مرايا

جون ناش.. عبقري الرياضيات الذي تحدى الفصام

29 مارس 2017
29 مارس 2017

ولد جون ناش John Nash عام 1928، في ولاية Virginia في الولايات المتحدة الأمريكية.عندما كان صغيراً كان معروفاً بكونه الولد الانفرادي والانطوائي الذي يهوى قراءة الكتب ويقضي ساعات طويلة في لعب الشطرنج. لم يكن على علاقة جيدة بأخته (Martha) لأنه كان في معظم الأحيان يسبب لها الإحراج أمام أصدقائها بردات فعله الغريبة.

والده، جون الأب، كان مهندس إلكترونيات ثاقب الذكاء. والدته، Virginia كانت معلمة للغة اللاتينية، كانت ثافبة الذكاء أيضاً، وكانت دائماً ما ترسم الأحلام حول مستقبل صغيرها وتفوقه في الحياة، الشغف الذي جعلها تضغط على جون ليتعلم القراءة مبكراً، وقد نجحت في ذلك، ففي الرابعة كان ناش يستطيع القراءة، وكان قد تعلم اللاتينية واستطاع تخطي الصف الأول عند دخوله إلى المدرسة في الخامسة. لم يكن يحلم الصغير بأكثر من أن يكون مهندساً كوالده.

كان واحداً من عشرة فائزين بجائزة George Westinghouse Award الوطنية، والتي وفرت له منحة دراسية كاملة في معهد Carnegie المشهور للتكنولوجيا، درس الهندسة ثم تحول إلى الكيمياء، قبل اكتشاف شغفه في الرياضيات، تم قبوله في جامعة Princeton العريقة في نيوجيرسي، في تلك الفترة كانت –ولاتزال- جامعة Princeton تمثل حلم الرياضيين، تماماً كما تمثل هولييود حلم نجوم السينما، أو كما تمثل باريس حلم مصممي الأزياء.

طلب من أستاذه أن يكتب له رسالة توصية للجامعة فرد الأستاذ برسالة كُتب فيها جملة واحدة This man is a genius ، قام بتصميم لعبة أطلق عليها زملاؤه اسم لعبة ناش، نسبةً له، وتم طرحها لاحقاً في السوق باسم Hex Game. وهي لعبة بين شخصين حيث الرابح هو الذي يستطيع تكوين سلسلة من الخطوط ذات اللون الواحد على لوحة مكونة من مربعات سوداء وبيضاء موزعة بشكل عشوائي، تلك اللعبة انتشرت بين الطلاب ولاحقاُ بين الأساتذة في الجامعة وكانت هي المحفز التي جعلت جون يدخل في اختصاص في علم الرياضيات والحاسب يطلق عليه اسم «نظرية الألعاب».

يقول ناش في مذكراته إنه عندما بدأ العمل على تلك النظريات لم يخطر بباله للحظة واحدة في ذلك الوقت بأن تلك الأبحاث ستجعله أهم علماء الرياضيات في العصر الحديث، وحصل ناش على الدكتوراة من Princeton في عام 1950. وفي عام 1951 التحق ناش بقسم الرياضيات في الجامعة الأعرق Cambridge. تعرف ناش على Alicia Larde، فتاة جميلة بعمر 21، و طالبة في قسم الفيزياء في MIT وتزوجا عام 1957. في تلك الفترة كان ناش قد قام بحل العديد من الأسئلة المعقدة في عالم الرياضيات في زمانه، وطور عدة نظريات باسمه.

عام 1958 مجلة Fortune الشهيرة وصفته بأنه الرجل الأكثر عبقرية في العالم، كان عمره وقتها ثلاثون عاماً فقط، لكن بالرغم من الشهرة الكبيرة التي كان قد حققها ناش في ذلك الوقت إلا أنه لم يحصل على أي جائزة مرموقة لتخلّد اسمه كعالم وعبقري بين أقرانه من علماء الرياضيات، وكان دائم القلق والتفكير بأنه قد تجاوز عمر الإبداع وبأنه لم يعد قادراً على تطوير نظريات جديدة.

