شرفات

الصحافة الثقافية في عُمان: عن «العقد الذهبي» شهادة في الشخصي والعام*

03 أبريل 2017
03 أبريل 2017

محمد اليحيائي -

هذه الشهادة تركز فقط على الصحافة الثقافية المطبوعة، ولا تناقش الصحافة الثقافية في صيغها الأخرى، تحديدا المسموع والمرئي، رغم أنه كانت لي تجربة متواضعة في إعداد وتقديم برنامج ثقافي في تلفزيون سلطنة عُمان في تسعينات القرن الماضي.

هذه الشهادة تتضمن بعدين؛ شخصي وعام.

على الصعيد الشخصي، بدأتُ، كاتبا وصحفيا، في «مدرسة الصحافة الثقافية» وعلى مسار مواز مع المدرسة الأم «الصحافة». لكنني عندما بدأت حياتي المهنية كصحفي لم يكن التمييز بين الصحافتين ممكنا، لا بالنسبة لي ولا بالنسبة لوضع الصحافة عموما في تلك المرحلة، وهو حتى اليوم ليس ممكنا، بل ان التفريق غير ممكن من وجهة النظر المهنية، إلا من باب التنويع على المادة الصحفية، لأن الصحافة واحدة؛ تبدأ من الخبر وتنتهي إليه. ( وهذه نقطة جديرة بالنقاش إن شئتم لاحقا)

كنت محظوظا أن التحقت بالعمل في مجلة النهضة في سنوات مبكرة من العمر، سنوات التأسيس المعرفي الأولى.

ثم كنت محظوظا أن التحقت بالعمل في الصحيفة الأكبر حجما في البلاد، صحيفة عُمان، في سنوات الشغف والانفتاح على القراءة والمعرفة والسفر والنقاشات وإثارة الأسئلة، سنوات «التطور».

ثم كنت محظوظا أن أسهمت في التحضير للعدد الأول لأول فصلية ثقافية في عُمان «نزوى».

وفوق كل هذه الحظوظ، كان حظي الأهم والأكبر أني كنت ضمن جيل من كتاب وصحفيين شباب عايش وعاش، على صُعد ومستويات مختلفة، مرحلة خروج البلاد من زمن ودخولها زمنا آخر جديدا. جيل رأى جسر العبور، ورأى ما شاب العبور وصاحبه من تدافع وتعثر ونهوض. جيلٌ تفاعل مع تلك المرحلة، التي كتبته، والتي كتب عنها، حبا وحماسة ونقدا وملاحظات، بعضها فهم على النحو الذي كان يجب أن يفهم به النقد، وبعضها لم يفهم أو فهم على نحو خاطئ.

هذا على الصعيد الشخصي.

على الصعيد العام، أنا ممن يزعمون أن الصحافة، أو الصحافة الثقافية، أسهمت في تشكل الحركة الثقافية الجديدة، وحركة الكتابة «الحديثة» أو «الجديدة» في عُمان، وعبر فضائها برزت كثير من أسماء هذه الحركة، بعضها لا يزال فاعلا وحاضرا حتى الآن.

كانت مجلة الغدير التي كانت تصدر عن نادي المضيرب، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إحدى المبادرات المبكرة في مسار الصحافة الثقافية. أسهمت الغدير في ولادة أسماء، في الشعر والقصة والبحث والمقال، سيكون لها حضورها البارز على الساحتين العمانية والعربية في وقت لاحق.

في تلك الفترة، عقد الثمانينات، كانت الصفحات الثقافية في ثلاث مجلات أسبوعية، تحاول بدورها، التأسيس لتجربة صحافة ثقافية وحركة أدبية جديدة في البلاد. كان الزميل والصديق مبارك العامري في « العقيدة» وكان الزميل محمد القصبي في «الأسرة» وكنتُ في «النهضة».

هذه المجلات، ورغم محدودية انتشارها، أسهمت، بدرجات متفاوتة، في إثارة العديد من الأسئلة والقضايا ذات الطبيعة الإشكالية والمؤسِسة لمغامرة ثقافية- أدبية لم تكن الساحة المحلية على خبرة بها في تلك المرحلة.

في مجلة النهضة، فتحتنا وعلى مدى أشهر، ملفا حول ما اسميناه «الركود الثقافي في عُمان»، حاورتُ فيه العديد من الأسماء المعنية والمشتغلة بالشأن الثقافي والأدبي، وأثرتُ أسئلة عديدة حول قصور المؤسسات الراعية للثقافة، وضعف بناها وأدوارها المفترضة.

