أفكار وآراء

منظمة التجارة العالمية والعقوبات الأحادية

15 مارس 2017
15 مارس 2017

د. عبدالقادر ورسمه غالب -

Email: [email protected] -

فرض العقوبات الاقتصادية على الدول والمؤسسات يقع ضمن اختصاص منظمة الأمم المتحدة التي يمنحها «ميثاق الأمم المتحدة» الحق في فرض العقوبات الاقتصادية عبر قرارات يصدرها مجلس الأمن استنادا إلى الحالات والصلاحيات المحددة في الميثاق وبعد المداولات الكافية ودراسة الحالة التي تستدعي اتخاذ العقوبات. والغرض الرئيسي من منح هذه السلطات لمنظمة الأمم المتحدة، هو العمل على استتباب الأمن في ربوع العالم، ويتم اتخاذ العقوبات الاقتصادية كجزاء عقابي ضد الدول والمؤسسات التي تهدد الأمن والسلم العالميين. ونعتقد أن وجود هذه الوسيلة العقابية في يد منظمة الأمم المتحدة أمر مهم لكبح جماح من يهدد سلامة العالم. و«العصا لمن عصى» وتسبب في إخلال الأمن العالمي بأي وسيلة.

الرئيس الأمريكي هاري ترومان، اثر قيام الحرب الصينية الكورية، أعلن حالة الطوارئ الوطنية وأصدر قرارًا بإنشاء «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية» والمعروف اختصارا بـ«أوفاك». ولقد تم تكليف «أوفاك» بفرض عقوبات وتجميد الأصول الصينية الكورية التي تقع داخل منظومة الاختصاص الأمريكي وذلك كعقاب لهاتين الدولتين لتهديدهما لسلامة وأمن أمريكا. ومنذ ذلك الوقت ظل هذا المكتب يقوم بهذا الدور وتم فرض العقوبات على العديد من الدول، ومنها ما حدث أخيرًا لروسيا بعد تدخلها في القرم بأوكرانيا. وبالنسبة لفرض العقوبات علي روسيا فقد فشلت أمريكا في إقناع دول الوحدة الأوروبية، بالرغم من العلاقة الحميمة بينهما، في الانضمام لها في فرض العقوبات وذلك نظرًا للمصالح التجارية المتشعبة بين روسيا والاتحاد الأوروبي خاصة بالنسبة للغاز الروسي الذي تحتاج له أوروبا وما ينفقه عشرات الآلاف من السياح الروس في أوروبا والأرباح الناتجة من مبيعات نقل التكنولوجيا.. ولقد قال الاتحاد الأوروبي لأمريكا إنه سيدرس الحالة ويقرر فيها من وجهة النظر الأوروبية وليس كما تريد أمريكا. ومن هذا التباين في المواقف يتضح أن المصالح الأمريكية ليس بالضرورة تتماشي مع مصالح الآخرين حتى الحلفاء منهم، ولذا أمريكا مضت وحدها وفرضت العقوبات على روسيا... وأمريكا في حالات عديدة تفرض عقوبات أحادية وبعد ذلك تلجأ للأمم المتحدة وللحلفاء للوقوف معها، وهذا فيه تجاوز للأمم المتحدة.

ومن الجدير بالذكر أن روسيا هددت أمريكا بأن ما قامت به من فرض العقوبات على المصارف والشركات وبعض الشخصيات الروسية غير مشروع وغير قانوني ويخالف قوانين منظمة التجارة الدولية التي ظلت أمريكا تركض خلفها وتتمسك بمبادئها صباح مساء. وبالفعل تقدمت روسيا بمذكرة لمنظمة التجارة العالمية توضع فيها مخالفة الإجراءات الأمريكية ضد مؤسساتها لأنظمة ولوائح منظمة التجارة العالمية. وهذا الموقف الروسي الحاسم، إضافة لإجراءات روسية أخرى، أدى إلى حدوث بعض التغيير في مسار الإجراءات والعقوبات التي كانت أمريكا في الطريق لتطبيقها على روسيا، ولا يفل الحديد إلا الحديد. ومن المعلوم، ووفق أنظمة منظمة التجارة العالمية فان التجارة العالمية يجب أن تكون حرة بين الدول بدون أي مؤثرات وخالية مما يعيق المنافسة التجارية الشريفة وضرورة المعاملة بالمثل بل ضرورة المعاملة التفضيلية في بعض الحالات... وكل هذه المبادئ المتفق عليها عالميا في أروقة منظمة التجارة العالمية تقف ضد العقوبات الأمريكية الأحادية.

