شرفات

ليلٌ وقمرٌ وقصيدة.. تسامر الغيمة وتسرّ للسماء حنينها

27 مارس 2017
27 مارس 2017

مسعود الحمداني -

[email protected] -

(1)

عصافير المعنى تشاهد شجرة الورد وهي ترسل أريجها عبر قصيدة تتلقفها الريح، ويعبث بخصلات شَعرها المطر..

إنها البداية لمغامرة جديدة في أدغال القصيدة.

(2)

في يوم بارد خرج الشاعر في موعد مع قصيدة لم يرها من قبل..

فتح أزرار الغيب، فتوارت خلف السراب، تبحث عن معناها..

عاد مرة أخرى..ليجدها في لجة القمر..

تركها ورحل..

لم يبقَ منها سوى الخواء.

(3)

هكذا يأتي الشعر مباغت، وغريب، كحمامة تراوغ صياديها، وتذهب دون أن تترك أثرا..

القصيدة ابنة الماء..

والماء أصل كل الحكايات.

(4)

المجد للقصيدة..المجد لتلك النائمة كأميرة بين ذراع القمر..تراقب العابرين إلى غاباتها، وترسم بتلات الورد على ذراعيها، تجوس الديار لتلتقي بفارس ودّع ذاكرته ذات شعر..وسار إلى حيث البئر الذي ما زال يمنح ماءه للحالمين.

(5)

المجد للقصيدة..لتلك المشاكسة كفراشة، تسفر عن وجهها الفضي، وتداعب خصلات الغيم بقلبين عارييين إلا من العشق، تأتي القصيدة في أبهى صورها لشاعرين يسامران ضوء النجم، و يرسلان شواظ الكلمات لسديم المعنى..وغبار الكائنات.

(6)

جمرة العشق تحرق قلب الشاعر، ورغم ذلك لا يفلتها، إنها طريدته الأزلية، تلك التي ينتظرها بفارغ الحب..ولا تأتي..

ولا ييأس.

(7)

مررت ذات صباح بعصفورة وحيدة..اصطاد الصيّاد الأخرق نصفها الآخر.. وقفت تغني على غصنها:

يَا حَبِيبًا زُرْتُ يَوْمًا أَيْكَهُ

طَائِرَ ٱلشَّوْقِ أُغَنِّي أَلَمِي

لَكَ إِبْطَاءُ ٱلْمُذِلِّ ٱلْمُنْعِمِ

وَتَجَنِّي ٱلْقَادِرِ ٱلْمُحْتَكِمِ

وَحَنِينِي لَكَ يَكْوِي أَضْلُعِي

وَٱلثَّوَانِي جَمَرَاتٌ فِي دَمِي

أطلق صياد آخر سهمه عليها.. فسقطت على الأرض وهي تبتسم.. أخيرا ستلتقي بروحها.

(8)

القمر مرآة العاشقين، يدلّهم على القصيدة، ويرون فيه وجوه حبيباتهم الغائبات، يسكنون فيه دون أن يلتفتوا إلى عناوين الوقت..

هكذا هم الشعراء الذين يعشقون ألف حبيبة، ويخلصون لواحدة.

(9)

المساء لم يترك لنا مساحة من الروح، شغلتنا القصيدة بغنجها، حتى نسينا أن الليل يقبض جناحيه ويبسطها لكي يطير بالعاشقين إلى سماوات القلب.

(10)

ترك القمر ذراعه على قلبي..رحل دون كلمة..وغاب دون أن يكمل قصيدته.

(11)

الكلام أخرس.. وأبله أحيانا.. لدرجة أنك لا تجد من يسعف روحك لكي تكتب وصيتها الأخيرة.

(12)

ما أروع العاشق العظيم قيس بن الملوح، وهو يهيم بشعره في صحراء العرب، باعثا رسوله في منقار حمامة زاجلة لعلها تسقط حنينه في حضن ليلى..ما أروعه وهو يعاتب قلبه الجموح المجنون بحبِّ من لا رجاء في وصله:

ألستَ وعدتني يا قلبُ أنّي

إذا ما تُبتُ عن ليلى تتوبُ؟

فها أنا تائبٌ عن حبِّ ليلى

فما لكَ كلَّما ذُكرتْ تذوبُ؟

(13)

لم تكن ليلى ذات جمال فاتن في نظر الناس، كانت قصيرة القامة، دميمة، ولكنها كانت أجمل النساء في نظر قيس..ذلك الذي هام بها حد الجنون..

إنه الشاعر حين يتخلّص من الأشياء المادية، وتتعلّق روحه بما هو أبعد من الجسد، وأبقى من الشكل.

(14)

سافرت نحو الغيب، تركت خلفها بضع سنوات من الحنين، وغادرت المكان، لم يكن معها زاد إلا قصائد متناثرة لشاعر وحيد عشقته دون أن يدري..

أنا شبه الحنين المارد المقتول

على زند السنين، وغايتي عذري

أحاول أكتبك يا الغائب مجهول

واثاري خنجرك مغروس في شِعري

أمانة كلما حنّ الغرام بيوم

تذكّر هالحنين الذايب بصدري

(15)

يجود الشاعر بقلبه، لتفتح له القصيدة أزرار أسرارها..

(16)

(في القاع الحار الملوّن المزروع باللؤلؤ والمرجان أرقص وإيّاك مع ملايين الأسماك المستلّة كالسيوفِ المنتصبة، أو كالرماح الأفريقية في دغلٍ يغلي بالثورة وأبخرة البحر المتصاعدة من الشقوق..).. كتبتها ذات عشق ورحلت.

أحيانا يكتبنا الحنين بريشة نورس لا يحط رحاله، محلّق في فضاء الروح، مخاتل كنصل الكلمات، وبارد حد الموت.

(17)

التخوم البعيدة ملاذ العاشق، عينه التي ما تزال تنظر إلى الأفق، منتظرة قصيدة تسقط من السماء، أو حكاية جديدة تجد ضالتها في عينيه.

(18)

تشبه الزنبقة، مخاتلة كريح باردة، تعيد للقلب سريرته، وسيرته، تنبش بعض جراحه، وتبقى حارسة على قبره منتظرة طيف غيابه..علّه يأتي ذات حنين.

(19)

أغداً ألقاك؟!!

يا خوف فؤادي من غدٍ

يالشوقي واحتراقي

في انتظارِ الموعدِ

كتبها الهادي آدم الذي لم يهتم لأمره أحد، رغم أنهم هاموا وجدا في شعره، وذابوا في صوت أم كلثوم وهي تعطي لكلماته الخلود.

هذا ما يصنعه الجمال في النفوس، شعرٌ لا يكف عن التذكير بنفسه.

(20)

يحتفل العالم باليوم العالمي للشعر، في اليوم نفسه الذي يحتفلون فيه بيوم الأم.. ترى أي مصادفة هذه التي تعطي للأم قصيدتها، وتعطي للشعر أمومته؟..

(21)

في داخل كل منا شاعر عظيم..نحن من يقرر مصيره، فإما أن ينفخ فيه الروح فيحيا، وإما أن يقتله في مهده.

هكذا يأتي الشعراء العظام إلى الحياة، وهكذا يخلدون.