شرفات

البهلاني: قراءة في المقصورة

03 أبريل 2017
03 أبريل 2017

سماء عيسى -

تعتبر قصيدة المقصورة للشاعر العُماني الكبير ناصر بن سالم بن عديم الرواحي، تجربة نضج شعري جاء بعد مراس طويل في ريادة شعر النهضة في عمان، ومراس طويل أيضا في الشعر الروحي،الذي ذهب الى الذرى العالية مستفيدا من تطوير تجربة أستاذيه: الشاعر جاعد بن خميس الخروصي في التأمل الروحي للكون وخالقه ومخلوقاته، والشاعر سعيد بن خلفان الخليلي في العشق الإلهي. مشكلا من كل هذا المزيج النهضوي والروحي والفلسفي، تجربة شعرية ما زالت حتى اليوم محل كشف وطرح لأسئلة الوجود وغموض الكون وغرابته.

تتكون القصيدة من ٣٩٣ بيتا.نود في هذه العجالة طرح اهم المعاني والثيمات التي طرحتها، وأصبحت بمثابة توثيق هام لتطور شاعريته، ولأثر الأحداث السياسية عليه، سواء كان في صعودها كما هو في النونية قصيدته الأشهر، أو في المرحلة السابقة عليها، أي على ظهور تجربة الامام سالم بن راشد الخروصي، وهي مرحلة احباط لازمت الشاعر لأنها حملت له الآلام استشهاد شيخه الخليلي، وآلام استشهاد الامام عزان بن قيس البوسعيدي، ودخول عُمان في مرحلة من تقبل الهزيمة والصمت والتراجع إلى الذات، واعتقد ان المقصورة وهي القصيدة التي بين يدينا تعبر بصدق وعمق عن أحداثها وآلامها.

يبدأ الشاعر قصيدته بمطلع رثائي لبلاده، حيث وعلى مدى ٢٥ بيتا، ينعى الحياة بها بشكل يوحي باندثارها الكلي. وما يحدث إذن هو إنه في الوقت نفسه يسقط حالته النفسية المتعبة جراء شوقه الى بلاده، على تصوراته المأساوية عليها. هناك إذن هذه الحالات الثلاث التي تتبادل الظهور معا ومنفردة أيضا: رثاء وطنه البعيد، شوقه الى وطنه، الدعوة الى إعادة المجد الى الوطن، وذلك عبر الاستيحاء التاريخي للأحداث.

الوطن بعيد حقا، ومن يسكنه الآن بعد هجره إلا الظباء وولد النعام والقطا والوعول

موحشة إلا كناس يعفر

ومجثم الرال واحفوص القطا

هذا ما يجعله متخيلا عودته إليها، والعودة في هذه الحالة تكون بكاء مرا، على ما آلت إليه منابت الشاعر الأولى:

فقف بِنَا عند غصون بأنها

نشاطر الورق البكاء والأسى

بحيث اهريق بقايا مهجتي

واتبع النفس إذا الدمع انقضى

الا انه يدرك كم ذلك محال، اي العودة الى المكان الاول وساكنيه. لذلك ليس أمامه إلا ان يبث لواعج عشقه إليهم، وهو البعيد عنهم، مع علمه بأن هذا الحب ربما يذهب بعقله، ولربما يصل به الى القتل، مثلما حدث لآخرين قبله. وهو يدرك ان هذه العواطف الحادة، يفترض جفافها في هذا العمر المتقدم، لان الولع بالهوى يفترض كونه في حال الصبا وليس وقت الشيب. فضلا عن انه لا أمل لنا أبدا من القول بتقبل الهلاك؛ الذي فرضته الحياة علينا في تقلباتها، وهنا المكمن العدمي في النص، فالشاعر الذي تحمل وصبر كان من المفترض ان الله سبحانه وتعالى يكافئه على صبره بالفرح والسرور؛ وليس بالألم التام والدائم، ويذهب لاحقا في الأبيات الثاني والستين والثالث والستين الى التأكيد على فرضية عدم خروج المشركين من النار أبدا، مقارنا ذلك بغدر الدهر؛ الذي من طبعه عدم انثناء حاله،بل استمرار خيانته وتقلبه

