شرفات

فهمي جدعان: بين نقد الفعل ونقد العقل

20 مارس 2017
20 مارس 2017

عبد الله العليان -

طرح الأكاديمي الفلسطيني د. فهمي جدعان، منذ سنوات مضت، في بعض بحوثه ودراساته «قضية الفعل وليس العقل»، التي يعاني منها الواقع العربي، والتراجعات والانتكاسات التي تستمر مع الأمة العربية منذ استقلالها، من الاستعمار الأجنبي وحتى الآن، ويرى فهمي جدعان، أن أفعالنا هي الإشكالية وليس عقولنا،وان العقل العربي يعمل جيداً، لكنه يعمل لخدمة غايات وأهداف غير موضوعية، لكن الفعل هو الذي ينحرف عن جادة الصواب، والخلل والعطب ليسا في العقل العربي، وأعاد جدعان هذا القول مرة أخرى في كتابه الصادر حديثاً الذي حمل عنوان (مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة)، ويرى أن، الانحراف الكبير الذي شهده النصف الثاني من القرن العشرين العربي، أنه يتمثّل في دعوى الملأ من المفكرين والكتاب العرب المعاصرين أن ما أصاب عالم العرب من نكسات أو هزائم أو إخفاقات يرتد أولاً وقبل كل شيء إلى واقعة طرد العقل من المدينة العربية. وقد أطبق الجميع على أن العقل أو الوعي هو العليل الذي يتعين تطبيبه وعلاجه بالعقاقير أو بإعادة التأهيل والتربية أو بالتدخل الجراحي. وقد بدأ أن الرقية السحرية هنا تتمثل في أن يضع كل واحد منا حول عنقه قلادة تتوسطها نبتة جافة رسمت على ثناياها صورة العقلانية بحيث يضمن التسبيح بحمدها الخلاص والنجاة.وبطبيعة الحال فإن نقائض العقلانية هي الخرافة التي تسخر من التفكير العلمي,أو المنطق الشكلي الذي يحاكم وفقاً لقياس الشاهد على الغائب، أو الاعتقاد الديني الذي يشد الحاضر إلى الماضي ويختزل الوجود الأرضي في وجود ميتافيزيقي أو سماوي، أو التفكير الصوفي الذي يدير ظهره للعقل والعلم. ويترتب على هذا التشخيص أن الأمور ستستوي والأشياء ستستقيم والناس سينصلحون إذا ما تناولنا العقل بالترميم والإصلاح والتوجيه، سواء أتم ذلك بأخذ هذا العقل في ذاته أم بأخذه بتغيير الشروط الموضوعية التي ينشط فيها.ذلك، بطبيعة الحال، هو مذهب الغيارى الذي لم يفقدوا الأمل. أما القدريون القانطون- وحالهم يشبه أن يكون كحال أصحاب المذهب العرقي في النظر- الأنثروبولوجي- فقد أقنعوا أنفسهم بأنه ليس ثمة ما يأذن بإصلاح هذا العقل لأن العطب قار في ماهيته ذاتها:فهو إما قد استنفد قصارى طاقته، وإما أنه عاجز عن تجاوز أفق المفردات الحسية فاقد لآليات النشاط التجريدي والتركيبي والإدراكي الراقية، وإما أنه بكل بساطة يشكو من تخلف ذهني صريح.

والتقصير الحقيقي، كما يرى فهمي جدعان، لا يأتي من هذه الرؤية الثانية- إذ الواقع وعلوم الإنسان والمجتمع قد جرداها من كل أساس علمي موضوعي- لكنه يأتي من جنبات الرؤية الأولى، الطوباوية بشكليها المثالي والمادي كليهما، التي توهم الآخذين بها أن إصلاح العقل يحمل معه بالضرورة إصلاح الواقع، وهي نظرة قديمة جداًّ في حياة الفلسفة، ابتدعها سقراط حين آمن بوحدة النظر والعمل وظن أن العمل بالفضيلة وبالخير يحمل بالضرورة على العمل بهما، وعزّزها أفلاطون حين توّج العقل ملكاً على المدينة الإنسانية، وكرّسها أرسطو، ومن بعده في الإسلام ابن رشد، حين أضفيا على العقل مرجعية مطلقة، واستأنفها ديكارت والعقلانية الغربية حين اختزلت المسألة كلها في «حسن قيادة العقل» وفي الاحتكام إلى العقلانية الموضوعية التي لم يلبث باسكال أن أبان قصورَها، بينما فجّر نيتشه وفرويد قواعدها وأسسها التقليدية، ونبّه النقد المعاصر على نسبيتها و«تاريخيتها».

