yousef
yousef
أعمدة

ذكريات عن البياتي

24 مارس 2017
24 مارس 2017

يوسف القعيد -

مات عبد الوهاب البياتي. يوم الثلاثاء 3/‏‏8/‏‏1999 في دمشق. قالت وكالات الأنباء أن مديرة منزله في دمشق وجدته في الفجر جالساً على كرسي هزاز وقد وافاه الأجل وهو على هذا الوضع. وظل هكذا حتى استيقظت. كان البياتي قد أوصى أن يدفن بجوار محيي الدين بن عربي صاحب الفتوحات المكية. الموسوعة الصوفية الشهيرة جداً في تاريخ الكتابة العربية. في دمشق. وكان عبد الوهاب أحمد جمعة خليل البياتي. وهذا هو اسمه بالكامل. قد ولد في 19/‏‏12/‏‏1926. جده مزارع. وأبوه تاجر. من قرية سليمان بك.

وحملت وكالات الأنباء أيضاً أن عدداً من مثقفي سوريا قد قاطعوا الجنازة التي سار فيها عدد من شعراء المنفى العراقيين. وإن لم تقل السبب في مقاطعة مثقفي دمشق للجنازة. ومن الغرائب والعجائب أن الذين كانوا في الجنازة لم يكونوا يعرفون مكان ضريح محيي الدين بن عربي. ولذلك بعد أن توقفوا عند ضريح ما. وبدأوا إجراءات الدفن. اكتشفوا أنها ليست المقبرة المقصودة.

فبدأوا من جديد رحلة بحث أخرى.

هذه التفاصيل ذكَّرتنى بما جرى في جنازة أنطوان تشيكوف الذي كتب ضد التفاهة والسوقية والانحطاط الإنساني. فقد تصادفت جنازته مع جنازة جنرال في الجيش الروسي. وجرى استبدال النعوش. فحظي تشيكوف بتقدير لم يتوقعه ولم يعمل له أي حساب. في حين أن نعش الجنرال لم يناله سوى الإهمال الرهيب.

أعود إلى عبد الوهاب البياتي وأقول إنى قابلته في حياته في أكثر من عاصمة عربية. كان اللقاء الأول في قاهرة الستينيات. حيث كان لاجئاً سياسياً. كان يجلس في مقهى «لاباس» بشارع قصر النيل بالقرب من ميدان سليمان باشا. وحوله عدد من المريدين. وكنا نجلس حول نجيب محفوظ في مقهى ريش. وبينهما يقع ميدان سليمان باشا. طلعت حرب إن شئنا الدقة الوطنية. مسافة دقيقتين أو ثلاثة على الأقدام. لكن كان هناك فارق جوهري. أن نجيب محفوظ كان يجلس مساءً. في حين أن البياتي كان يجلس صباحاً. وكان يجلس في نفس لاباس. المخرج صلاح أبو سيف. الذي كان يبكر كثيراً جداً عن البياتي.

كان البياتي في ذلك الوقت قد نشر دواوينه الأولى التي كانت تضج بالثورة والرغبة في تغيير العالم إلى الأفضل والأحسن. وكان قد صدر عنه الكتاب الأول. الكتاب النقدي الأول الذي كان صاحبه هو الدكتور إحسان عباس. وكان البياتي مشغولاً – في تلك الأيام – بجمع المقالات المنشورة عنه في الصحف والمجلات. لكي يصدرها في كتب. وقد استمرت هذه الحالة عنده حتى سنوات عمره الأخيرة.

عندما ذهبت إليه لأول مرة. لم أكن قد عملت في الصحافة بعد. كنت مجنداً في القوات المسلحة المصرية. وقد لاحظت أن الرجل يفرق بين الصحفيين وغير الصحفيين في تعامله. كان يهش ويبش. للصحفي لأنه يتعامل معه باعتباره إعلامياً يمكن أن يكتب عنه حتى مجرد خبر.

لاحظت في هذه اللقاءات الأولى. أنه يجمع حوله أكبر عدد من المثقفين. وأنه كان المتكلم الوحيد طوال الوقت. ولا بد وأن ينصت له الجميع ويعبرون عن استحسان ما يقوله بهزات من رؤوسهم. وإن كنت قد وجدت صعوبة في فهم ما يقوله. أولاً لانخفاض صوته الذي ربما يصل إلى حدود الهمس. وثانياً لأنه كان يستخدم ملامح وجهه في التعبير عما يريد التعبير عنه.