جبلة الدهر خؤون حول

ما راش في عافية الا يرى

محافظ الثبت على طباعه

حتى يحول الآل بحرا في الملا

الإحساس بالزمن في هذا النص المتوهّج، يأخذ من الشاعر حيزا يمتد الى شرحه الدخول معه في معركة، لا مفر من الشاعر الا مقارعته فيها،حتى مع علمه المسبق بهزيمته أمامه،وسلاحه هنا مثلما يشرح لاحقا هو القناعة والتمسك بالمبادئ، والمحافظة على العرض. إذن هناك مثلما يذهب الشاعر بمحركات لهذا الدهر الخؤون، فالشاعر لا يتعامل معه كمادة صلبة مجردة، فرضت عليه من الاله فرضا كقدر ثابت لا مناص منه، بل كمادة قابلة للتفاعل مع المسببا ت والنتائج، فسبب عذابه اذن تمسكه بمبادئ معارضته ضد من هم تحكموا بالمقاليد وسلطتها. وفي ذلك يقول انه غير مستعد للمماطلة والتلاعب.ويفضل تحمل العواقب على جسده وروحه عن التزلف والتذلل.

ولا اقامي طمعا مقاردا

ولست ولأجل باسواء القمى

كي لا ترى عيني خسيس موقفي

ببابه منتظرا منه الجدا

في ظلل العيش على قناعة

تكلف للعرض عن السوء غنى

ان هذا لا شرف له من حلاوة طعام يتهافت إليه كذبابة، يستبدل فيها شرفه بالدناءة والتذلل

ومطعم تهافتت ذبانه

قزم الهبيد منه احلا في اللها

ما أضيع النبل اذا تطاولت

خساسة العرق عليه بالحبا

هل كان ذلك سبب رحيله النهائي عن وطنه، وهجرته الى افريقيا؟ هل كان ذلك سبب عدم عودته الى وطنه، رغم ان رجلا بإمكانياته مرحب به من النظام السياسي السائد آنذاك؟ ذلك ما يشير إليه الشاعر في هذه الأبيات

آليت لا تعدو يدي يد امرئ

يسفلها اللؤم ويطغيها الغنى

ولا أرى وجهي ناظرا الى

وجه يحق ان يحيا بالحثى

وعيشة تمنها خساسة

أشد عندي قذرا من الوغى

ان كافة الدراسات التي قدمت عن هذا الشاعر، تناولت موقفه السياسي المعلن صارخا في قصيدته الشهيرة النونية، وما تلاها من قصائده الاستنهاضيه، التي تعبر عن مواقفه المؤيدة لتجربة الإمامين السالمي والخروصي، والتي يعدها تواصلا واحياء لتجربة ابيه الروحي العلامه الخليلي وتجربة الامام البوسعيدي، لأن التجربة تلك أحيت أمانيه وأحلامه، ما يؤكد ان المقصورة التي طغت أهمية النونية عليها، كتبت قبل حركة بعث الإمامة من جديد مع السالمي، وبعد مضي ثلاثة وأربعين عاما على انطفائها. لأن المقصورة لم تتضمن نبرة التفاؤل وصوت الروح التي تستنهض وتؤيد وتستثير الهمم لدى الناس، إنها تجربة انكفاء وحزن وأسى، سبقت احياء المد الامامي، وصوت الشاعر فيها كان ذاتيا في ألمه وحزنه واتخاذ مواقفه:

ولا أذود الحظ عن طريقه

فالسيل حظ للوهاد لا الربى

ولا أبات شاكعا من حسد

قد هيئا الله لكل ما كفى

وهي مجموعة أبيات حاسمة الموقف تمتد، حتى قوله بأنه دفاعا عن مبادئه التي ارتضاها، سيدافع حتى الموت،بل سيكون هو الموت نفسه ضد لؤم الزمن وغدره:

وإنني الحتف على لئامه

أنكا في حلوقهم من الشجا

أذود عن حريتي بحقها

وأجهد النصر لحر مبتلا

الا ان كل ذلك وككل مبدع اصيل، لا يسوق الشاعر الى نزعة ساذجة من التقاوءل والانشراح، والشعور بشروق الأمل القادم، وإلا لما تولدت لديه هذه المعاناة الصلبة،التي تجعله رغم حدة مواقفه وإغراءات السلطة، يرى في الحياة وجها قبيحا دائما ومنتصرا، خداعة مليئة بالذئاب ومصائدها، أفي هذا ثمة روح عدمية تسيطر على الشاعر، لا اعتقد ذلك مثلما يذهب البعض، اذ انه كفقيه يلجأ اخيراً الى الانتصار الالهي الذي لا بد وان يتحقق؛ان لم يكن في الدنيا الفانية ففي الجنة المنتظرة حتما، ولكن لأولئك المخلصين الطاهرين من الرياء والشرك.