فيما بعد وسع الملحق الثقافي في صحيفة عمان هذا الدور وذهب به إلى مدى أكبر.

بعد توقف «الغدير» منتصف الثمانيات، لم تظهر مجلة ثقافية عُمانية متخصصة حتى السنوات الأولى لعقد التسعينيات حينما قرر الأستاذ سالم الغيلاني خوض المغامرة بإصدار مجلة «السراج» الشهرية الثقافية، لكنها لم تعمر طويلا.

وفي 1995 جاءت مجلة «نزوى» برعاية ودعم حكومي كبير وسخي ضمنا لها الحياة والاستمرار حتى الآن.

سنوات العقد الذهبي

يُمكن وصف السنوات العشر (1988- 1998) بالعقد الذهبي، سنوات الشغف وبدايات النضج. بدايات نضج الصحافة الثقافية، وبدايات نضج الحركة الأدبية الحديثة، لا سيما ما صار يُعرف بـ«تيار الحداثة» في عُمان.

المغامرات «الثقافية» الرائدة والمبكرة لمجلات الغدير والنهضة والعقيدة والأسرة مهدت لبروز ظاهرة جديدة غير مسبوقة في الصحافة اليومية في البلاد آنذاك، ظاهرة التنافس على إصدار ملاحق ثقافية، والتنافس على استقطاب الكُّتاب، من داخل البلاد ومن خارجها، والحرص على تطوير واستمرار هذه الملاحق.

في صحيفتي عُمان والوطن – بعدهما جاءت الشبيبة- كان التنافس على أشده، بل ووصل، في بعض الحالات، إلى التراشق وحرب الاستقطابات بين الملحقين الثقافيين، في الصحيفتين الأوسع انتشارا آنذاك.

كنت التحقت بالعمل في صحيفة عُمان في يناير عام 1988 – بعد رحلة أربع سنوات في «النهضة»، لأتسلم رئاسة القسم الثقافي والإشراف على ملحق عمان الثقافي. هنا لا بد لي من الاعتراف بالفضل لمن أصفه بأبي الروحي في الصحافة، المرحوم الأستاذ طالب بن سعيد المعولي، مؤسس مجلة النهضة، الرجل الذي رعى ما رآه فيّ موهبة شابة، وأتاح لي كل الفرص التي لم تكن لتتاح لشاب مثلي يتلمس طريقه بكثير من الشغف والطموح وكثير من الأخطاء والعثرات.

عام 1988، كانت أول جامعة في البلاد، « جامعة السلطان قابوس» بالكاد تعبر إلى عامها الثاني وكان الحراك « الثقافي – الأدبي الطلابي» مندفعا وحيويا، وكانت «جماعة الخليل بن أحمد للأدب العربي»، الفضاء التنظيمي الطلابي الذي برز خلاله كاتبات وكتاب شباب قادمون، بينهم من سيصبح فيما بعد بين الوجوه البارزة في الحياة الأدبية والأكاديمية والصحفية في البلاد.

دخل ملحق عُمان الثقافي، وفي سياق التنافس مع ملحق الوطن الثقافي، على خط الجامعة مستقطبا معظم كتابها الشباب، ومثيرا معهم، ومع عدد من الأكاديميين العرب العاملين في الجامعة، الكثير من القضايا والأسئلة، لاسيما، «جدلية الأصالة والمعاصرة»، «التقليد والتجديد»، «القصيدة الحديثة والقصيدة التقليدية». قضايا وأسئلة تلك المرحلة.

في هذا السياق، أسستْ العلاقة بين الصحافة الثقافية والمجتمع الأكاديمي، لثقافة وتجارب نقدية أدبية حديثة لم يكن المشهد الأدبي العماني على خبرة كبيرة بها.

كان ملحق عُمان الثقافي يتقدم ليحتل حيزا أكبر بكثير من حجمه كملحق أسبوعي تابع لصحيفة يومية. بدا يومها، في تلك الفترة، وكأنه مؤسسة قائمة بذاتها. كان نشاط الملحق يمتد من مبنى الصحيفة إلى مقاهي مسقط وبيوت ومكاتب كُتّابها ومثقفيها.

كان يوم الخميس، يوم صدور الملحق، هو اليوم الذي ينتظره كثير من الكتاب ليروا نصوصهم منشورة، وبعضهم ليرى أول نص له يُنشر في ملحق بحجم وسمعة ملحق عُمان الثقافي. كان النشر في ملحق عُمان الثقافي للكتاب الشباب، في تلك الفترة، امتيازا وبرستيجا مُستحقا.

