الملف السياسي

قراءات إيجابية وأخرى سلبية .. لمرحلة «ما بعد داعش»

20 مارس 2017
20 مارس 2017

طارق الحريري -

أخيرا بدأت مرحلة بداية النهاية لما يعرف بتنظيم «داعش» آخر حلقات الإسلام السياسي الجهادية التي تعتمد الصراع المسلح طريقا لإقامة دولة الخلافة الإسلامية التي طرأت على الفكر السياسي للنخبة في قطاع واسع من المتشددين الأصوليين الذين يحلمون باستعادة أشكال متوهمة من التاريخ بعد سقوط الدولة العثمانية التي كانت تأخذ من الخلافة متكأ دينيا للهيمنة على الشعوب المسلمة. 

كانت الدولة التي أقامتها داعش تفتقد إلى مقومات أساسية تتمثل في المروق الكامل خارج الشرعية الدولية والأهم أن أدوات القوة العسكرية كانت نسبة كبيرة منها من خارج مواردها الذاتية وأن فضاءها الاقتصادي يعتمد على التجارة غير الشرعية خارج نظم الاقتصاد المتعارف عليها دوليا وبالطبع لم تحظ هذه الدولة بأي نوع من الاعتراف أو حتى العلاقات الدبلوماسية غير الرسمية.

ومن اللافت أيضا أن تنظيم داعش طور تكتيكات قتال حرب العصابات الخاصة به من خلال إحداث ترويع هائل للسكان المحليين الذين يعتبر أنهم غير موالين وفي مواجهة أي قوة عسكرية معادية أو عند الهجوم عليها يستخدم التنظيم أساليب مناورة بالنيران غير تقليدية بمصايد الألغام والتفخيخ وهي بذلك تعتمد على بدء الهجوم بتمهيد نيراني مبتكر ليعوض غياب امتلاك قوة جوية من القاذفات أو مدفعيات ثقيلة تقوم بضرب غلالات نيرانية تساعد الأفراد على التقدم والهجوم وكان أسلوب داعش يعتمد على الدفع بعدة عربات مفخخة في توقيت متزامن محملة بكميات ضخمة من المتفجرات بالغة الشدة في إحداث الانفحار مثل «السي فور» لإحداث ثغرة تسمح لعناصره بالاختراق في صفوف القوات المتصدية للهجوم كما أن التنظيم يعمد إلى الانتشار وسط السكان المدنيين لتعقيد فرص القوات التي تحاربه وكثيرا ما كان في ظروف القتال الحرجة يستخدم المدنيين العزل كدروع بشرية ومن الأساليب المستخدمة في بناء خطط الدفاع كان يستعاض عن الخنادق المكشوفة بشبكة من الأنفاق التي تتيح الانتقال الآمن والمناورة بالقوات. نتيجة لطبيعة التنظيم وطبيعة دولته التي لا تتوفر لها الشروط الموضوعية كانت عوامل السقوط منذ البداية بادية للخبراء السياسيين والعسكريين وبالفعل مع توفر الإرادة السياسية للدولة العراقية وإعادة تنظيم القوات المسلحة بها وتوسيع قاعدتها بقوات الحشد الشعبي بدأ مسلسل الهزائم وتداعى داعش في العراق حتى أن التنظيم صار قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام في هذا البلد وفي خطوة تالية مع توفر الإرادة السياسية الدولية لمحاربته في سوريا فإن انتهاء هذه الأسطورة المصنوعة وزوالها كدولة أو بمعنى أصح ككيان يحتل مساحة من الأرض يصبح مسألة وقت. هنا يتبادر للرأي العام سؤال لماذا يسقطون سريعا هكذا مع أول مواجهة حقيقية على الأرض والإجابة بعد استعراض طبيعة التنظيم فيما تقدم تتمثل في عدة عوامل في الجانب العسكري أولها: توقف الإمداد بالسلاح بعد توقف القوى التي كانت تقوم بهذا الدور عن الاستمرار في ضخ شحنات جديدة .

ثانيا: نفاد مخزون قطع الغيار اللازمة للإحلال أو الإصلاح مما يعني أن الأسلحة الثقيلة والمتوسطة في حوزة عناصر التنظيم المقاتلة أصبحت حديد خردة لا نفع منها .

ثالثا: استهلاك مخزون الذخيرة وبالأخص ذخائر الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وافتقاد التنظيم لقدرة تصنيعها .

رابعا: توقف الإمداد بالمقاتلين من الجنسيات المختلفة بعد سد المنافذ التي كان تهريب المقاتلين يتم منها وبالتالي لم يعد لدى التنظيم قدرة على تعويض الخسائر البشرية .

خامسا: جزء كبير من القدرات اللوجستية كان يعتمد إمكانيا من خارج التنظيم ، وبالتالي اصيبت الهياكل التنظيمية بخلل في إمكانيات التنقل والاتصال .

سادسا: توقف عمليات التجارة غير الشرعية والتمويل من الخارج أديا إلى العجز عن تدبير الاحتياجات المالية .

