المنوعات

السياسات العامة للتنمية من منظور نقدي

06 أبريل 2017
06 أبريل 2017

د.عبد الإله بلقزيز -

ما هي صورة السياسات العامة المطبقة في ميدان التنمية في البلدان العربية اليوم، وما وجوه الخلل التي تصيب التنمية تلك، وما الأسباب التي تكمن وراء ذلك؟

إذا استثنينا البلدان العربية ذات الفوائض الـمالية الناجمة من الاقتصاد الريعي التي تتيح لدولها أو حكوماتها إنجاز مشاريع تنموية ناجحة، وبخاصة فـي مجالات البنية التحتية واقتصاد الخدمات والإنشاءات العقارية، مثلـما توفر لها قدرة شرائية مناسبة لاستيراد التكنولوجيا والسلاح وتغطية الحاجات الاستهلاكية العامة من الغذاء، وبناء الـمدارس والجامعات والـمستشفـيات ومراكز الخدمات العامة، وسن سياسة أجور وتعويضات تؤمن معدلات عالية من الدخل الفردي وتنمي القدرة الشرائية للمواطنين...، فإن الأعم الأغلب من البلاد العربية يرزح تحت وطأة عجز فـي الـموارد حاد.

تتعذر مع هذا العجز الحاد فـي الـموارد إمكانيات إطلاق مشاريع تنموية تسد الحاجات الاجتماعية لساكنة تتزايد معدلاتها الديموغرافـية بأضعاف أضعاف مواردها الـمتاحة، وتتعرض قواها العاملة للتعطيل والتهميش، وطبقاتها الدنيا للإفقار، وكفاءاتها الـمكونة والـمؤهلة لإقصاء من دوائر الإنتاج يدفع بها إلى الهجرة فـيدفع البلاد تلك، بالتبعة، إلى معاناة حال من النزف العلـمي الـمجاني يتعاظم خطبه متى أخذنا في الحسبان الموارد الهائلة التي أنفقتها الدولة والـمجتمع، طويلا، لتكوين تلك الخبرة «الـمعطلة» وتأهيلها.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن البلاد العربية تلك - على الأقل مجموعة كبيرة منها - تتعرض لـمخاطر شديدة على أمنها الوطني، تفرض عليها إنفاقا دفاعيا عاليا على تجهيز جيوشها (كما فـي حالة البلدان العربية الـمواجهة للخطر الإسرائيلي)، فإن ميزانياتها الدفاعية تلتهم قسما كبيرا من الـميزانيات الـمالية العامة للدول، الأمر الذي تتناقص معه الـموارد الـمادية الـمتاحة لعملية التنمية. وحين تنفق بلدان عربية ثلث ميزانياتها على قطاع التعليم فقط – مثل الـمغرب ومصر وتونس...- فعلى الـمرء أن يتخيل ما الذي يمكن أن يتبقى لها، بعد ذلك، من موارد تكفـي لسد حاجات اجتماعية وتنموية أخرى ضاغطة.

يسمح التوصيف السابق بنمذجة شكلية للبلدان العربية توزعها إلى دائرتين: دائرة بلدان اليسر، وهي قليلة العدد، ودائرة بلدان العسر: وهي الكثرة الكاثرة. على أن النمذجة هذه شكلية، كما نوهنا، ولا تترجم معطيات إنتاجية أو تنموية فعلية؛ إذ لـم يتولد يسر بلاد اليسار من اقتصادات قوية وحقيقية، أو من منظومة إنتاجية فعالة، وإنما مبناه على ريوع تقع خارج أي جهد بشري إنتاجي. أما بلاد العسر، فما كان عسرها ثمرة شح فـي عطاء الطبيعة - كما يزعم ساستها وإديولوجيوها - وإنما ثمرة سياسات خاطئة درجت حكوماتها على اتباعها؛ هذا من دون التنويه أن بعض تلك البلدان توفرت لديه موارد طبيعية (معادن، مياه، أراض خصبة، شواطئ وثروات بحرية...) وبشرية هائلة لـم يحسن استثمارها وإدارتها على النحو الذي تنجم منه عائدات جزيلة على عملية التنمية. وإذا كان الريع فـي بلدان الفوائض يستر مخبوء السياسات الـمتبعة فـيها، ويقلص الشعور العام بفداحة نتائجها على الـمجتمعات، فإن انعدامه فـي بلدان العسر يفضح سياسات دولها التي يفترض فـيها أن تقوم من اجتماعها الوطني مقام الريع من الاجتماع الوطني لبلدان اليسر. وتقودنا الـملاحظة هذه إلى وضع السياسات العامة الإجمالية فـي البلاد العربية موضع نقد بعيدا من معيار الـموارد غير الإنتاجية أو غير الـمتولدة من الإنتاج، لأنها موارد مساعدة، وليست أساسية، في عملية التنمية: كما تعلمنا ذلك التجارب التنموية في اليابان وكوريا الجنوبية والصين.

