أفكار وآراء

ما الذي يجري في الولايات المتحدة؟

14 مارس 2017
14 مارس 2017

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

لا يمكن للمرء أن يتجاهل أو يتغافل عن رصد التحولات والتبديلات التي تجري بها المقادير في الداخل الأمريكي، فالولايات المتحدة الأمريكية ليست دولة اعتيادية يمكن اعتبار ما يحدث فيها هامش تجري به المقادير، لكنها بالفعل روما العصر مالئة الدنيا وشاغلة الناس، بعد نحو خمسين يومًا على تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهامه رسميًا، وبات السؤال إلى أين تمضي أمريكا مع الرئيس الجديد؟  

قبل الجواب ينبغي علينا الإشارة إلى ركيزتين جوهريتين قامت أمريكا عليهما، الأولى هي فكرة الاستثنائية الأمريكية، بمعنى أنها دولة استثنائية في رسالتها، وفي أهدافها، وبالتالي في آلياتها وأدواتها، أما الركيزة الثانية فهي أنها دولة بمثابة مدينة فوق جبل، تنير للجالسين في الظلمة، أضواء من الديمقراطية، والإنسانية، من السلم والعدل.

عبر هذين الأنموذجين وجدت أمريكا لها طريقا حول العالم، بل وصارت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنوع خاص نموذجا يحتذى ومثالا يسعى الجميع حول العالم للاقتداء به.

الاستثنائية الأمريكية والمدينة فوق جبل، تم بلورتهما عبر أجيال وأجيال من المهاجرين الأمريكيين، هؤلاء الذين جاؤوا من الضفة الأوروبية الكبرى في القرون الوسطى، كانت الأجيال المهاجرة الأولى من البيض تنظر إلى أمريكا بوصفها «كنعان الجديدة»، وكأنها الأرض التي تحتضن الفارين من الاضطهاد المذهبي والفكري، ولهذا جاء الدستور الأمريكي علماني، بمعنى أنه لم يكن يميز بين أصحاب الأديان، ولا تقوم وظيفة من وظائف الدولة على خلفية دينية أو عقائدية، ومن هنا وجدت أمريكا حظوة في عيون كل المهاجرين.

يحتاج المرء إلى كتب للإشارة والإشادة بما أضافه المهاجرون إلى أمريكا، في كل مناحي الحياة، ولا نغالي أن قلنا أن غالبية الثورة التكنولوجيا والعلمية بل الفضائية والعسكرية، التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا، انما مردها ومرجعها العلماء الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي المقدمة منهم العلماء الذين صنعوا لأمريكا القنبلة الذرية كاوبنهايمر وصحبه، ناهيك عن «اينشتاين» وإضافاته للعلم الأمريكي، وهنري كيسنجر ولمساته وسماته على السياسة الأمريكية.

في هذا الصدد يتساءل المرء هل يمكن للمرء أن يتصور أمريكا مغلقة الحدود بأسوار، أو أمريكا الطاردة وليس الجاذبة، أمريكا القائمة علي التمييز الديني أو العنصري؟... لماذا الآن ومن جديد طرح مثل هذه التساؤلات؟

خلال حملته الانتخابية الرئاسية تحدث المرشح وقتها دونالد ترامب، عن رؤيته للاجئين والمهاجرين إلي الولايات المتحدة، وقتها اعتبر كثيرون حول العالم أن الأمر برمته لا يغدو سوى مزايدات انتخابية، لكن واقع الأمر أن الشعارات الترامبية جميعها وجدت طريقها إلى التنفيذ، فقد هدد بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة خلف المحيط الهادي، وقد فعلها، وعلى هذا المنوال مضى في تنفيذ تهديداته، ففرض حظرًا على دخول اللاجئين من دول ذات غالبية أسلامية، الأمر الذي يتسق ورؤاه التي تحدث عنها.

