أفكار وآراء

المكاسب والخسائر في الخلافات بين تركيا وأوروبا!

02 أبريل 2017
02 أبريل 2017

د. عبد العاطى محمد -

على مدى أكثر من عامين تصاعدت الخلافات بين تركيا وعدة دول أوروبية بفعل مشكلات شتى مثل اللاجئين، والانقلاب الفاشل، والأزمة السورية.

ومع أن الطرفين الأوروبي والتركي استطاعا في مناسبات عدة احتواء ما طرأ من تداعيات لهذه المشكلات، إلا أن جذور الخلافات حولها ظلت قائمة.

وأما الطبعة الأخيرة من الخلافات المرتبطة بتأثير التطورات السياسية في كل منهما، فقد فاقت حدة ما سبقها، حيث لم تجد محاولات الاحتواء نفعا هذه المرة، مما كشف أن أصل الداء يكمن في المخاطر العامة التي تهدد المستقبل السياسي للقارة العجوز.

بداية المشكلة التي فجرت الأزمة الأخيرة جاءت مع منع هولندا وزيرة شؤون الأسرة التركية فاطمة بتول صايان من الوصول إلى قنصلية بلدها في مدينة نوتردام للحديث مع أبناء بلدها عن أهمية التصويت لصالح التعديلات الدستورية في الاستفتاء المقرر إجراؤه في شهر أبريل المقبل. وقالت تركيا إن السلطات الهولندية لم تكتف بالمنع، وإنما أساءت معاملة الوزيرة، وأعطت تصريحا لقوات الأمن الهولندية باستخدام الرصاص الحي في حالة الإصرار على عقد اللقاء!. وتزامن مع ذلك منع هولندا التصريح لهبوط طائرة وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو للقيام بنفس المهمة. وتصرفت ألمانيا نفس التصرف مع الوزير التركي. وتضامنت دول أوروبية أخرى مثل النمسا وسويسرا مع الموقفين الهولندي والألماني. فقط فرنسا هي التي سمحت بلقاء الوزير التركي مع الجالية التركية في بلادها.

وتحججت الدول الرافضة بتخوفاتها الأمنية من التجمعات السياسية التركية على أراضيها لهذا الغرض أي التعبئة التركية للاستفتاء، وبأن قوانينها لا تسمح بعقد هكذا فعاليات من طرف خارجي على أراضيها. وفي نفس السياق تعللت هذه الدول بأنها تمر بظروف سياسية داخلية حساسة وغير مستقرة نتيجة تصاعد نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة التي يمكن أن تجد في المطالب التركية مبررا يعزز قوتها ويرجح فرص نجاحها في أكثر من مناسبة انتخابية عامة سواء في هولندا أو فرنسا أو ألمانيا، خصوصا أنه من المعروف جيدا الخطاب اليميني المتطرف المعادي للإسلام والمسلمين من ناحية، وللمهاجرين عموما من ناحية أخرى .

ووفقا لما ذكرته وسائل إعلامية عديدة فإن هذه الدول (ما عدا فرنسا) كانت قد أبلغت منذ فترة تحفظاتها وموقفها الرافض للمطلب التركي، ومن ثم ما كان يجب على أنقرة أن تقدم على خطوة كهذه، وطالما أصرت عليها فعليها أن تتحمل النتائج وهو ما حدث برفض تحركات الدبلوماسيين الأتراك.

ولكن أنقرة لم تكن مقتنعة بالحجج الأوروبية، وقالت على لسان كبار مسؤوليها أنه لا مبرر للتخوفات الأمنية على الإطلاق، حيث لا يعقل أن تجمعات سلمية بين مسؤولين ودبلوماسيين على مستوى رفيع وبين أبناء جاليتهم هنا أو هناك، تؤدي إلى توترات أمنية (لقاءات هولندا كان مقررا لها الانعقاد داخل القنصلية التركية بما يعني أنها مؤمنة بالضرورة على الأقل من الجانب التركي). كما استندت أنقرة في موقفها إلى الأعراف الدولية وهو ما يستفاد من فحوى المذكرة التي تقدمت بها تركيا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقالت وزيرة الأسرة التركية أمام اجتماعات لجنة المرأة في الجمعية العامة: «إن هولندا انتهكت الاتفاقيات الأممية والأوروبية عبر تقييد حرية الحركة والتعبير لوزيرة تتمتع بحصانة دبلوماسية».

كان من الممكن أن يمر الموقف كله بسلام في حالة افتراض أن كلا من الطرفين التركي والأوروبي يتفهم موقف الآخر ويقدر التبعات السيئة التي تترتب على التصلب والعناد. ولكن ردود الفعل الساخنة للغاية والتي وصلت إلى حد الشتائم بين طرفين من المفترض أنهما صديقان متحابان (تركيا تسعى إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي منذ عدة سنوات)، كشفت عن وجود خلافات سياسية عميقة تصل في التعبير عنها إلى حد الاستقطاب والصدام السياسي المصحوب بتلاسن يحط من قيمة الآخر . وبات ما جرى نوع من سباقات التحدي التي يريد كل طرف أن يكسبه في مواجهة الآخر.

وبنظرة سريعة ومركزة على ما ورد على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه مولود أغلو كرد فعل على موقف الدول الأوروبية تردد كثيرا وصف هذا الموقف بأنه عودة للأساليب النازية والفاشية وهو ما رفضته الدول الأوروبية وانتقدته بشدة أيضا . وفي التفاصيل تركزت الاتهامات التركية للدول الرافضة بل ولأوروبا مجتمعة على أن منع هذه الدول للخطوة التركية هو تدخل في الشأن التركي الداخلي وعداء للمهاجرين وخوف أوروبي من قوة تركيا المتصاعدة. ونقتبس بعضا مما قاله أردوغان في هذا الصدد «إن الغرب (يقصد أوروبا) كشف بوضوح عن وجهه الحقيقي في الفترة الأخيرة.. كلما زادت تركيا قوة كلما شعرت بعض الدول الأوروبية بالذل.. ما دخلكم بشؤون تركيا الداخلية؟.. إن دول القارة ليس لها حق إعطاء دروس عن الديمقراطية والحرية والعدالة بعد الآن.»

ما حدث أكبر من كونه يتعلق بالتجاذب المتبادل حول تأثير الانتخابات الأوروبية أو الاستفتاء التركي. فمن الصحيح أن نفوذ اليمين المتطرف يتصاعد في أوروبا والغرب عموما ولهذا اليمين المتطرف موقفه المعروف بالعداء للإسلام والمسلمين وللأجانب والمهاجرين، ولكن وصوله إلى سدة الحكم في العواصم الأوروبية يظل موضع احتمال لا أكثر، وليس هو بيت القصيد في حد ذاته لأن الأحزاب الأقوى الحاكمة هي يمينية بوجه عام مع اختلاف في الدرجة وفي أحسن الأحوال يطلق عليها يمين الوسط. وفي أشد الأحوال قلقا يمكن القول إن الأنظمة القائمة منقسمة بين التشدد والاعتدال. والحزب الحاكم في هولندا والذي أصدرت حكومته قرار المنع هو من يمين الوسط. وتردد أن من الأسباب التي دفعت أنقرة إلى تصعيد تهديداتها هو توقع نجاح اليمين المتطرف هناك بزعامة جيرت فيلدرز في الانتخابات التشريعية. ولكن هذا لم يحدث حيث خسر الأخير الانتخابات. وتأكيدا على أن الأزمة أبعد من ذلك هو عدم تغير الموقف التركي بعد هذه الانتخابات .

حقيقة الأمر أن الخلاف الأخير ما هو إلا قمة جبل الثلج، بينما ما يجرى تحته من تفاعلات هو المصدر الرئيس الذي من خلاله يمكن فهم التحول الصارخ في العلاقات التركية الأوروبية. وترتبط هذه التفاعلات بقضيتين أساسيتين هما، أولا الشد والجذب القائم حول بقاء أوروبا موحدة أو انحرافها نحو التفكك، وثانيا التراجع الملحوظ في مدى حفاظ القارة العجوز على قيمها السياسية التي صنعت نهضتها، وفي المقدمة منها القيم المتعلقة بالحريات السياسية والاقتصادية.

وتطبيقا لذلك على وقائع ما جرى فإن تركيا لم ترتكب جرما حتى يصل الخلاف إلى ما وصل إليه، بينما المسؤولية تقع على كاهل أوروبا انعكاسا لما تعانيه من مظاهر للتفكك ومن ردة عن القيم الديمقراطية. فالملاحظ منذ قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي باتت بقية دول القارة تعيش هاجس انسحاب دول أخرى. وقد كان بإمكان الدول الأوروبية المعنية بالأزمة الأخيرة أن تمرر المطالب التركية إذا كانت حريصة حقا على درء المشكلات التي تهدد الاتحاد الأوروبي خصوصا أن عضوية تركيا لا تزال مطروحة، ولكن الأحزاب اليمينية المعتدلة الحاكمة رأت أن الرضوخ لهذه المطالب يظهرها أمام القوى اليمينية المتطرفة بمظهر الضعيف ويعطي ذريعة لهذه القوى تعزيز نفوذها السياسي. وتفكير كهذا لا يدل إلا على عمق الأزمات التي تعيشها الحكومات الأوروبية لأسباب لا علاقة لتركيا بها، وإنما ناتجة عن الشأن الداخلي الأوروبي ذاته الذي بات يعاني من الانقسام والتشتت والارتباك في التوجهات السياسية عموما.

ومن جهة أخرى فإن الموقف الأوروبي من الأزمة الأخيرة لم يكن موحدا تماما في الحقيقة، فالمعروف أن فرنسا سمحت لوزير الخارجية التركي بلقاء الجالية التركية في شرق البلاد، كما أن دولة مثل إيطاليا اتخذت موقف محايدا وحرصت على دعوة الأطراف إلى تجاوز خلافاتها. وبررت فرنسا موقفها بأنه تأكيد من جانبها على احترامها لقيم الحريات السياسية.

بناء على ما سبق، فإنه بحسابات المكسب والخسارة، خرجت تركيا من سباق التحدي الجديد رابحة لأنه أدى إلى تعزيز سياساتها الداخلية الجديدة وزاد من لحمتها الوطنية، بينما خرجت أوروبا خاسرة لأنه سباق كشف تفكك روابط الاتحاد الأوروبي والانقسامات التي باتت تضرب استقرار أنظمتها السياسية وفقدان المصداقية في مدى ما ترفعه من شعارات تتعلق بالحريات السياسية والاقتصادية.