والآن أمريكا «ترمب» تضع يدها مع روسيا «بوتين» وهناك إجراءات وتلميحات عديدة لرفع العقوبات عن روسيا. وهذا يدلل على أن هذه السياسات غير عميقة وليس لها سند مادي قوي، مما يجعلها تتغير بتغير الشخصيات ومن هو علي كرسي الحكم في أمريكا. وبكل أسف نقول، إذا جاز هذا، أن العداوة الأمريكية الروسية الآن في انحسار وكنا نتطلع لنرى رد منظمة التجارة العالمية على الشكوى الروسية أو نرى أحكاما وسوابق قضائية ربما كانت ستشكل تاريخا في مسار العلاقات التجارية والعدالة الدولية والعقوبات الأحادية.

إن كل الدول والشركات والمؤسسات، التي صدر ضدها قرار العقوبات الأمريكي الأحادي، يجوز لها الاستفادة من الموقف الروسي الذي يؤسس أن قرار العقوبات الأمريكي الأحادي مخالف لأحكام منظمة التجارة العالمية... الابن الشرعي لأمريكا، منذ قيام المنظمة حتى الآن. وبالاطلاع على الأحكام العامة والتفصيلية لمنظمة التجارة العالمية التي أشرنا لها أعلاه نرى أن القرار الأمريكي يخالفها تماما ويسير في الاتجاه المعاكس لها، ومن هذا يجوز اللجوء لمنظمة التجارة العالمية وفق الإجراءات القضائية والعدلية الخاصة بها، أو عبر المحاكم القضائية المختصة، وذلك من أجل نقض أو إبطال القرار الأمريكي الأحادي بفرض العقوبات الاقتصادية.

من الناحية القانونية فإن قرارات مكتب «أوفاك» يمكن الوقوف ضدها، عبر عدة مراحل، يمكن أن تبدأ من تقديم استئناف أو شكوى لوزير الخزانة الأمريكية بصفته الوزير الذي يتبع له مكتب «أوفاك»، وقرار وزير الخزانة إذا كان غير مقبول يمكن الوقوف ضده بالكتابة للرئيس الأمريكي بصفته قمة الجهاز التنفيذي في أمريكا. وبعد استنفاذ كل المراحل الإدارية التنفيذية، دون الحصول على القرارات الإدارية المقبولة، يجوز اللجوء للسلطة القضائية صاحبة الفصل القضائي في الأمر من جميع جوانيه. والسلطة القضائية في أمريكا مستقلة تمامًا وتنظر من المنظور القضائي تحقيقًا للعدالة وسيادة القانون. وكما ذكرنا أعلاه هناك مؤشرات إيجابية عديدة تبين أن قرارات العقوبات يمكن إبطالها بواسطة المحاكم، ونتمنى أن يقوم أي بلد أو أية جهة أخرى ممن صدرت قرارات العقوبات ضدهم برفع الأمر للمحاكم الأمريكية ضد قرارات «أوفاك». ونتمنى هذا لنرى موقف المحاكم من الناحية القانونية، وهناك احتمال كبير جدًا في أن يرتد سيف العدالة على مكتب «أوفاك» والقائمين على أمره حتى لو افترضنا أن الحكومة الأمريكية ستلجأ للحصانة لحمايتهم وحماية «أوفاك» وحماية نفسها. والعديد من القانونيين الأمريكان يقولون: إن قرارات أوفاك يمكن دحضها من النواحي القانونية.

واذا رجعنا للأسابيع السابقة وتابعنا الصراع الدائر بين الرئيس الأمريكي الجديد، قمة السلطة التنفيذية في أمريكا، والقضاء الأمريكي نلاحظ أن القضاء الأمريكي أصدر قراراته القوية ضد الأوامر التنفيذية التي أصدرها «ترمب» في أيامه الأولى بمنع سفر وهجرة مواطني بعض الدول لأمريكا. وهذا الموقف القضائي يستند إلى الدستور والقانون الأمريكي ومبادئ حقوق الإنسان؛ لأن القرارات التنفيذية التي أصدرها الرئيس الأمريكي مخالفة لهم. وقالت النائب العام: إن قرار «ترامب» مخالف للقانون والأعراف الأمريكية ولكنه، وبمنتهى الحماقة عزلها من موقعها بدون احترام لرأيها الذي هو القانون بعينه. والوضع الذي حدث من النائب العام الأمريكي والمحاكم الأمريكية بالنسبة لأوامر «ترامب» التنفيذية بشأن سفر وهجرة مواطني بعض الدول لأمريكا، في نظرنا، يشبه قرارات العقوبات الصادرة من مكتب «أوفاك» والتي تستمر حتى الآن؛ لأن أحد لم يرفعها للقضاء الأمريكي للفصل النهائي فيها.