randa-s
randa-s
أعمدة

عطر: انقذوا الورق والحبر

29 مارس 2017
29 مارس 2017

رندة صادق -

[email protected] -

الإعلام الذي حمل لقب السلطة الرابعة وشكل فسيسفساء ذاكرتنا، بدأ في أكل نفسه والتهام تاريخه، حين قرر أن هذا الزمن ليس زمن “ الورق” فأدخلنا عصر العولمة التي هي نافذة واسعة للمعرفة وليس للتخلي عن مهنة فكرية لطالما كانت من حبر وورق . كلما التقيت بزملاء المهنة سمعت جملة :”الكتابة الورقية الى زوال” يبدو أن الفكرة باتت مقبولة لدى معظمهم، وكأن الأمر يخضع للوقت الذي هو كفيل بفرض هذا المنطق، حينها أصاب بحزن شديد وألم يعتصر ذاكرتي وقلبي وأشعر ان تاريخ الورق مهدد. الورق الذي كان يخبىء الأسرار والحكايات ويرحل مع الرسل والحمام الزاجل، والذي كان يبدو عليه لون الزمن ويتعتق عطره برائحة نفاذة سيرحل دون عودة، لأننا ركبنا موجة الجاهلية الحديثة التي تقودنا الى مرحلة سننظر فيها الى الوراء فلا نجد إلا شعوبا بلا تاريخ أو حضارة. في زمن الجاهلية الحديثة والغزو المتسلط لمجتمعاتنا، بدأنا نفقد هويتنا الفكرية، ونتحرك في مساحات واسعة نعوم فيها عكس حاجاتنا وعكس ثوابتنا. الهجوم اليوم لا يحتاج جيوشا أو آليات مقاتلة، يحتاج فكرة تزرع في رؤوسنا حتى نصبح نحن أمها وأبوها، ونبدأ في تبنيها والدفاع عنها والإيمان بها، المخيف أن هذه الأفكار تكبر لدرجة أنها تحاكي المحتوم، فنتكلم عنها وكأن لا مفر منها، المنطق المستسلم المادي جعل القاعدة العامة تنتشر في عالم الإعلام والكتابة حتى بات أي إبداع يرتبط بها (ان لم تستفد لا تبدع)،معادلات تجعل الأهداف السامية أهدافا يصفها المترنحون فكريا بالمغامرة، وانا أحمد الله أنه ما زال هناك مغامرون يؤمنون بأنه:” في البدء كانت الكلمة”.

أيتها الوجوه العالقة على شاشات التلفزة، أبطال الفيس بوك وشعراؤه وعشاقه المتفذلكين المثقفين، هناك حرب من نوع جديد تلوح في الأفق ستقضي على البرمجيات وتعيد الحضارة مائتي سنة الى الوراء، هي حرب التطور العلمي، حرب الفيروسات التي تهدد الحضارة والتي تحافظ اليوم على المسافة بين وحوش الأرض الكبار وحكامها.

الورق الذي توارثناه، قصاصات الأحلام وأرشيف المناسبات وهذيان الحب وجنون الحرب، الأرقام والأسماء والغرائب والمعجزات، حلقات في تاريخ الصحافة المكتوبة تشكل وجداننا وتستحق ان نطالب بمحاكاة للتجربة الفرنسية التي لم تقبل بغياب عطر الورق ولا بأن يموت مشهد القارىء على الأرصفة الباريسية يرتشف قهوته ويتصفح جريدته، فبادرت الدولة الفرنسية بدعم الصحافة الورقية كما تدعم الدول القمح و المازوت، التاريخ لن يعيد لنا ابن رشد الذي أنقذ الكتب من محارق الجهل.

نحن في زمن الفوضى الإعلامية التي رماها علينا ما يسمى بالإعلام الجديد الذي أفرز ممتهنين لمهنة لا علاقة لهم بها، خلطوا بين ناقلي الخبر يعني (الديونجي) الذي يجلس في دوواين النت ينسخ ويلصق، وبين من يحمل لواء الفكر ويضيء ظلام الدرب ليصنع فرقا، تحية لهؤلاء المغامرين، لصمودهم وإيمانهم ودفاعهم عن علاقتهم بالورق والحبر في زمن يظن البعض انهم يصنعون شهرتهم عبر السوشيل ميديا، وشبكات التواصل الاجتماعي، ولكن المجتمعات التي لا تدرك ما تفعل مجتمعات مسيرة لا رؤية لديها ولطالما وقعنا بفخ التبعية الفكرية ولم نقف لنفكر: الى أين المصير؟

الأمل يقوده هؤلاء المغامرون الذين قرروا ان للورق صوتا لا يموت وأن الأرض تبقى وعاء الحياة وان النبات المهجن جميل وغريب ولكن لن يكون بروعة خصائص الفطرة الاولى. أدافع عن الورق ليبقى رسالة ثابتة وكلمة مشبعة بإرادة النجاح ومساحة لتتنوع والاختلاف، لكي لا تضيع ذاكرتنا ولا تتبخر حضارتنا، كي لا تختفي جماليات الورق وملمسه ورائحته.