بعد أن أعلمته Alicia بأنها حامل بقليل تعرض لمرض بدا أنه وعكة صحية عابرة، وتبين لاحقاً بأنه مرض Schizophrenia، وهو نوع من أنواع الانفصام المترافقة مع اكتئاب بسيط. المرض الذي سيغير حياته إلى الأبد. بعد أشهر من المرض تطورت حالة ناش المرضية وسلوكه إلى تصرفات غير مضبوطة، حتى أصبح يشكل خطراً على نفسه وعلى الآخرين، مما اضطر زوجته إلى إرغامه على الخضوع لعلاج فيزيائي في مشفى خاص في بوسطن.

في عام 1961 اجتمعت عائلة ناش المؤلفة من زوجته وأمه وأخته وقاموا باتخاذ القرار الصعب، وهو البدء بمرحلة العلاج بالأنسولين وهو مايدعى Inslulin-Coma Therapy، وهو علاج خطير وله عواقب نفسية وجسدية قد تكون عالية الخطورة على المريض، ولكن كان ذلك العلاج الوحيد الذي يتم تجريبه على ناش. خضع للعلاج لمدة ستة أسابيع بشكل يومي في مشفى Trenton وبعد تخرجه من المشفى عرض عليه زميل قديم في Princeton أن يعمل كباحث في الجامعة فقبل المنصب، وبعد عدة أيام غادر مجدداً إلى أوروبا وحيداً، ومن هناك بدأ يرسل رسائل مشفرة لزوجته. وبعد ثلاث سنوات من المرض على تلك الحالة رفعت عليه زوجته قضية طلاق وانفصلا عام 1961.

زميله في جامعة Princeton مرة أخرى عرض عليه منصباً بحثياً في الجامعة ونسق معه من أجل أن يبدأ رحلة علاج جديدة، هذه المرة بدون مواد كيميائية، تحسنت في هذه المرحلة حالة ناش وبدأ بالتعافي بشكل متدرج و بدأ يقضي وقتا أكبر مع ابنه. وفي عام 1970 شعرت الزوجة أنها كانت قد ارتكبت خطأً عندما تخلت عن زوجها خلال مرضه، فعرضت عليه أن تقوم بخدمته والاعتناء به ليس كزوجة وأنما كممرضة تحضر له وجباته وتعتني بعلاجه، ظناً منها أن هذه الخطوة قد تساهم في تحسين حالته الصحية وتخلصه من بقايا المرض.

في السنوات اللاحقة كان ناش يرتاد جامعة Princeton و يكتب معادلاته على الجدران وعلى الألواح، كان الطلاب يلقبونه بالشبح، لأنه كان لايخرج من الجامعة إلا في الظلام، وبدءًا من عام 1980 بدأ ناش بالتعافي مجدداً، وأصبح أكثر اختلاطاً وتفاعلاً مع العالم من حوله، وليس من الواضح حتى اليوم كيف تطورت حالة ناش بشكل إيجابي في تلك الفترة، ولكن طبياً من المعروف أن مرضى Schizophrenia يمكن أن يتحسنوا مع التقدم بالعمر.

في عام 1994 حصل ناش وهو بعمر 66 على جائزة نوبل في الاقتصاد في ستوكهولم في السويد وذلك بسبب أهمية وتأثير نظرياته على الاقتصاد العالمي، خصوصاً عمله المتعلق بنظرية الألعاب. وبعد 38 سنة من طلاقه تزوج من Alicia مجدداً، واستمر في عمله في جامعة Princeton في اكتشاف الرياضيات، العلم الذي أحبه وعمل به منذ طفولته وأثناء مرضه والعلم الذي أوصله مجددا للشهرة والمجد.

توفي جون ناش يوم 23 مايو 2015 في حادث مروري رفقة زوجته أليسيا، ونعى رئيس جامعة برينستون -كريستوفر إيزغروبر- ناش قائلا «ألهمت إنجازات جون الرائعة أجيالا من الرياضيين والاقتصاديين والعلماء الذين تأثروا بعمله الإبداعي العبقري في نظرية الألعاب».

ما ألهمني في قصة هذا الرجل أن شغفه بالرياضيات جعله يحقق هذا النجاح وهذه العبقرية التي رافقته طيلة حياته رغم تحديات المرض الكبيرة، الشيء الآخر هو حب زوجته له وإيمانها به ووقوفها بجانبه على الرغم من بعض العثرات التي واجهت علاقتهما، حتى أن نهايتهما كانت معا وكأن هذا الرباط بينهما إلى الأبد.