سابعا: القصف الجوي الفعلي لمراكز القيادة والسيطرة والمناطق الإدارية ومخازن الذخيرة أخل باستقرار التشكيلات القتالية .

ثامنا: مع تعرض التنظيم للخسائر المستمرة وتواصل الهزائم وفقدان الأرض ونزيف البشر والسلاح تبدأ الروح المعنوية في الانهيار وتتراجع معها الكفاءة القتالية والقدرة على الصمود.

هنا يأتي السؤال الجوهري ما الذي يمكن أن يتمخض عن سقوط التنظيم من زاويتين أولهما تأثير ذلك على داعش نفسه ولاسيما أن بقاء قيادة التنظيم في الرقة بعد سقوطه في العراق مآله إلى زوال في مدى زمني لن يزيد عن بضعة أشهر أو عام على أقصى تقدير ، فالمنطقة جغرافيا لا تسمح للقيادة بالبقاء متخفية مثل تنظيم القاعدة في كهوف أفغانستان، وثانيا تأثير ذلك على الإقليم عسكريا وسياسيا.

بالنسبة للتداعيات المتوقعة بعد سقوط التنظيم فإنها تتمثل في أن التنظيم الذي سوف يفقد السيطرة على الأرض قد يتحول إلى قيادة مركزية تحافظ على المنبع الفكري ، لكنها ستقوم بتأسيس هيكل جديد غير مرتبط بإطار مركزي ، يدير العمليات العسكرية، وهو بهذه الصيغة سوف يكون أقرب إلى تنظيم القاعدة في وضعه الحالي ، الذي لا يمارس قيادة عسكرية مركزية مباشرة للعناصر التي تؤمن بفكره . لكن تنظيم داعش – وهذا هو الأهم – يمتلك إمكانية أخرى غير متاحة للقاعدة وهي أن بعض أذرعه الخارجية وبالتحديد في أفريقيا ، في منطقة صحرائها الكبرى وغرب القارة ، لها سيطرة على الأرض بل سيطرة كاملة على مناطق غير خاضعة لتهديد متوقع في المدى الزمني القريب أو المتوسط من حكومات الدول التي تنتشر بها العناصر الموالية لداعش . لذا ليس من المستبعد أن يقوم التنظيم بنقل مركز قيادته الحالي إلى إحدى هذه المناطق في أفريقيا. وهنا علينا أن نتذكر أن للتنظيم سابقة ليس في نقل مركز قيادة فقط ولكن في نقل قوات كاملة مثلما حدث عندما نقلت تشكيلات قتالية كاملة إلى سرت في ليبيا، وبالتالي فمن السهل أن ينتقل مركز القيادة إلى أفريقيا في مواقع توفر ملاذات آمنة وليس من المستبعد أن تبقى بعض العناصر الخامدة في سوريا والعراق كخلايا نائمة يتم تحريكها في أوقات ومناسبات معينة للانتقام والإعلان عن استمرار التنظيم وأنه لم يفن.

أما بالنسبة للتداعيات المتوقعة عسكريا وسياسيا بعد سقوط التنظيم فإنها سوف تكون أكثر إيجابية في العراق لوجود حكومة مسيطرة وقوية وسوف يؤدي انتصار جيشها على داعش إلى مزيد من الاستقرار وبسط سيطرة الدولة على كامل مساحة الدولة سياسيا وأمنيا ويمكن أن يكون هذا الانتصار عاملا مساعدا في طريق الحل للملفات الشائكة المعلقة مع الأكراد ، وعسكريا فإن انتصار الجيش العراقي سيجعله يستعيد فيما بعد عافيته كجيش احترافي قوي كان في وقت من الأوقات من جيوش الشرق الأوسط القوية.

وعلى عكس العراق فإن القضاء على داعش في سوريا سوف يكون تورتة تتقاسمها عدة أطراف في لعبة تجاذبات القوة بتعزيز هذه الأطراف لمساحات سيطرتها على الأرض لتقوية موقفها في مفاوضات الحل السياسي التي دارت عجلتها أخيرا بعد «جنيف4» كما أن هناك الدور الدولي المتوقع من القوى العسكرية وتحديدا الولايات المتحدة التي أصبحت لها قوات على الأرض في سوريا وقواعد لوجستية وبالمثل لكن بدرجة أقل بعض الدول الأوروبية على الأقل بالمشاركة الفعالة في التحالف وبالطبع دور روسيا الذي تجلى أخيرا في استعادة القوات الحكومية لتدمر . ومن جانب آخر تحرك تركيا قوات تابعة لها لبسط نفوذ أكبر من خلال معركة القضاء على داعش، لذلك فإن الوضع السوري ما بعد داعش عسكريا وسياسيا سوف يكون أكثر تعقيدا وغموضا مقارنة بالعراق، لكن القضاء على داعش في سوريا يمكن، في حال تقدم مفاوضات جنيف نحو حل نهائي، أن يكون عامل مساعد بقوة في حل الأزمة.