والحقيقة أنه يلحق بهذا المذهب في النظر قُصوران: الأول يتمثل في عجزه عن تفسير المفارقة الصارخة في حياتنا العملية بين النظر والعمل، أو بين القول والفعل، والثاني يتمثّل في جهل أو تجاهل واقع القوى الأنثروبولوجية الفاعلة في حياة الإنسان، وفي إهمال دواعي «الفعل» وآلياته في توجيه حياتنا ووجودنا على الأرض وبين البشر. إن عبادتنا للعقلانية الموضوعية، ومن بعد للعقلانية الذرائعية أو التقنية، هي التي تفسر بقدر كبير عجزنا القديم المتجدد عن وعي حالة الفصام المانوية في النظر والعمل التي تثقل كاهل هذا الإنسان الذي نسميه، بوجه من وجوه التعميم، بالإنسان العربي، قديماً وحديثاً، وهي التي تقول لنا «لماذا نقول ما لا نفعل؟ ولماذا لا نفعل ما نقول؟» ولِمَ يختص العربي حتى هذا اليوم بهذه الخصيصة المرذولة وهي أنه إنسان قول لا إنسان فعل، وأنه ليس لأحد أن يصدق وعداً ألقاه أو وعيداً توعد به مما يلوح أنه شُبه سائرة نتناقلها جميعاً بلا حرج ونتبينها في أقوال القدماء من صانعي تراثنا وفي أقوال رجال الغرب وقادته المحدثين ممن أصابتهم آفة التعميم المُغالطي فجعلوا العرب أمة غير جديرة بالثقة والتصديق لِما يصدر عن أهلها من أقوال ووعود؟ والحقيقة أن مفارقة النظر للعمل لا تجد لها موطناً عند عامة الناس وحدهم وإنما عند خاصتهم أيضاً، بل وعند صفوة خاصتهم. وقد أبانت كما يقول فهمي جدعان، وقائع السنوات الأخيرة، مثلاً، أن ثلة «مرموقة» من كبار العقلانيين ونقاد العقل قد تخلت تماماً ومرة واحدة عن جميع أسلحتها العقلانية حيث كانت تفرض عليها هذه الوقائع وضع عقلانيتها موضع التنفيذ فلم يكن منها إلا أن وضعتها بين قوسين وذهبت في الطريق المضاد تماماً لأحكام العقل ولم يتماسك من أفرادها إلا نفر قليل. كذلك تكشف بعض الفضائح التي تتفجر هنا وهناك في الأقطار العربية عن أن بعض الذين يتصدرون لقضايا الفكر القومي وللدفاع عن حقوق الإنسان ضالعون تماماً في عملية خرق هذه الحقوق والتنكر لتلك القضايا في ممارساتهم اليومية المتعلقة بنصيب الإنسان العربي نفسه منها.

أما «المثقفون الأحرار» الذين يسوّغون أكثر أشكال الحكم المضاد للحرية ولكرامة الإنسان وحقوقه الطبيعية فإن عددهم كان في اطراد خلال العقود والسنوات الأخيرة.

أن النقد الحقيقي، كما يقول جدعان، ينبغي أن يوجَّه إلى الأفعال، إنه يعني قبل كل شيء أن «الحالة الوضعية للقيم» تعاني اضطرابات سلوكية ظاهرة وأن هذه الاضطرابات التي تتبدى في مناشط الأفراد السلوكية تفضي إلى أحوال ارتكاسية شاملة في حالة المجتمع والدولة بأسرهما، وأن الحراك الاجتماعي والسياسي سيعاني بدوره هذه الأحوال. وليس يخفى على أحد أن التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي اعتورت الأجسام العربية المترامية «من المحيط إلى الخليج» قد تركت آثاراً عميقة حقيقية في قيم الأفراد والمجتمع. أما الحداثة فقد عقدت هذه الآثار وأحدثت خللاً عميقاً في شبكة القسم نفسها مؤدية إلى فوضى شاملة في هذه القيم. ومع أنه ما من مجتمع عربي أو إسلامي- أو غيرهما- قد أجمع بكل أفراده في يوم من الأيام أو عصر من العصور على تمثل القيم نفسها جميعاً، إلا أن تشتّت القيم وتباعدها وتضاربها وفوضاها لم تدرك في يوم من الأيام ما أدركته مجتمعاتنا اليوم، والعلة واضحة. وهي أن النزعة الذرائعية البراجماتية قد غزت جميع مناشط حياتنا وقطاعاتها، وأحدثت اضطرابات عميقة في جذور القيم التقليدية التي استمر بعضها على الالتصاق بهذه الجذور عصياً على التحول إلى قيم الحداثة الجديدة على الرغم من ممارسته لبعض مظاهر هذه القيم وأشكالها. والحقيقة أن القيم التقليدية- في صورها «الشكلانية المادية»- لم تبقَ على حالها إلا في «جزر» محدودة من الفضاءات الاجتماعية الشاسعة. أما في الغالب الأعم فإن القيم قد اختلطت وتضاربت وأنتجت بشراً هاجسهم الرئيس «قيمة ضاربة» يمكن أن نسميها بـ«الليبرالية الفجة» أساسها فردانية ذاتية تنشد «الخير الخاصّ» لأصحابها وتجعل غايات أساسية لها معايير النجاح والمنفعة والمال والسلطة.