يعن للمرء أن يتساءل هل كانت قرارات ترامب فرصة جيدة للأمريكيين عمومًا، بمختلف طبقاتهم وفئاتهم، من رجال الدين والعلمانيين، من المواطنين العاديين ومن رجالات النخبة، من الرجال والنساء، الكبار والصغار، هل كانت فرصة لإعادة اكتشاف أمريكا من جديد، أمريكا الاستثنائية؟

ربما ذلك كذلك بالفعل، فقد تحركت أمريكا الشعبوية وأمريكا المؤسساتية، في اشكال مثيرة، تعارض قرارات ترامب، ولا يمكن للمرء أن يتجاهل المواقف الإيجابية لمسؤولين أمريكيين سابقين ذهبوا مذهبًا حميدًا جدًا في الدفاع عن صورة بلادهم البراقة، التي لا تميز بين مواطن وآخر على أساس من الدين أو العقيدة.

خذ إليك علي سبيل المثال موقف وزيرة خارجية أمريكا الأسبق «مادلين أولبرايت» تلك التي شغلت منصب وزير خارجية البلاد في زمن الرئيس الديمقراطي الأسبق «بيل كلينتون» قالت أولبرايت: لقد ولدت كاثوليكية ولاحقًا تحولت إلى البروتستانتية، وأكتشف مؤخرًا جذوري اليهودية، ومع ذلك فأنني مستعدة لأن أسجل أسمي كمسلمة دفاعًا عن المسلمين.

ما هي الدوافع التي قادت أولبرايت إلى هذا التصريح القوي؟

تحدثت أولبرايت على هذا النحو في مواجهة اقتراح تحدث به بالبعض وأن لم تتبلور له صورة على أرض الواقع حتى الساعة، كان يقضي بأن تجمع أسماء مسلمي أمريكا وتوضع في قوائم مستقلة، تمهيدًا لأية إجراءات غير ديمقراطية لاحقا.

الفكرة السابقة سيئة السمعة تاريخيًا، ذلك أنها تعود بالزمن إلى الوراء، إلى عهود من الشمولية، وحتى تاريخ الولايات المتحدة ذاتها لا يخلو من مثل هذه الأحداث المكروهة، فالمعروف أنه غداة موقعة بيرل هاربور في الحرب العالمية الثانية من قبل اليابانيين، وقبل قصف هيروشيما ونجازاكي بالقنابل النووية الأمريكية، احتجز الأمريكيون اليابانيين في معسكرات عزل، ذلك أنه اعتبر كل ياباني هو مشروع إرهابي، الأمر الذي يمكن للمرء أن يستمع إلى إرهاصات مشابهة له في الحال ويخشى من أن تسود في الاستقبال.

الانتفاضة الأمريكية التي تحاول أن تعيد لأمريكا وللأمريكيين صورة بلادهم البراقة في عيون الناس، لم تتوقف عند حدود العوام، بل امتدت إلى جماعات المفكرين والمثقفين فقد امتلأت صفحات الصحف الأمريكية، والمجلات الكبرى ذات السمعة العالمية والأمريكية التاريخية، بالنقد الحاد لقرارات الرئيس ترامب، وللأحادية الذهنية التي تسيطر عليها، لاسيما وأنها تختصم من سمعة أمريكا المعروفة تاريخيا بفتح أبوابها لاستقبال مهاجرين من كافة أرجاء العالم.

لم يقف هؤلاء بمفردهم وإنما تضامن معهم عدد لا بأس به من فناني وفنانات هوليوود، ولا ينسى المرء أن هناك من بين هؤلاء أصوات عادلة جدا تجاه العرب والمسلمين، مثل الممثل الأمريكي «بن أفليك»، وهو أحد أكثر الممثلين الأمريكيين ثقافة وفكرًا وسعة أفق واطلاع وكثيرًا ما دافع عن العرب والمسلمين دفاعا علمانيا، عقلانيا وموضوعيا، دفاعا يستند إلى رؤي تاريخية تحاجج بالأحداث الحقيقية وبوقائع التاريخ، لا بما هو متخيل أو ما هو مدسوس ومكذوب.

ضمن ما يجري في الداخل الأمريكي نجد مشهدًا إيجابيًا يتصل بحقيقة الدولة الأمريكية وبنيتها الهيكلية، وبالفصل بين السلطات، ذلك أنه وأن كان ترامب يقف على رأس السلطة التنفيذية، إلا أن ذلك لا يعطيه أي حق في مواجهة أو مجابهة السلطة القضائية إلا عبر الآليات والأدوات القانونية.

