أفكار وآراء

«رباعية» الجامعة العربية .. وإشكالية «تعدد المرجعيات»

17 مارس 2017
17 مارس 2017

علاء الدين يوسف -

أصبحت الأزمة الليبية في مأزق شديد الخطورة والتعقيد نتيجة التطورات المؤسفة التي تعرضت لها على الصعد الأمنية والعسكرية والسياسية في الأسابيع القليلة الماضية، وبعدما كان الحديث عن حالة سلام قاب قوسين أو أدنى، بات الحديث عن الحاجة إلى جهود خارقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!  

أين الخطأ في ما تعيشه الدولة الليبية في الوقت الراهن وكيف يتحول الحديث من مبادرات عديدة وجهود مكثفة من جانب أطراف إقليمية ودولية وكذلك أطراف داخلية متعددة وصولا إلى خريطة طريق سياسية جديدة تخلص البلاد من شبح الحرب الأهلية، إلى مواجهات عسكرية عنيفة وانسداد شرايين أفق الحل السياسي وتوقف الحوار بين الأطراف المعنية بما يشبه العودة إلى الربع «صفر»؟

تكمن أهمية هذا التساؤل في محاولة معرفة أسباب التناقض الشديد فيما بين المقدمات المبشرة التي ولدت مع إعلانات القاهرة وتونس حول الحوار الوطني الليبي وظهور مؤشرات على إمكانية صياغة تسوية سياسية شاملة- أو هكذا بدت الأمور- والتوترات الأمنية المتصاعدة التي بدأت بمحاولتي اغتيال لرئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج وكذلك أحد كبار المسؤولين في الجيش الوطني الليبي ثم المعارك العسكرية العنيفة التي نشبت في العاصمة طرابلس بين الميليشيات المسلحة قبل أن تشن قوات سرايا الدفاع عن بنغازي هجومها الكبير والمفاجئ على منطقة المثلث النفطي واسترداد بعض مواقعه من قوات قائد الجيش خليفة حفتر، وهو التطور الأهم الذي أعقبه ردود فعل عنيفة من جانب طيران الجيش في محاولة لاسترداد المواقع المفقودة والتي تم تسليمها- مثلما أعلن- للحرس النفطي التابع لحكومة الوفاق، وأدى أيضا إلى أعلان برلمان طبرق عن وقف الحوار السياسي وإسقاط اتفاق الصخيرات واعتباره كأن لم يكن، لتزداد الأمور تعقيدا وصعوبة، وتجعل من الحل السياسي المنشود حلما بعيد المنال إن لم يكن مستحيلا، فضلا عن فتح جميع الأبواب على مصراعيها مشرعة لتدخلات إقليمية ودولية لا حدود لها وبما قد يترتب على ذلك من تداعيات كارثية، ولعل من الضروري الإشارة إلى جملة من التطورات التي وصلت بالأزمة الليبية إلى هذا المأزق الخطير ونجملها في النقاط التالية:

أولا: إن الأطراف الداخلية الليبية تتحمل مسئولية كبيرة عما آلت إليه أحوال ليبيا بتمسكها بمصالح ذاتية ضيقة على حساب استقرار وأمن وأمان بلادها وإضاعتها أكثر من فرصة للتسوية السياسية حتى ولو بشيء من التضحية بالمصالح الخاصة وتوحيد الأهداف والقوى الوطنية لمحاربة الميليشيات والتنظيمات الإرهابية في إطار الجهود الرامية لإعادة الاستقرار لربوع الأراضي الليبية، ويتجلى ذلك بوضوح في استمرار وجود حكومتين وبرلمانين وقوات مسلحة تابعة لكل جهة حاكمة وذلك برغم الحوارات المستمرة منذ إعلان اتفاق «الصخيرات» الذي رتب بعض الخطوات لإنهاء الانقسام القائم في ليبيا.

ثانيا: رغم ذلك، وكثير من النقاط الإيجابية إلا أنه لا يمكن تبرئة اتفاق الصخيرات كليا من مسؤولية المشهد الراهن للازمة الليبية حيث ولد مبتسرا في بعض جوانبه بعجزه عن تحقيق حالة الوفاق والإجماع المنشودة وتوحيد جميع الفرق والطوائف والجماعات الليبية على اختلاف أطيافها وتياراتها، وتجاهله لقوى فاعلة على أرض الواقع، مما فتح الباب أمام عدم فاعليته في مراحل مبكرة جدا، وأدى ذلك إلى مطالبات كثيرة بتعديله، وكانت هناك استعدادات بالفعل لتحقيق ذلك إلا أنه من الواضح أن قوى داخلية وإقليمية وربما دولية كذلك ترفض ذلك تحقيقا لمصالح خاصة في ضرب الجيش الوطني الليبي وتقليص مكانة قائده خليفة حفتر، والنتيجة الواضحة لذلك هي إسقاط اتفاق الصخيرات كمرجعية أساسية لتسوية الأزمة القائمة خاصة مع التطورات العسكرية والسياسية الأخيرة، وفتح الباب أمام مرجعيات عديدة مثل إعلانات القاهرة وتونس والجزائر والحوار الليبي - الليبي، ثم جاءت المفاجأة الكبرى في ختام اجتماعات المجلس الوزاري العربي بالقاهرة قبل أيام بإعلان الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط عن السعي لإقامة تحالف رباعي من الجامعة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ممثلة بمبعوثها الخاص للأزمة الليبية وذلك للعمل على صياغة تسوية سياسية للازمة، الأمر الذي يعني أن العالم قد يكون بصدد مرجعية جديدة تماما للأزمة الليبية، وأغلب الظن أن ذلك ليس في صالح القضية، وما يؤكد ذلك أن القضية الفلسطينية على سبيل المثال عانت أشد المعاناة من ظاهرة مماثلة اسمها «تعدد المرجعيات».