***

والحقيقة أنني لا أتفق مع هذه الرؤية التي طرحها فهمي جدعان، في بعض دراساته وحواراته، وأضافه مرة أخرى في هذا الكتاب، الذي عرضنا هذا الفصل رؤيته التي أسماها (نقد الفعل)، وفي اعتقادي أن العقل هو المحرك للفعل، وليس العكس، وفي سواء كانت إيجابية أو سلبية، مبعثها عقل إنسان التي تسبق فعله، ومقولة د/‏‏ فهمي جدعان في رأيي غير صائبة تماما، وهل هناك تنطلق دون أن يسبقها فكر عقلي؟ والأفعال ما هي إلا نتيجة لنشاط العقل، ولذلك فان النقد إن كان صواباً أو خاطئاً للعقل العربي، أراه أقرب للصواب، من مقولة نقد الفعل، وهذه قضية مفروغاً منها،ويرى د/‏‏ فرج طه في معجم علم النفس والتحليل النفسي، أن العقل «موقف فكري، وسلوكي،تجاه قضايا الحياة الاجتماعية والمعرفة، وقضايا العلوم التطبيقية، ويتمثل في اعتبار العقل القيمة العليا في الحياة، ومعيار كل شئ. ومصدر التوجيه في الحياة، وأننا كأفراد يحكمنا نظام عقلي، يقوم على مجموعة من المسلمات، والقوانين الأولية، التي تتفق عليها كل العقول السليمة». إذا العقل هو المحرك الأول لكل الأفعال والأفكار والسلوكيات، وحتى جانب الصواب هذا العقل، فان يضل من العقل، وليس الفعل، لكت للأسف أن د/‏‏ جدعان، يريد يعاكس مشروع محمد عابد الجابري، في نقد العقل العربي، ولكن هذا القول من النقد حاضنة فكرية ونقدية دقيقة، وهذا ما جعل الباحث والكاتب السوري تركي علي الربيعو، ينتقد د/‏‏ فهمي جدعان، ويرى أنه «بحثه عن «الطريق إلى المستقبل» ينطلق جدعان من أرضية مغايرة لتلك الأرضية التي يقف عليها الجابري أو من سلك مسلكه،، فنقد الفعل عنده هو الباب الذي يتعين علينا الولوج منه إلى إعادة تشكيل حياتنا وتوجيه مصيرنا.

وهنا يتساءل جدعان مراراً ما الذي نعنيه حين نزعم أن النقد الحقيقي ينبغي أن يوجه الى الأفعال؟ ويجيب: انه يعني وقبل كل شيء أن «الحالة الوضعية للقيم» تعاني من اضطرابات سلوكية تقود إلى أحوال ارتكاسية شاملة في حالة المجتمع والدولة بأسرهما.

وفي قراءته للحالة الوضعية للقيم يتوقف جدعان عندما يسميها بـ«معركة الأقنعة» أو معركة النفاق وعلى حد تعبيره أيضاً والتي أفضت إلى اختلاط وتضارب القيم وأنتجت بشراً هاجسهم الرئيسي «قيمة ضاربة» يسميها جدعان بـ«الليبرالية الفجة» وأساسها فردانية ذاتية تنشد «الخير الخاص» لأصحابها وتجعل غايات أساسية لها معايير النجاح والمنفعة والمال والسلطة. ومن وجهة نظر جدعان أنه يمكن أن نرد النفاق في الحياة اليومية والتملق الملق في الحياة السياسية وسيادة قيم الربح إلى تلك النزعة الذرائعية البراجماتية والتي غزت جميع مناشط حياتنا وقطاعاتنا وأحدثت اضطرابات عميقة في جذور قيمنا الحديثة منها والتقليدية».