أفكار وآراء

البنى الأساسية .. ما هي استحقاقاتها؟

02 أبريل 2017
02 أبريل 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تقتضي الاستراتيجيات، عند فهم البعض، إيجاد صفوف خلفية من القيادات الإدارية في المؤسسات، أو اعتماد فكرة تدوير المسؤوليات، كما هو الحال في المؤسسات الأكاديمية، ولعل من يرى ضرورة ذلك ينأى ببرامج التنمية عن الوقوع في مستنقع تضارب المصالح، وهذا كثيرا ما يحدث،

تضع التنمية بمفهومها العام الشامل - السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية - في أي بلد يشهد نهضة متصدرة للمشهد الإنساني ثقلها وأهميتها واستحقاقاتها كأولية مطلقة للذهاب أبدا الى تحقيق كل ما من شأنه أن يعزز الأمن الاجتماعي والثقافي، والنمو الحضري والاقتصادي، في علاقات من التكامل، والتآزر، والتعاون، لا ينفك احد منها عن الآخر، وطبعا يأتي الأمن بمفهومه الشامل ليرخي سدوله على كل هذه المعززات التنموية وإتاحة المجال لها للبقاء أكثر والنمو أكثر، والتمكين أكثر وأكثر، وبالتالي متى تكاملت الجهود في إيجاد وحدة موضوعية لهذه الصور في مجموعها العام، يمكن بذلك الحكم على متانة الدولة وقوتها وهيبتها، ومتى أخفق أي معزز من هذه المعززات كلها لظرف أو لآخر، انعكس ذلك بصورة مباشرة على الوجه العام، وأربك المنظومة المسيرة لهذا التوجه، وإن حدث ذلك فعلى جميع القوى الفاعلة في التنمية أن تعلن حالة الطوارئ، وإعادة الجانح الى طريقه الصحيح دون أي تلكؤ، فالهدف بناء دولة بكل مقوماتها، وليس فقط بأنصاف الحلول، والغاية الأكبر البقاء في الصدارة، فالأوطان لا تراهن إلا على تصدرها للمشهد الإنساني دائما.

ينظر الى تبني الاستراتيجيات على أنها المحور الأساسي في أي مشروع تنموي، وعلى أن التنمية تتكامل في شموليتها، لأنه بخلاف ذلك ينظر أيضا الى أن هناك أجزاء متناثرة، فالخطط القصيرة التي تعبر عنها برامج محدودة تظل فقيرة في الرؤية، وفي تحقيق الأهداف على المدى البعيد، وموقوتة بزمنها فقط، وهذا لا يخدم التنمية في شموليتها الممتدة لسنوات طويلة، وإنما كمحطات علاج آنية، اليوم علاج هذا الجزء، وغدا ذلك الجزء، وبالتالي تشتيت القوى الفاعلة في البناء، وهدر للمال العام، ولنضرب لذلك مثلا: مسألة الطرق داخل المدن، ومعروف عن المدن على أنها من أكثر الأماكن ازدحاما على مستوى العالم، ولذلك فعندما يأتي التخطيط ليعالج جزءا محدودا من مشكلة هذه الطرق، غدا تظهر مشكلة أخرى في مكان آخر على مستوى نفس المدينة بعد ذلك ، ولا يستبعد أبدا أن تعود نفس المشكلة ، وربما في نفس المكان بعد فترة من الزمن، فيضيع الجهد الذي بذل في أماكن مختلفة، وفي نفس المكان أيضا. وعندما يتم التفكير حينها فقط في حل جذري كان له أن يكون ، لو كانت هناك استراتيجية بعيدة المدى لذات المشكلة في المدن الكبرى والمدن الصغرى على حد سواء، لما وقع المخطط في مثل هذا مأزق اليوم؛ وغدا سوف قد ينتقل من مكان الى آخر .

وما يقاس على قضية الطرق، يقاس على قضايا أخرى في ذات الوطن، ومن هنا تقتضي الضرورة بناء استراتيجيات متكاملة وبعيدة المدى؛ ومنها يمكن أن تنبثق خطط قصيرة المدى على أن تحمل روح ونفس الاستراتيجية، ولا تشق عنها لمعالجة قضية آنية تخرج عن سياق الاستراتيجية الموضوعة.

و هنا يأتي دور التخطيط الفرعي او الجزئي ، والمتابعة والمحاسبة ، استكمالا لمتطلبات الاستراتيجيات بعيدة المدى، فالفترات الزمنية المقترحة لعمر الاستراتيجية، يقينا تتخللها خطط مرحلية او جزئية ، يجب أن تكون فاعلة، لتتقصى كل المعضلات التي تسعى الى علاجها الاستراتيجية الأم، وهذه تحتاج الى عمل مستمر، وقد يكون مضنيا، لأن الاستمرار معناه المتابعة، والمتابعة معناها المحاسبة، والمحاسبة تؤول الى تحقيق ما تسعى الاستراتيجية الى تحقيقه في الفترة الزمنية المقترحة، أما اذا تعثر التخطيط، ولم تتم المتابعة، والمحاسبة، لخط سير الاستراتيجية، فإن المنظومة كلها قد تصاب بالخلل، ومتى تكاثرت نقاط هذا الخلل، سوف تتأثر حركة التنمية بكل استراتيجياتها وبرامجها ، وبما يؤدي الى الترهل في الأداء، والتقصير في النتائج، وعدم تحقيق التنمية الذاهبة الى سعادة الإنسان ورفاهيته، وفي المقابل سوف تكثر الانتقادات، وقد تكال التهم - في غير موضعها - ويظهر شعور عام لا يعبر عن رضا، بقدر ما يولد في النفس الإحباط، وعدم المساهمة الجادة في التنمية، والأخطر في ذلك عندما لا يقابله ردة فعل صادقة تستدرك هذه الخلل وتعالجه في أقرب فرصة ممكنة، عندها تهرم التنمية، وتتكئ على عكاز.