تنمية من دون قاعدة إنتاجية؟!

إن تجاوزنا الفوارق الشكلية بين السياسات الـمطبقة فـي الـميدان الاقتصادي - الاجتماعي، فـي البلاد العربية، من النوع الأيديولوجي (ليبرالية، اشتراكية...)، أمكن القول إن مشتركات عدة تجمع بين السياسات تلك، سواء أخذت بمبدأ التخطيط الـمركزي أم بمبدأ الـمبادرة الحرة، سواء اعتمدت سياسة التأميمات والقطاع العام أم سياسة الاستخصاص (الخصخصة، الخوصصة). وقد يكون أظهر تلك الـمشتركات أن بناء قطاع إنتاجي حقيقي يغيب جملة –أو يكاد أن يغيب- من الهندسة السياسية لعملية التنمية، فـي مقابل انصراف شبه عام نحو سياسة تقود إلى تضخيم القطاعات غير الإنتاجية (الاقتصاد الطفـيلي، اقتصاد الخدمات والسياحة والعقار، والترانزيت، والـمال والأعمال...). والحال أنه لا تنمية من دون قاعدة إنتاجية حقيقية: صناعية وزراعية وتكنولوجية، على ما تشهد بذلك تجربة قيام الاقتصادات الكبرى فـي الغرب (الأوروبي ابتداء ثم الأميركي تاليا)، كما فـي بلدان العالـم الثالث فـي الأربعين عاما الأخيرة (كوريا الجنوبية، تايوان، الصين، البرازيل، الهند، جنوب أفريقيا...). ليس من تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية من دون اقتصاد إنتاجي حقيقي يجيب الـمطالب الاجتماعية، ويحقق الوفرة كما التوازن التجاري، ويخفف من وطأة الاستيراد والاستدانة من الخارج، ويوفر فرص الشغل للقوى الـمؤهلة للعمل، ويقلص من بطالة القوى العاملة والكفاءات. الخدمات والتجارة والعقار والقطاع الـمالي والنشاط الريعي لا تبني اقتصادا داخليا مندمجا. وهي، إلى ذلك كله، عرضة لتقلبات الاقتصاد العالـمي (تقلبات أسعار النفط والغاز، مثلا؛ والأزمات المالية والنقدية الـمفاجئة على شاكلة أزمة العام 2008؛ أو إصابة الاقتصاد السياحي في مقتل نتيجة تدهور أوضاع الأمن الاجتماعي كما حصل ويحصل في تونس ومصر...)، ناهيك أنها لا توفر أجوبة ناجعة عن مشكلات البطالة وسوق العمل والحاجات الاستهلاكية الوطنية.