في تلك الفترة أيضا تحول ما كان يُعرف بالنادي الجامعي إلى ما صار يُعرف النادي الثقافي، وخرج من كونه ناديا ترفيهيا اجتماعيا للطبقة الوسطى من موظفي الدولة العائدين من جامعات الخارج، ليصبح مؤسسة تُسهم في الحراك الثقافي المتنامي في البلاد ولتنفتح على كُتّاب ومثقفي البلاد جميعهم.

ظهور النادي الثقافي فتح للصحافة الثقافية أفقا آخر جديدا للتنافس والتطور ولإثارة المزيد من القضايا والأسئلة، خصوصا عبر من كان النادي يستضيفهم من أسماء بارزة في الساحة الثقافية العربية. لعلنا نتذكر الندوات المثيرة لأدونيس وفكري إباضة والطيب صالح ومحمد عابد الجابري ومحمد جابر الانصاري ومحمد الماغوط ونزار قباني وغيرهم، ثم التجربة المهمة التي قام بها النادي الثقافي منتصف التسعينات عبر إطلاقه ما عرف بمهرجان مسقط للشعر العربي ودعوته عشرات الأسماء العربية البارزة، والحالة الثقافية والمعرفية التي خلقها المهرجان عبر الحوارات بين الشعراء الضيوف والشعراء والكتاب العمانيين والتي انتقلت، بطبيعة الحال، إلى الصحافة الثقافية.

من الحظوظ الأخرى التي يجدر بي ذكرها هنا، أنه كان لي شرف الإسهام في التخطيط لمهرجان الشعر العربي آنذاك وترؤس لجنته المُنظمة.

السجالات الثقافية والإبداعية، موجات الأسئلة، الرفض والقبول، التي خرجت من قاعات النادي الثقافي وجامعة السلطان قابوس إلى الصحافة الثقافية، عمّقت من حضور ودور الصحافة الثقافية في الحياتين، الاجتماعية والثقافية. الحضور والدور اللذين أسهما في التمهيد لظهور فاعلين ثقافيين جديدين كالمنتدى الأدبي ومركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم والفنون والجمعية العمانية للفنون التشكيلية، والجمعية العمانية للكتاب والأدباء.

لعلنا أيضا نتذكر الإسهامات التي قامت بها الصحافة الثقافية في اقتراح أفكار لندوات نقدية تأسيسية في تلك المرحلة، مثل ندوتي « أسئلة النص القصصي العماني الأولى والثانية» اللتين شارك ملحق عُمان الثقافي في تنظيمهما بالاشتراك مع المنتدى الأدبي في الندوة الأولى، والنادي الثقافي في الثانية، عبر اقتراح اسماء النقاد المشاركين والنصوص التي ستعرض عليهم. شارك في الندوتين نقاد معروفون يقرأون النص القصصي العماني ويزورون البلاد لأول مرة أمثال اللبنانية يمنى العيد والسعودي سعيد السريحي والمصرية اعتدال عثمان والمغربي سعيد يقطين. كانت تانك الندوتان أول تماس مباشر بين كتاب القصة العمانيين والنقد والنقاد، وكانتا أيضا بين أبرز الاسهامات، غير التقليدية، للصحافة الثقافية في الحياة الثقافية.

هل كان هؤلاء الفاعلين الثقافيين سيظهرون لولا الحملات، الأسئلة والنقاشات التي أثارتها الصحافة الثقافية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي؟ ربما. لكن المؤكد أن تلك الحملات التي خاضتها الصحافة الثقافية للمطالبة بمجلة ثقافية متخصصة ومظلة مدنية للكتاب والأدباء وقيام الدولة بدور أكبر في دعم وتشجيع النشاط الثقافي والفني في البلاد، ساهمت في ظهور تلك المشاريع التي تحولت إلى مؤسسات.

يبقى السؤال اليوم؛ هل ما زالت الصحافة الثقافية حاضرة، فاعلة ومؤثرة، على صعيد المثقفين والكتاب وصعيد مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، كما كانت في تلك الحقبة التي تتحدث عنها شهادتي هذه؟

إن لم تكن كذلك، فهل السبب يعود إلى الصحافة كمؤسسات وكصحفيين وكمناخ مهني، أم إلى طبيعة التلقي والتحولات التي شهدتها وسائط التلقي والتواصل، من جهة، والمزاج الثقافي العالم من جهة أخرى؟

*هذه الشهادة قدمت ضمن برنامج الصالون الثقافي لمؤسسة «بيت الزبير» المصاحب للدورة الـ22 لمعرض مسقط الدولي للكتاب. 24 فبراير 2017