تعبر شمولية الاستراتيجيات، كما هو معروف، الى لملمة كل أطراف القضية المعنية بهذه الاستراتيجية ، ومن ذلك التوزيع الشامل على امتداد ربوع الوطن الواحد، وليس فقط لجزئيات الوطن، فهذه الأخيرة تندرج تحت مفهوم الخطط المرحلية الجزئية، لأن توزيع البرامج الخدمية التي تتضمنها الاستراتيجيات؛ والمنبثقة عنها خطط مرحلية؛ تسعى الى إيجاد عدالة التوزيع على مستوى الوطن، فالفهم العام أن الوطن جزء لا يتجزأ، صغر هذا الجزء او كبر، ضم اكبر عدد من السكان، او أقل عدد، احتل مكان استراتيجي مهم، او لم يحتل، فالمواطنون سواسية في العدالة الاجتماعية، فهم الموكول اليهم المحافظة على إنجازات التنمية، وهم الموكول عليهم المساهمة الجادة والمباشرة في تنفيذ برامج التنمية، وهذه المساهمة تأتي فرض عين، حيث لا يعذر أي مواطن في أي بقعة من جغرافية الوطن عن المحافظة على إنجازات التنمية، والمساهمة في برامجها وخططها الإنمائية، ولا اتحدث هنا عن مقدار المقابل (الحق) بقدر ما أميل الى البذل (الواجب) لأنه متى تحقق الواجب بكامل البذل، تحقق الحق بكامل العطاء، فالوطن لن ينسى أبناءه المخلصين، ومن هنا تظهر حقيقة المواطن المساهم المبادر، لا الموطن الاتكالي المخدوم، فعرق الجبين الذي يتصبب من الجباه المعطاءة على تراب الوطن، هو فلج هذا الوطن وآباره الخصبة، والأوطان لا تقوم إلا بمثل هذه الأنفس التي يتصبب عرقها عطاء ونقاء وصدقا على امتداد الأرض الطيبة .

تقتضي الاستراتيجيات،عند فهم البعض، إيجاد صفوف خلفية من القيادات الإدارية في المؤسسات، أو اعتماد فكرة تدوير المسؤوليات، كما هو الحال في المؤسسات الأكاديمية، ولعل من يرى ضرورة ذلك ينأى ببرامج التنمية عن الوقوع في مستنقع تضارب المصالح، وهذا كثيرا ما يحدث، وعندما يحدث فإنه، ليس فقط يؤخر تنفيذ بعض برامج التنمية؛ ويصيبها بالتعثر ، ولكن يولد مشكلات جمة مع مرور الأيام، قد تأخذ صور: هدر المال العام، او تضارب المصالح، او العمل على تحقيق المكسب الشخصي المطلق، وأكثرها ضررا التحايل على القانون. وعندما تريد القيادة القضاء على هذه البيئة الضارة في مشروع الوطن، قد لا يجد صفا ثانيا من القيادات المؤهلة التي يمكنها ان تقود السفينة الى بر الأمان بكل يسر، ولذلك تلجأ بعض التجارب الدولية في مفهوم التنمية الى الرجوع الى الثكنة العسكرية، لأنها تظل الأقرب الى الاطمئنان ليوكل اليها الأمر، وذلك لاعتبارات كثيرة يأتي في مقدمتها الولاء المطلق، والاستعداد التام، وغير ذلك من المحفزات الذاتية في الشخصية العسكرية عموما، كما هو معروف، وهذه الحل الاستدراكي، إن تجوز التسمية، لا يجب أن يمكث كثيرا في أي مشروع تنموي، لأن مقتضيات التنمية في مجالها المدني بها تفاصيل كثيرة تحتاج أكثر الى المتخضب بالتجربة التنموية في مجالها المدني، من هنا يقتضي بناء الاستراتيجيات أيضا إيجاد صف أو أكثر من القيادات التي يمكن ان تتولى تنفيذ برامج التنمية وتواصل السير في أي ظرف كان، وإلا تظل المراوحة ذاتها، فالتنفيذ يحتاج الى قيادات قادرة على العطاء في أي موقع، وفي أي ظرف، وهذا ما يشرع أو يبرر أمام صاحب القرار الى الاعتماد على الأجيال المتلاحقة من الشباب في صنع القرار الوطني وهو ما يذهب الى مفهوم الـ «تمكين»، لأن مجسات التنمية، وهي كثيرة تحتاج في كثير من الأحيان الى عقول شابة لاستنباطها من مكامنها، خاصة اليوم في ظل التطور التقني الهائل، وفي ظل ثورة الاتصالات غير المسبوقة مطلقا، وفي ظل أن كثيرا من الدول النامية تمثل فيها نسبة القوى العاملة الشابة نسبة كبيرة قد تصل الى النصف في بعض الأحيان، فقضايا عصر التنمية تحتاج الى عقول قادرة على التجدد والتفاعل مع التطورات المتسارعة ، وكما يقال دائما: «لكل زمن دولة ورجال».