أفكار وآراء

الأزمة الكورية.. توتر حقيقي أم مشكلة نمطية ؟

19 مارس 2017
19 مارس 2017

عماد عريان -

لا بد أن يتساءل كثيرون في هذا العالم من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه الأزمة الراهنة في منطقة شبه الجزيرة الكورية، وهل هي حقًا مواجهة خطيرة هذه المرة مع وجود إدارة أمريكية تتبنى سياسات تكاد أن تكون متشددة، أم أنها مجرد مشكلة نمطية سبق تكرارها مرات عديدة خلال العقود الماضية، ومنذ نهاية الحرب الكورية في مطلع الخمسينات ؟

قراءة طبيعة الأزمة الجديدة الناجمة عن تطورات وأحداث عديدة ومتلاحقة تساعد كثيرًا في الوصول إلى إجابات للتساؤلات السابقة وفقا للقواعد الحاكمة للصراع في تلك المنطقة الملتهبة بأقصى شرق العالم، ولعل ذلك يدفعنا للتساؤل مجددا؛ لماذا تتفاقم الأوضاع وتشتعل سريعًا إلى حد الحروب والمواجهات المسلحة في منطقتنا الشرق أوسطية بينما الأمور هناك تحت السيطرة ولا تفلت خيوطها من بين أصابع الأطراف الفاعلة مهما كان الوصول بالأزمة إلى حافة الهوية !

ومن جانبنا نتساءل؛ إذا كانت سياسات كوريا الشمالية مثيرة للتوتر في منطقة شرق آسيا إلى هذا الحد، ما بين إطلاق صواريخ بالستية وبناء قوة عسكرية ونووية هائلة واغتيال مسؤولين كوريين شماليين داخل البلاد وخارجها مهما كانت درجة القرابة أو الصلة بزعيم البلاد،لأسباب تتعلق بالفساد أو الفشل أو غير ذلك، يصبح التساؤل بالفعل مشروعًا، إلى متى تستمر مثل هذه الممارسات.. ولماذا ؟ ألم يتم سحق الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وتدمير بلاده في غزو شامل عام 2003 فقط لمجرد الاشتباه في امتلاكه أسلحة دمار شامل؟ ألم يتم حصار إيران ومعاقبتها بكثير من السبل منذ الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات وحتى الوقت الراهن لرغبتها في امتلاك برنامج سلمي للطاقة النووية، وتباين المواقف السياسية نحو عدد من القضايا؟ وكذلك ألم يتم تدمير ليبيا وسوريا لمجرد الرغبة في تغيير نظم سياسية وصفت بأنها دكتاتورية ؟

إنَّ الدولة الكورية الشمالية لم تتردد في أكثر من مناسبة في التهديد بضرب وتدمير ولايات أمريكية بالأسلحة النووية، وهي جهارًا نهارًا تعلن عن تجارب نووية وإطلاق صواريخ بالستية متطورة دون خوف أو محاسبة باستثناء بيانات الشجب والإدانة المتكررة من جانب القوى الغربية وسلسلة من العقوبات المتنوعة التي يبدو فشلها حتى الآن - رغم ما يتردد عن ظروف قاسية تعيشها كوريا الشمالية - مثلما فشلت تجاه دول أخرى رغم استمرارها لخمسة عقود كما حدث مع كوبا على سبيل المثال، ولكن في هذه الفترة يزداد التوتر حدة في شبه الجزيرة الكورية بشكل متسارع مع تجدد القصف المدفعي على الحدود من قبل كوريا الشمالية التي أمر زعيمها كيم جونج أون الجيش بالتأهب للحرب، فضلا عن انطلاق مناورات عسكرية كورية جنوبية - أمريكية رغم تهديدات الشمالية التي أطلقت أربعة صواريخ على الأقل تجاه اليابان مؤخرًا، سقط ثلاثة منها في المنطقة الاقتصادية الحصرية لطوكيو الواقعة ضمن مسافة 200 ميل بحري من سواحلها، ولم تتردد في الإعلان أن إطلاق الصواريخ كان للتدريب على ضرب القواعد الأمريكية في اليابان!

وفي هذا السياق وفي تقييم لخطورة الموقف الراهن اعتبر مسؤول كوري شمالي أن الوضع في شبه الجزيرة الكورية أصبح على شفا حرب خلال الأيام الأخيرة بسبب «الاستفزازات العسكرية والسياسية التي تقوم بها الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية» مؤكدًا أن بيونج يانج حذرت جارتها الجنوبية من أنه «إذا لم تترك سيول جميع الوسائل المستخدمة في الحرب النفسية التي تقوم بها فستتلقى ردًا قاسيًا من طرفنا».