قابلت البياتي بعد ذلك في أكثر من عاصمة عربية مرة في بغداد عندما رأيته جالساً على مكتب في وزارة الإعلام العراقية ويضع على عينيه نظارة طبية. في هذه اللحظة رن في ذهني جزء من بيت شعري لصلاح عبد الصبور. يقول فيه:

- السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت.

ويومها تكلم البياتي معي ولكن عن مرور الوقت والملل من البقاء – هكذا – بدون حوادث كبرى وأحداث هامة وإن كان قد تجنب الكلام في السياسة تماماً. جرى هذا في منتصف السبعينيات. ومنذ هذا التاريخ وهو لا يتكلم في السياسة. وإن كان حديثه عما يجري في بغداد يستخدم عبارات شديدة الغموض.

ثم حدثت حالة من الوحشة بينه وبين الآخرين. كان هجومه على كل من عداه ضارياً. ولا يترك أحداً دون حكايات يشيب لها شعر الرأس عن جميع المثقفين العرب. لدرجة أن هذه الحكايات كانت قد تجاوزت شعره الذي تحول من الشعر النضالي إلى شعر صوفي. فيه أشواق وحب وإحباط وأحزان بلا حدود.

كان حديثه عن الناس قد تجاوز كل الحدود. وكنا نتعامل مع هذه الحالة. على أنها من تجليات «أبو علي» التي لا بد من قبولها. والتعامل معها باعتبارها من أمور الواقع التي لا دخل للإنسان فيه.

ربما كان المنفى هو السبب في هذه الحالة. كان أقوى ما فيه لسانه. كان مركز الكون بالنسبة له. وكان يواجه به ظروفه الصعبة والمتدهورة وخاصة بعد سحب جواز سفره العراقي منه. وكما بدأ حياته الشعرية جارحاً مع الطغاة والبغاة. فقد تحول في أخريات عمره إلى إنسان جارح بالنسبة لزملاء دربه ورفاق رحلته. لم ينج أحد من لسانه في فترة الغروب الأخيرة من عمره.

كنت أقول إن هذا الإنسان الذي يدور عمره حول سن السبعين. الذي يخرج من منفى إلى منفى. سنوات في مدريد. سنوات في عمان. ثم السنوات الأخيرة في دمشق. من الطبيعي أن تهتز الرؤيا بالنسبة له. من حقه بعض التجاوزات الصغيرة في بعض الأحيان. وعلينا أن نتحمل ذلك. برحابة صدر.

ولكننا نتأمل حكاية الشاعر الذي بدأ في خمسينيات القرن الماضي. بقوله أنه سيصنع مطفأة سجائر من جماجم الطغاة. وكان إعصاراً حقيقياً في الشعر وفى السياسة. وكيف آلت الأحوال والأمور به قبل الوفاة التي فاجأته وهو جالس على كرسي هزاز في بيته وحيداً في دمشق. لا بد وأن ندرك حجم مأساته. وعمق كارثته.

بعد رحيله قيل ومن خلال بعض وكالات الأنباء إن البياتي كان مرشحاً لنوبل في الآداب. وهذه مفاجأة حتى للبياتي نفسه. فالرجل في حياته لم تبد عليه حكاية أنه أصبح من مجانين نوبل. صحيح أنه كان في معركة مستمرة مع أدونيس وقد أدار هذه المعركة من خلال اللقاءات الصحفية التي كان يدلي بها بكثافة وكثرة. وكانت هذه الأحاديث هي التي وفرت له حالة من الصخب والضجيج طوال حياته.

ويبدو أنه كان يشعر بحالة من دنو الأجل. ذلك أنه بعد رحيله إلى العالم الآخر. نشرت له عشرات الأحاديث الصحفية التي كان قد أدلى بها خلال وجوده على قيد الحياة. وفى هذه الأحاديث نجد الموقف نفسه الذي عبر عنه في حياته أكثر من مرة. ولا جديد.

رحم الله عبد الوهاب البياتى.