضون لكثير من النقد، وقد يواجهون الأطراف الأخرى بكثير من ردات الفعل غير المتوقعة، وقد يعرضون حالهم لكثير من الإحراج، في الوقت الذي لا يستدعي الأمر كل هذه الأعباء النفسية.

هناك مارد متخفٍ تحت كل سلطة، وهو المتهم لحالات الإرباك التي تتعرض لها الـ «سلطة» على امتداد المشهد الإنساني، فالسلطة هنا ليست تلك التي تنزوي تحت عباءة المؤسسة، لا أبدا، فاتساع السلطة ممتد؛ وشمولي؛ على اتساع مفهوم الحياة، فليس هناك زاوية من زوايا الحياة إلا ولها سلطة، ولذلك تتعدد السلطات وتتشعب مفاهيمها، ولكنها تحمل مفهومها أينما ذهبت، وحيثما حلت، وهذا ما يعطيها نفس البقاء، ويعطيها أهمية التمكين، يقول الروائي المعروف حيدر حيدر في كتابه (أوراق المنفى - شهادات عن أحوال زماننا) ما نصه: « من أين ينبثق هذا الطاغية الصغير، القابع في رؤوسنا سرا، عندما نتربع على موقع السلطة، سلطة البيت، أو سلطة الوظيفة، أو سلطة الأب او سلطة المدرس، أو سلطة الحزب؟» وبهذا التعدد تأتي السلطة مشروعا مهما من مشروعات الحياة الكثيرة، وتوصف بالمشروع على اعتبار أنها تحتاج الى تخطيط، والى برامج، وإلى استراتيجيات في بعض المواقف، إن لم تكن المواقف كلها، وللذين ينجزونها على أكمل وجه، هم حقا من نجحوا في مشروع الـ «سلطة» الكبير. و«الطاغية الصغير» الذي يوثقه هنا ويذهب إليه الكاتب حيدر حيدر، هو ذلك الدافع المعنوي لدى الكثيرين منا، خاصة كما يقول:« عندما نتربع على موقع السلطة» حيث ينشط اكثر بعد هذا التربع، وهو الذي يدغدغ المخيلة باستحقاقها لمجموعة من المكاسب المادية والمعنوية، وهي المكاسب التي أسقطت أناسا كثيرين، أصبحوا اليوم يعضون «أصابع الندم» على ما فرطوا في حق الأمانة التي أوكلت اليهم، وفي حق من تعاملوا معهم بجفاء، وفي حق انفسهم، وفي حق مجتمع بأكمله، وربما في حق وطن له أهميته ومكانته «وكأي تجربة لا تظهر النتيجة إلا في النهاية.