على مدى الأبيات الشعرية المتوهجة من ١٣٤-١٥٤،يدخل الشاعر في حوار طويل اصيل مع نفسه، فهو في الحياة بين مد وجزر، ينتهي ذلك الى رغبته في الانكفاء والصمت والبعد عن حلبة الصراع بها، لشعوره بخسران معركة نام احد اطرافها عن المقاومة.

ارى الحياة كلها ذميمة

وخيرها وشرها الى مدى

يحبها المروء على آفاتها

وتظهر الآفة عند المنتهى

فودع الباقي منها مخلصا

بالباقيات الصالحات في اللقا

ندرك كخاتمة لهذه الإطلالة على مقصورة البهلاني، ان الشاعر كتبها وهو يعيش حالة من اليأس، تركتها التجربة السياسية في عمان عليه، خاصة الاحباط الذي تأسس ونما مع فشل تجربة الامام عزان بن قيس البوسعيدي، واستشهاده هو ومن بعده العلامة الخليلي، ودخول الامال المعلقة على تلك التجربة في القرن التاسع عشر نفقا مظلما طويلا، امتد أربعين عاما، عاش إحباطه الشاعر البهلاني، حتى ظهور شخصية الامام السالمي ومبايعته الامام سالم بن راشد الخروصي، اماما لعمان محييا بذلك الأمل من جديد، في بعث التجربة الوطنية بعمان، والتي كان الشاعر البهلاني صوتا رائدا في قصائد أهمها النونية، التي اعتبرت مانفيستو التجربة آنذاك. اذن هل لنا ان نعتبر المقصورة قصيدة رثاء لتجربة الامام البوسعيدي، وأنها كانت دعوة لتجربة الامام الخروصي، من حيث ان الشاعر خصص الجزء الأخير منها، وعلى مدى ١٩٢ بيتا، دعوة للنهوض من جديد ومواصلة الطريق، رغم اليأس الذي خيم على العمانيين بين التجربتين.

في سبيل تجاوز هذه الآلام والهزائم؛ التي يقدمها الشاعر باستفاضة شعرية، تنضح بالحزن والبكاء، يبدأ بعدها فتح طريق جديد، يراه الأمل الوحيد لإعادة الحلم بمجد غابر عاشته الأمة في القرون الماضية، معتمدا على التآلف والوحدة:

ولو تآلفتم على إيمانكم

وكانت الأوجه وجها ينتحى

ومحضت أنواره قلوبكم

فصفيت من فتنة ومن شذا

نتيجة لوحدة الصف اولا؛ وشروق نور الإيمان بالقلوب في الوقت إياه، نستطيع اعادة بعث الأمة الميتة الى الحياة.

عسى الذي قدر ما يلهو لكم

يزيل باللطف الخفي ما عنا

ويمطر الروح على ربوعكم

فينضرالروض وان كان ضوى

ذاهبا الى أبعد من ذلك في تشخيص الداء المزمن الذي عانى منه العمانيون عبر التاريخ، الحسد والبغضاء واصفا إياه في بلاغة نادرا، بالداء الذي يلطم العمانيين في وجوههم، وهو مرض يقول عنه الشاعر بانه مستشر بهم منذ قديم الزمان، يضيف بان عليهم اي العمانيين إنقاذ أنفسهم منه، لأنه المؤدي الى الهلاك، فلكي تتآمر على أمة ازرع بقلوب ابنائها البغضاء، تجاه بعضهم البعض:

دب إليكم داء من قبلكم

من حسد يسفعكم ومن قلا

فخلصوا الأنفس من أدوائها

فقل من مهما اصابته نجا

* ورقة مقدمة الى ندوة: البهلاني أشجار في القلب وطن في الروح

ندوة أقامها بيت الزبير ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب ٢٠١٧

٢٤-٢٨ فبراير ٢.١٧