ومن اللافت أن الولايات المتحدة تصرفت تجاه هذه التطورات بشكل نمطي متكرر أيضًا اعتمادًا على تصعيد أمني مضاد يتمثل في الإعلان عن نصب منظومات متقدمة مضادة للصواريخ في المنطقة دفاعا عن حلفائها في اليابان وكوريا الجنوبية، بل وأضافت إلى ذلك بعدًا جديدًا يتعلق بالقيادة الكوية الشمالية حيث أبدت واشنطن شكوكا بشأن الدعوات لإجراء حوار معها واعتبرت أن زعيمها يتصرف بشكل «غير عقلاني» واستبعدت أن يستجيب لأي مبادرات دبلوماسية، وكما جاء على لسان السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة عقب جلسة مغلقة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة كيفية التعاطي مع إطلاق بيونج يانج مزيدا من الصواريخ:» نحن لا نتعامل مع شخص عقلاني»، وردًا على دعوة الصين للعودة إلى الحوار قالت: لو كان أي بلد آخر كنا سنناقش الأمر وما كانت المسألة معقدة، نحن نعيد تقييم الكيفية التي علينا أن نتعاطى من خلالها مع كوريا الشمالية مستقبلاً. ولم تفوت المندوبة الأمريكية الفرصة دون أن تؤكد أن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة دون استبعاد المحادثات بشكل كامل،إلا أنها أعلنت أنه يتعين على كوريا الشمالية أن تبدي رغبة في السعي إلى حل دبلوماسي، وقالت «علينا أن نرى كوريا الشمالية تتخذ نوعًا من التحرك الإيجابي قبل أن نتعاطى معهم بجدية»، وفي خضم هذه التفاعلات اقترحت بكين الحليف الأكبر لبيونج يانج أن تعلق كوريا الشمالية برنامجها النووي مقابل وقف المناورات العسكرية المشتركة التي تجريها الولايات المتحدة في الجنوب، في اقتراح لم يجد آذانا صاغية.

ويجيء توتر العلاقات بين كوريا الشمالية وماليزيا بشكل كبير خلال الأيام الماضية وصولا إلى الوقوع في أزمة دبلوماسية حادة بين الدولتين ليصب مزيدًا من الزيت على النيران المشتعلة بالفعل،على خلفية قضية مقتل «كيم جونج» الأخ غير الشقيق لزعيم كوريا الشمالية بغاز أعصاب في مطار كوالالمبور يوم 13 فبراير الماضي، وأثارت القضية خلافات شديدة بين الدولتين بعد توصل الشرطة الماليزية في تحقيقاتها إلى ما يشير لاستخدام غاز فتاك للأعصاب -محظور دوليًا- بالتزامن مع صدور تقارير وتصريحات دولية تشير إلى احتمالية تورط عملاء من كوريا الشمالية في عملية الاغتيال، فيما وجهت ماليزيا الاتهام رسميا لامرأتين.ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل دق ناقوس الخطر فيما يتعلق بإمكانية تأثر حركة التجارة بين الدولتين وتضاؤل التبادلات التجارية، وكذلك انحسار الاستثمارات بينهما، وذلك على خلفية اتخاذ الدولتين أولى خطوات خفض التمثيل الدبلوماسي أو قطع العلاقات الدبلوماسية كاملة بعدما قررت السلطات الماليزية طرد سفير كوريا الشمالية من البلاد، مؤكدة أن «سفير كوريا الشمالية في بلادها أصبح شخصا غير مرغوب فيه» ومنحته 48 ساعة لمغادرة البلاد» بعد مقتل «كيم جونج نام» - الذي انتقد نظام عائلته وأخيه كيم جونج أون- وقالت الشرطة إن المرأتين المتهمتين في القضية وضعتا غاز الأعصاب (فى إكس) على وجه «كيم» في واقعة رصدتها كاميرات المراقبة الأمنية،وهذه المادة الكيميائية مدرجة على قائمة الأمم المتحدة لأسلحة الدمار الشامل.

ويرى محللون استراتيجيون في رؤيتهم الشاملة للمشهد أن كوريا الشمالية والولايات المتحدة تمارسان هذه الأيام ما يعرف في حقل السياسة الدولية بنظرية المباريات أو استراتيجية الشد والجذب في العلاقات الدولية، بخليط من مفاهيم نظريات السياسة الدولية، تلعب دورها في الصراع والتصعيد الدائر في شبه الجزيرة الكورية مثل التصعيد والتهديد والمناورات السياسية والعسكرية والدبلوماسية ودبلوماسية التأرجح الدبلوماسي، إلى آخر مصطلحات نظريات السياسة الدولية، وللأمم المتحدة دور في لعبة الاستراتيجية هذه من خلال موافقتها على المزيد من العقوبات ضد كوريا الشمالية، الأمر الذي أدى إلى المزيد من التصعيد الكوري الشمالي وإعلانها بأنها سوف تضرب ضرباتها الصاروخية إلى العمق الأمريكي، ولكن تهديدات الجارة الجنوبية أيضا شكلت مصدر قلق وخوف لدى الكثير من اللاعبين الأساسيين في لعبة المباريات الاستراتيجية حيث أعلن الرئيس الكوري الشمالي انه في حالة تعرض بلاده لضربات عسكرية من الجنوب وحلفائه فسوف يستهدف القادة الكوريين الجنوبيين في مواقعهم مباشرة من خلال رد صاعق.

ومن جانب آخر يبرز الجانبان الروسي والصيني ليشكلا معًا جزءًا من الفرق المتبارية في لعبة الاستراتيجية الآسيوية، والتي تتخذ من بحر الصين مسرحا لها.هاتان القوتان مارستا دور المرشد والحكيم في مرات عديدة في كيفية إدارة مجريات اللعب الاستراتيجي وممارسة التهديد الناعم للجار الكوري الشمالي مع الحفاظ على خطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها.ومرة أخرى تظهر أهمية القوى الإقليمية الفاعلة في حفظ التوازن بين مختلف الطراف، وأغلب الظن أن اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة نفسها سوف تنصاع لقواعد اللعبة المتبعة في المنطقة ما دامت تتحكم في خيوطها ولم تخرج عن حدود السيطرة، ما يعني أننا مرة أخرى أمام مشكلة نمطية متكررة حتى ولو أخذت بعض الأشكال المختلفة التي قد تثير المخاوف ولكنها لن تفجر الموقف برمته.