المنوعات

الأوبرا السلطانية وعالم الثقافة الرفيعة

21 مارس 2017
21 مارس 2017

د. صالح أبوأصبع -

لم تكن الدعوة لي لحضور ندوة خاصة لمناقشة مشروع ميثاق شرف إعلامي عُماني، مجرد مشاركة علمية، بالنسبة لي أن أعود لزيارة مسقط بعد زمن، كانت بالنسبة لي زيارة محفوفة بالمشاعر المختلطة وحنين خفي لهذا الجزء من الوطن العربي، الذي فيه قضيت وقتاً مع نخبة من زملاء العمل العُمانيين في جامعة السلطان قابوس، عملنا معاً وقلوبهم وعقولهم مهمومة ببناء الإنسان وبصنع تجربة لتطوير قسم الإعلام.

عُدتُ إلى مسقط وأنا أشعر بالتزام بأن أشارك في هذا المشروع الوطني، وحينما قرأت البرنامج رأيت أن المشاركات في دراسة مشروع الميثاق كانت بعيدة عن أي دور لوزارة الإعلام فيه، وقد أسعدني ذلك. ولعل ذلك يعود إلى رؤية رسمية تدّل على بعد نظر وإحساس عال بالمسؤولية نحو المؤسسات الإعلامية التي من حقها أن تشعر بالاستقلالية وإعداد ميثاق أخلاقي لمهنتها بعيداً عن الهيمنة الحكومية أو أي تأثير لها في إعداد الميثاق.

وما أن حَطّت بنا الطائرة في المطار، حتى كانت تسير على مدرج مطار مسقط الدولي لنشاهد من نافذة الطائرة أحدث المنجزات الوطنية وهو المطار الجديد الذي صار الآن في مراحله النهائية، وننتهي من إجراءات المطار بسرعة، وتنطلق بنا السيارة عبر شوارع مسقط الجميلة لنرى ما يدهشك من طبيعة متنوعة سهل وبحر وجبل. وحينما تزور عُمان سيدهشك ليس طبيعة مسقط ولا عُمرانها الذي يشير بطبيعة أهلها، ولا تجد فيها العمارات الشاهقة والأبراج التي تنأى بك عن الناس لتطاول السماء، فهي مدينة تشعر معها بالسكينة والهدوء تماماً كطبيعة أهلها الذين يتسمون بالبشاشة والتهذيب والتعامل الراقي مع الآخرين.

والعامل الحاسم الذي يجعل من عُمان متميزة هو رؤية القيادة الحكيمة المتمثلة ببناء الإنسان واعتماده عصب التنمية الشاملة التي تبدو ظاهرة للعيان، ولا يمكنك أن تخفي إعجابك باحترام العُمانيين للعمل ، وحيثما تذهب ستجد العُمانيين يعملون في جميع المجالات ، فثقافة العيب في العمل غير موجودة لديهم ، فالعُمانيون في هذا الجانب يختلفون عن الكثيرين الذين يأنفون عن العمل في الأعمال الصغيرة، وحيثما كنت ستجد العُماني يعمل سائقا وتجده يخدم في الفندق، ويعمل في المطاعم ومراكز التسوق وستجد من كل شخص منهم البشاشة والتهذيب في التعامل ، ناهيك عن كثير من المناشط الاقتصادية مثل البنوك التي أصبحت عمانية ، وهذا الأمر ينطبق على المرأة العُمانية أيضاً التي أصبحت تجد مكانها البارز في المجتمع وتتبوأ أعلى المناصب القيادية في السلطنة .

وحين تسير في شوارع مسقط الفسيحة ستجد لمسات الجمال في جوانبها الخضراء. ولتنطلق فيها لتشهد هندسة العمران يتعانق فيها الماضي مع الحاضر في هندسة بديعة تتناغم مع الطبيعة. وحينما تدخل المرافق الحديثة التي تم إنجازها خلال العقدين الماضيين كالجامع الكبير والمتحف والأوبرا وغيرها، فإنك تعرف أنك أمام معالم ثقافية لم تُبن لليوم فقط بل للمستقبل، وهي تنسجم مع تراث الأجداد الذين بنوا القلاع والحصون التي ما زالت شاهدة على الإنجاز الحضاري.

الذي يزور مسقط ويفوته زيارة دار الأوبرا السلطانية يفوته معلم حضاري بمعيار عالمي بالغ الروعة ، ليس فقط في هندسة الأوبرا المعمارية التي تلمس في تفاصيل ديكوراتها عبق الماضي ، بل في فكرتها الثقافية، التي تنقل الإنسان العربي إلى عالم الثقافة الرفيعة، ويظهر ذلك من خلال الجمهور العُماني الذي يحضر برامج الأوبرا ، فنحن العرب لم نألف حضور الأوبرا ولا تذوق أعمالها ، وهنا يبدأ أول الدروس التي بها نسير مع ثقافة الأوبرا الراقية متجاوزين فيها ما اعتاده الجمهور العربي في حضور النشاطات الفنية من حفلات غنائية ومسرح وما يرافقها من هرج وفوضى .

فتجربة حضور حفلات الأوبرا هي أكثر من استمتاع بالموسيقى والمشاهد التمثيلية أو استمتاع بالأصوات الأوبرالية، أو الإبداع في الإخراج، ولكنها تجربة تفوق ذلك لتكون تجربة ثقافية وسلوكية معها يجلس المتفرج وهو يمارس فضيلة الصمت للاستمتاع بما يسمع ويشاهد ويتذوق الفن الرفيع وينمو لديه الإحساس بالفن ، ويجلس وهو يلتزم بشروط حضور الأوبرا بما يليق مع هيبة المكان وتقاليده، فلا يمكن دخول الأوبرا بأزياء غير لائقة، وليس هناك أي مجال وأنت جالس على مقاعد المسرح أن تقوم بأي نشاط حتى لو كان شربة ماء ... إنه درس في الالتزام بالنظام.

إن دار الأوبرا السلطانية هي مجرد مثال من أمثلة عديدة من إنجازات السلطنة التي ترمز إلى قدرة عُمان إلى الانطلاق إلى آفاق رحبة تتفاعل فيها ثقافة الحاضر مع الثقافة الإنسانية بمنظورها العالمي والتي تنير درب الإنسان إلى عالم الثقافة الرفيعة. لتؤكد على أن الاهتمام بالثقافة هو طريق لبناء الإنسان، والمعمار الذي يُبنى ليكون منارة ثقافية هو بناء للأجيال.