ثالثا: لعبت التدخلات الإقليمية والدولية غير المسؤولة دورا تخريبيا اتسم بالسعي لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية خاصة في إطار الصراع على الثروات النفطية الليبية، وكذلك بالأنانية الشديدة التي كانت تبدت بوضوح في حماية المصالح الأوروبية والغربية عموما دون التركيز على إقامة السلام الشامل في ليبيا، وأبرز تلك المصالح الانحياز لحكومة طرابلس على حساب الأطراف الأخرى وقضايا اللاجئين والهجرة غير الشرعية، وربما الشرعية أيضا، فمنذ البداية أعربت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن دعمها الكامل لحكومة الوفاق الوطني وعزمها العمل على نحو وثيق مع حكومة الوفاق الوطني التي اعتبرتها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا.

وليس خافيا أن أي جهود أوروبية لدعم العملية السياسية في ليبيا كانت تهدف لمصالح خاصة تتعلق بالحد من الهجرة وتدفق اللاجئين وقد أطلق الاتحاد الأوروبي «العملية صوفيا» لوضع حد لتهريب البشر من ليبيا إلى أوروبا. دول الاتحاد الأوروبي وتحت ضغوط مزعومة لأزمة اللاجئين لا تخفي قلقها من تفاقم الأزمة الليبية، فقد حذرت هيئة حماية الحدود البرية الأوروبية «فرونتكس»من تزايد أعداد اللاجئين إلى إيطاليا من ليبيا،حيث سجل توافد حوالي 181 ألف لاجئ سنة 2016 وقضى ما يزيد عن 4600 غرقاً في مياه البحر الأبيض المتوسط، وقد فاق عدد الذين توافدوا عبر سواحل ليبيا المتوسطية التي يصل طولها 1850 كيلومتراً، خلال العام الماضي 13 إلى 14 مرة أعداد اللاجئين الوافدين من تركيا إلى اليونان، ما جعل مهمة إغلاق طرق ليبيا نحو أوروبا أولوية للقارة العجوز دون علاج جذور المشكلة الأم.

ولم تفوت المستشارة الألمانية ميركل فرصة جولتها ومباحثاتها في مصر وتونس دون التركيز على هذه القضية بشكل كبير، فأكدت خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقاهرة أنه تم الاتفاق مع مصر على نقاط ملموسة بشأن الحدود، لافتة إلى أن طول الحدود بين مصر وليبيا يشكل فرصة للإرهابيين، مؤكدة أنه سيتم التركيز على مسألة مراقبة الحدود وتزويد مصر بالدعم لهذا الغرض ودعمها أيضا للتعامل مع أعداد المهاجرين الذين استقبلتهم. ولكن الأمر اللافت في تصريحاتها والذي نسف على وجه التقريب الجهود العربية الأخيرة لتسوية الأزمة حديثها عن حتمية إشراك أطراف إقليمية بعينها بجانب الأطراف الفاعلة في جهود السلام بليبيا، معربة عن اعتقادها بأن «جهود السلام (العربية) في ليبيا لم تفشل ولكنها خطوات أولى، والأمور لا تتطور بسرعة وعلينا العمل بشكل مشترك على إنجاح هذه الجهود ويجب إشراك كافة الفاعلين وأيضا أطراف إقليمية أخرى بدعم من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة».

رابعا:أغلب الظن أن من بين التطورات المهمة التي أدت إلى تفجير الموقف على هذه الشاكلة في الداخل الليبي صعود نجم قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر خلال الأشهر الماضية وظهوره كرقم صعب في المعادلة الليبية ونجاحه إلى حد كبير في الحصول على شرعية دولية من جانب أطراف خارجية خاصة بعد الزيارة التي قام بها للعاصمة الروسية موسكو، فضلا عن تقارير أمريكية تحدثت عن وضعيته المميزة لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، ويؤكد ذلك تصريحات لوليد فارس، مستشار ترامب خلال حملته الانتخابية بأنه: «إذا كان هناك من تعامل للإدارة الأمريكية مع جهة عسكرية، فهي مع الجيش الليبي بقيادة حفتر»، وكما كان متوقعا فان صعود نجم حفتر قد حمل معه تداعيات أمنية وعسكرية على الداخل الليبي حيث طرح أسئلة حول عملية إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية وإدماج الميليشيات المتعددة بينما عمدت أطراف أخرى من تيارات معينة في الداخل الليبي وربما بمساعدة أطراف إقليمية إلى تفجير الموقف برمته وضرب صعود قائد الجيش.

أما ما يجب أن يخشاه الجميع في ضوء هذه المعطيات المخيفة أن يتم تغليب لغة الحل العسكري على حساب التسوية السياسية بين الأطراف المتصارعة وأن يسفر ذلك عن ٍٍمأساة إنسانية كبرى على غرار الأزمة السورية وتفجر أزمة لاجئين جديدة على حدود وسواحل ليبيا وربما انعكاسات أمنية سلبية لدول جوار ليبيا التي تبنت جهودا مشتركة في اجتماعات عديدة لتجنب الخيار العسكري لحل الأزمة، إلا أن هذه الجهود لم تعجب أطرافا أخرى على ما يبدو.