لقد شهدنا موقفا قضائيا أمريكيا ناصع البياض، من قبل قضاة فيدراليين، رفضوا قرارات الرئيس الأمريكي، واعتبروها غير دستورية، والمثير أنه بمجرد وصول قرارات المحكمة الفيدرالية إلى القائمين على وزارة الأمن الداخلي، لا سيما في الموانئ الأمريكية، والمطارات حول البلاد، نفذ هؤلاء توصيات المحكمة، وسمحوا بدخول كل من لديه تأشيره دخول سارية المفعول وصحيحة، وكذلك حاملي البطاقات الخضراء، ما يعني أن قرارات السلطة القضائية أوقفت توجها تنفيذيا وأمرا يتصل بسلطات الرئيس التنفيذية، بسبب شبهة ما بأن ما يجري غير دستوري، وهو ما دعا الرئيس إلى إصدار قرار تنفيذي جديد استبعد منه العراق قبل أيام.

الأحداث لا تتوقف في الداخل الأمريكي، ويبدو أن المشهد لن يتوقف عند هذا المنحي، فهناك أحاديث عن خطة للرئيس الأمريكي ترامب لا تتصل باللاجئين القادمين أو المهاجرين الحالمين بدخول البلاد، بل ترحيل ملايين من المهاجرين غير الشرعيين والذين دخلوا البلاد في الأعوام وربما العقود المنصرمة.

تفاصيل الخطة جاءت في مذكرتين نشرنهما وزارة الأمن الداخلي مشيرة إلى أن الطرد قد يشمل جميع المهاجرين غير الشرعيين الذين يقدر عددهم بـ11 مليون موجودين على الأراضي الأمريكية، وفي المذكرتين أصدر وزير الأمن الداخلي جون كيلي أمرًا لعناصر الجمارك والهجرة بطرد كافة المهاجرين السريين الذين يعثرون عليهم أثناء القيام بواجباتهم في أسرع وقت ممكن.

حددت الإدارة الأمريكية سبعة مستويات من الأولوية لإبعاد المهاجرين السريين بدءًا بالذين ارتكبوا جنحا أو جرائم، ويترك للموظفين حرية تقييم الخطر الذي يطرحه شخص دون أوراق ثبوتية على السلامة العامة أو الأمن القومي، لكن المذكرتين تبقيان على الحماية التي منحها الرئيس أوباما منذ 2012 للأشخاص دون أوراق ثبوتية الذين أتوا أطفالاً إلى الولايات المتحدة في إطار برنامج «داكا» وجاء فيهما أيضا «إن تعفي الوزارة أي فئة من الأجانب يمكن أبعادهم، باستثناء بعض الحالات النادرة».

السطور السابقة لم تتناول ضمن ما يجري في أمريكا أبعاد السياسة الخارجية، ولا العلاقات بين الجمهوريين والديمقراطيين، التي تعاني خللاً كبيرًا، بل أن العلاقات ما بين الجمهوريين وبعضهم البعض أيضا في حاجة إلى وقت طويل لإزالة العقبات والمشكلات بينهم وبين أنفسهم.

إلى أين ستمضي الأحداث بالولايات المتحدة؟

حكما هناك أزمة المهاجرين واللاجئين على صعيد العلاقات الدولية المضطربة، ما دعا القائمين على الساعة النووية العالمية إلى تقديمها بضع دقائق قبل المواجهة النووية العالمية القادمة.

عما قريب ستأتي المواجهة ولا شك بين المؤسسة الرئاسية الأمريكية وبين مؤسسات الدولة القضائية والتشريعية، والمستقبل الأمريكي القادم لن يخرج عن إطارين فإما أن تنتصر المؤسسات والأعراف والتقاليد المؤسسية الأمريكية السائدة، فتثبت أمريكا أنها دولة مؤسسات قوية فعلا، وإما أن ينجح ترامب في قلب الهرم، وبهذا تنهار الثقة بمؤسسة النظام الأمريكي بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج داخل أمريكا وخارجها أيضا، إن كان ذلك هو الحال فعلا.