ولأن السياسات العامة العليا، فـي ميدان التنمية، لا تلحظ الحاجة إلى مخططات استراتيجية حقيقية لبناء اقتصاد إنتاجي، تتراكم النتائج السلبية لذلك فـي شكل سلسلة متصلة من الأزمات الـمزمنة: غياب الحد الأدنى من الأمن الاقتصادي، وفـي قلبه الأمن الغذائي، وإرهاق الاقتصاد الوطني والـمالية العامة بالنفقات، التي لا تقوى على تحملها، من أجل تغطية استيراد الحاجات الاستهلاكية من الـمنتوجات الزراعية والصناعية والتكنولوجية التي تعجز عن توفيرها محليا؛ التهميش الاجتماعي الواسع لقطاعات عريضة من الفئات الاجتماعية تقصيها السياسات تلك من دائرة الإنتاج وتستثنيها، بالتالي، من التمتع بنظم الحماية الاجتماعية، وترمي بجحافل من قواها العاملة فـي براثن التبطل؛ بطالة الكفاءات العلـمية من حملة الشهادات الجامعية العليا وتعطيلها وحرمان الـمجتمع والدولة والاقتصاد الوطني، بالتالي، من رأسمالها البشري والعلـمي؛ توفـير الأساسات والعوامل التحتية لانبثاق حركات اجتماعية احتجاجية - وأحيانا عنيفة - لفئات هامشية يسحقها الفقر والتهميش؛ حرمان الدولة من موارد مالية (جبائية) كان يمكن أن تنجم عن اتساع نطاق البنى والـمؤسسات الإنتاجية، ناهيك بآثار ذلك فـي قدرة الدولة على الصرف على قطاعات حيوية مثل الدفاع والأمن (القومي والاجتماعي) والبحث العلـمي...إلخ. إن علاقات الترابط بين الظواهر والحالات والنتائج الـمشار إليها ثابتة ومؤكدة: فقدان الأمن الاقتصادي والغذائي فقدان لجوهر الأمن القومي؛ فالأمن القومي، اليوم، لا يكون موضع صون وحماية بالجيوش والأساطيل فحسب - أو حصرا كما قد يعتقد - إنما هو مما يتأسس، في المقام الأول، بأمن اقتصادي (وغذائي استطرادا) وأمن علـمي وتقاني، لأنه بهذا وحده يأمن استقلال القرار الوطني ويستقيم. وتكفـي التجربة الـمريرة الـمتولدة من وضع بلدان عدة (عندنا وفي عالم الجنوب) تحت وصاية «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» بيانا للثمن الفادح الذي تدفعه الإرادة الوطنية واستقلال القرار فـي أي من تلك البلدان الواقعة تحت رحمة وصاية الـمؤسسات «الدولية» وديونها، والـمدعوة – تحت الوطأة تلك- إلى الإذعان الذليل لإملاءاتها «الإصلاحية» فـي نطاق ما عرف باسم سياسة «التصحيح البنيوي» (أو التقويم الهيكلي)...!

وما أغنى الـمرء عن القول إن غياب البنية الإنتاجية، أو ضعفها، وتضخم القطاعات غير الإنتاجية، والاقتصاد الطفـيلي، ونمو اقتصاد مواز غير قانوني (تجارة التهريب عبر الحدود والـمخدرات والجنس) تمثـل جميعها بيئة مناسبة، بل مثالية، لتعاظم ظواهر الفساد وهدر الـمال العام والاغتناء الفاحش، وبخاصة حينما تكون البلدان الـمصابة بهذه الأدواء غير متمتعة بنظام مؤسساتي يحاسب ويراقب - كما هي الحال فـي أكثر بلداننا العربية - أو حين لا تكون مؤسسة القضاء فـيها متمتعة بالحد الأدنى من الاستقلالية الحقيقية التي تتنزل بها سلطة فعلية تسهر على تطبيق القانون، وفتح ملفات الفساد، ومتابعة التحقيق القانوني والقضائي فيها، وحماية الحقوق الـمدنية والسياسية للـمواطنين. والـمشكلة الأم، في هذا الباب، أنه كلـما أمعن الفساد فـي مد سلطانه، في المجتمع والدولة والاقتصاد، زادت معاناة التنمية، بالتبعة، وضؤلت حظوظها، وتراجعت وتائرها. وهذه الحقيقة – وهي فـي بلدان العسر فاقعة لا تسر الناظرين - لا تستطيع وفرة الـموارد الـمالية، فـي بلاد اليسر، أن تخفـيها دائما أو طويلا؛ إذ ما إن تبدأ أزمات الفوائض الـمالية فـي الإفصاح عن نفسها - في شكل تناقص حاد - حتى يرتفع عنها كل ستار حاجب، فتتكشف لـمن كانت لديهم فـي جملة الـمخبوء. لذلك فإن أول ما تطرحه مشكلة السياسات العامة الـمطبقة فـي الـميدان الاقتصادي التنموي هو مشكلة العلاقة بين السلطة والثروة، وبما يقترن بها من مشكلات عدة تتعلق، مثلا، بمسألة سياسات توزيع الثروة وحقوق الـمواطنين كافة فـي نظام للتوزيع يكفل العدالة الاجتماعية بما هي (أي الحقوق) جزء من منظومة المواطنة في الدولة الوطنية الحديثة.

*أستاذ الفلسفة السياسية

جامعة الحسن الثاني- الـمغرب

بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي