969757
969757
المنوعات

سيّد يسين.. وداعاً

30 مارس 2017
30 مارس 2017

أحمد فرحات -

عن عمر يناهز الـ84 عاماً، غيّب الموتُ الشهرَ الفائت أحد أكبر رموز الفكر العربي الحديث: السيّد يسين، عالِم الاجتماع ومُنظّر خطاب العَولمة والمركزيّة الغربيّة و«ما بعد الحداثة» الأوّل؛ ليس مصريّاً وعربيّاً فقط، وإنّما عالميّاً كذلك، إذ إنّ تنظيرات الراحل الكبير في حركة «ما بعد الحداثة»، لا تقلّ شأواً وأهمّية عن تنظيرات الأمريكي فريدريك جيمسون، والفرنسي فرنسوا ليوتار في هذه الحركة التي هي من نتائج البنية الفوقيّة للرأسماليّة العالميّة الراهنة، والتي تريد نفي التعميمات والقوانين العامّة والشكّ في المعتقدات والحتميّات الكبرى، وكذلك ترفض النظر إلى الزمن بمفهوم خطّي تطوّري مطّرد.

كما أنّها تندِّد بالعقل والتنوير ورجاحة المثقّف الحديث، وتعلن أنّه لا جديد سيأتي، وأنّ كلّ ما هو آتٍ لن يكون أكثر من رتابة ممضّة تؤكّد غربة الإنسان وضعفه وتشيّؤ العلاقات الإنسانيّة التي هي ليست أكثر من مرآة للخواء واللّامعياريّة والعدميّة وانكسارٍ للنفس المكسورة أصلاً.

 

بوجيز العبارة، يرى السيّد يسين أنّ «ما بعد الحداثة» أسقطت الحتميّة في التاريخ وكذلك أسقطتها في الطبيعة وفي المجتمع. ولمّا سألته مرّة أنّ «ما بعد الحداثة» هي منتج غربي، خاضع لظروف حياة وقيَم وتعقيدات مجتمعات مُغايرة لمجتمعاتنا، وأنّه يجدر بنا ألّا نتحوّل إلى مجرّد محاكين فانتازيّين لما ينتجه العقل الغربي، انتفض على سؤالي هذا واعتبره خاضعاً للمفاهيم التقليدية إيّاها في طرح الموضوعات، بمعنى أنّه سؤال يُقسّم الفكر الإنساني إلى فكر غربي وآخر غير غربي، بينما هناك فكر عالَمي واحد يؤثِّر في الحضارات المُعاصرة كلّها.. يؤثّر في الصين واليابان وروسيا، تماماً كما يؤثّر في أرض منبته وانتشاره الأوّلي. ولهذا الفكر العالَمي مصادره المتعدّدة وغير المحصورة في جهة أو هويّة بعينها. وفكرنا العربي الرّاهن مطلوب منه (برأي السيّد يسين) أن يتفاعل والفكر العالَمي. ولكي يتفاعل وهذا الفكر على نحو منتِج وفاعِل، ينبغي للفكر العربي أن يبدأ بالنقد الذاتي لممارساته كلّها، في السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع والعلوم الإنسانية كافّة، ومن بعدها يتوجّب عليه الشروع في نقد الآخر والاختلاف البناء معه. وبعد النقد الذاتي واستيعاب فكر الآخر نقديّاً، عليه إذ ذاك أن يبدأ بالحكم على كيف يضع أنساق الفكر العالَمي في بيئته العربيّة ووفق شروط الوجود الثقافي العربي عينها.. ونحسب أنّ هذا الأمر يحتاج إلى نوع من الإبداع في الصميم ينبغي أن تتّصف به الفكريّة العربيّة الرّاهنة.

ولكن هل استطاع الفكر العربي في العقود الثلاثة الأخيرة مقاربة بعض من أسئلة مَن يبحثون في المصير العالَمي وهواجسهم؟.. سألته فأجاب بما ملخّصه أنّه لا يعتقد ذلك، فثمّة تخلّف عربي شديد في متابعة الأفكار العالميّة الجديدة، وخصوصاً في مجالات الفلسفة والنظريات النقدية والعلوم الاجتماعية، وبالتالي فإنّ أغلب المفكّرين أو الباحثين العرب، يُعيدون إنتاج الخطاب القديم الذي تجاوزه الزمن، وقلّة منهم تتابع النِتاج الفكري العالَمي الحديث، وقلّة قليلة مَن تأخذ موقفاً نقديّاً راجحاً من هذا النِتاج، ولا تكتفي، بالتالي، بترجمته أو تلخيصه وتشويهه.

تقويم تجارب زملائه من المفكّرين العرب

بعُمق، وحصافة نقديّة وتقييميّة، قرأ السيّد يسين نِتاج مُعاصريه ومجايليه من المفكّرين العرب الكبار أمثال عبد الله العروي ومحمّد أركون ومحمّد عابد الجابري وهشام شرابي وعلي الوردي وعبد العزيز الدوري وصادق جلال العظم وقسطنطين زريق وحليم بركات.. وغيرهم.. وغيرهم. وكان يعتبر كِتاب العروي «الإيديولوجيّة العربيّة المُعاصرة» فاتحة الكُتب النهضويّة العربيّة المتجدّدة، التي طمحت إلى أن تجعل منّا، عرباً، كائنات تاريخية من نمط جديد. أمّا هشام شرابي في كتابه «المثقّفون العرب والغرب»، فقد اعتبره السيّد يسين محاولة لمعاودة إطلاق مسار التجديد من التقليد، وأنّ الكاتِب يتقدّم ويقدِّم نفسه كواجهة نقدية لعالَم غربي خَبِره من الداخل، كيف لا وقد عاش شرابي في الولايات المتّحدة قرابة نصف قرن من الزمان، يُدرّس في جامعاتها ويقاوِم كلّ ما يحيد به عن ثباته على فلسطينيّته، إذ يَعتبر السيّد يسين، كعالِم اجتماع، أنّ المجتمع هو الذي يصنع الفرد وتحوّلاته ككائن اجتماعي، وليس العكس.

أمّا عبد العزيز الدوري، المنظّر العروبي العراقي الشهير، وبعدما قرأ راحلنا الكبير كتابه «مقدّمة في التاريخ الاقتصادي العربي»، فقد وجده يتحدّث عن ظهور نمط الإنتاج في العالَم العربي وتطوّر هذا النمط.

ويعجب سيّد يسين بشخصية عراقية مرموقة أخرى، هي عالِم الاجتماع المعروف د.علي الوردي، وخصوصاً حين يتحدّث عن صراع البداوة والحضارة على اتّساع الوطن العربي، مصنِّفاً الأقطار العربية إلى ثلاثة أصناف رئيسة، هي: صُنف يشبه العراق من حيث وجود الحضارة والبداوة فيه جنباً إلى جنب، تسيطر عليه الحضارة تارة، والبداوة تارة أخرى؛ ويشمل هذا الصنف أكثر البلدان العربية كالأردن والشام والمغرب وتونس والجزائر واليمن.

وصنفٌ ثانٍ البداوة فيه أشدّ وأكثر تأثيراً من الحضارة.. مناطق نجد وعسير والجزء الصحراوي من الجزائر وسلطنة عُمان وحضرموت.

وهناك أخيراً نمط تكون فيه الحضارة أقوى من البداوة؛ وهو صنفٌ نادر الوجود في الوطن العربي. والبلد العربي الوحيد الذي تتمثّل فيه خصائص هذا الصنف هو مصر، إلى حدٍّ ما، ولاسيّما الوجه البحري منها. أمّا الصعيد، فيمكن عدّه من الصنف الأوّل.. أي يشبه العراق.

من جهة أخرى يعتبر الراحل الكبير كِتاب د. حليم بركات «المجتمع العربي المعاصر: بحث في تغيّر الأحوال والعلاقات» حدثاً فكريّاً إنسانيّاً بارزاً، لأنّه أوفى مرجع صدر بأيّ لغة من اللّغات عن المجتمع العربي المُعاصر بمنهجٍ تكامليّ فريد لم يترك أيّ جانب من جوانب الموضوع لم يشمله بالتحليل والنقد على السواء.

ويَعتبر السيّد يسين أنّ صادق جلال العظم دشّن مرحلة جديدة في الفكر العربي الحديث هي مرحلة النقد الذاتي. والنقد الذاتي كما هو معلوم ليس تقليداً عربيّاً، إذ نادراً ما يعترف الناس عندنا، سواء أكانوا من النّخبة أم الجمهور، بأخطائهم. وعليه، يعتبر السيّد يسين أنّ كِتاب صادق جلال العظم: «النقد الذاتي بعد الهزيمة» هو البداية الحقيقية لتقليد النقد الذاتي العربي بعد هزيمة العام 1967، والدليل على ذلك أنّه نُشرَت في العام نفسه تقريباً، كُتب في تفسير الهزيمة من طرف مفكّرين ينتمون إلى تيّارات إيديولوجيّة مختلفة، أبرزها «النكسة والخطأ» لأديب نصّور و«أعمدة النكبة السبعة» لصلاح الدّين المنجد.

لكنّ السيّد يسين يعترف في المقابل أنّ إرهاصات النقد الذاتي كانت قد بدأت مبكراً مع الهزيمة العربية المدويّة في حرب فلسطين في العام 1948 بكِتاب المؤرِّخ والمفكّر القومي الكبير د.قسطنطين زريق: «معنى النكبة»، إلّا أنّ هذا العمل ظلّ إلى فترة طويلة عملاً غير مُتناوَل على النحو المطلوب، وذلك على الرّغم من أهمّية العمل وصاحبه سواء بسواء.

العَولَمة والوعي الكَوني

اهتمّ السيّد يسين اهتماماً شديداً بالعَولمة وقضاياها، حتّى شكّلت ظاهرة العَولمة ركناً أساسيّاً وجوهريّاً في أجندة أبحاثه ومقالاته ومؤلّفاته التي كان آخرها كِتاب «آفاق المعرفة في عصر العَولمة». وهو يعتبر أنّ العَولمة بدأت في الثمانينيّات من القرن الماضي مع تطوّر النظام العالَمي وتزايد شبكاته وتشابكاته كنتيجة للثورة الاتّصالية الكبرى، الأمر الذي أدّى إلى بلورة ما يسمّيه بـ«الوعي الكَوني»، والذي (بحسب رأيه) أنتج تدفّقاً هائلاً في آليّات فهم الشعوب لما يدور حولها من أحداث وتحوّلات في السياسة والاقتصاد والثقافة والمعرفة والاجتماع. غير أنّ محور الثورة الاتّصالية الكبرى في رأيه، كان هو شبكة الإنترنت، إذ للمرّة الأولى في تاريخ البشرية حقّق هذا المحور، وما اشتقّ عنه من تقنيّات اتّصالية أخرى متطوّرة، مجالاً عامّاً جديداً يسمح لكلّ سكّان الأرض بأن يتفاعلوا بحرّية مطلقة بعيداً من القيود الحقيقية والوهمية التي تفرضها الحكومات على حرّيات التفكير والتعبير.

ويحدِّد السيّد يسين نهاية ظاهرة العَولمة بأنّها كانت في العام 2008، رابطاً إيّاها بالأزمة المالية المُستعصية التي عصفت بالبنوك الكبرى والمؤسّسات الماليّة المركزية في الولايات المتّحدة، الأمر الذي أدّى إلى سقوط اللّيبرالية الجديدة، والتي كانت تُعتبر برأي كبار المنظّرين الاستراتيجيّين، عصب العولمة وجسرها الوطيد.

في آخر مرّة زرتُ فيها السيّد يسين في القاهرة قبل عامَين، تحادثنا في موضوعة الاغتراب.. الاغتراب بين المفكّر والمُبدع، فأجابني بأنّ الاغتراب على فوضاه التأمليّة، الخصوصية منها والمَرَضيّة، له وظيفة مُغرية للهويّة النفسية العميقة التي مهما حاولنا سبرها وفضّ أسرارها، فإنّها تظلّ تتمنّع علينا، ذلك أنّ الاغتراب الحقيقي ليس هو في نهاية المطاف سوى اغتراب الذات عن الذات.

مهما يكن من أمر، فقد أجمع محبّو السيّد يسين، ولاسيّما الأصدقاء الأكثر قرباً منه، وفي طليعتهم بالتأكيد د. جابر عصفور، على أنّه من الصعب أن يكون للسيّد خليفة له في مجاله النقدي والبحثي الموسوعي في وقت قريب، سواء في مصر أم حتّى على المستوى العربي. أمّا لماذا؟ هنا يجيب د.عصفور: لأنّه درس المستقبل أكثر من الماضي والحاضر، وظلّ يقرأ ويكتُب ويُعايِن أشواقه المستقبلية، حتّى وهو في قاع صراعه مع المرض الخبيث.

وداعاً أيّها الصديق الكبير.. وداعاً لسخريتك اللطيفة وابتسامتك التي لم تغادرها جديّتك الصارمة. نم هنيئاً في تراب مصر التي أحببتَ دَوماً، فمصر هي ثوب القلب وثوب الروح.

*مؤسّسة الفكر العربي