أفكار وآراء

إصلاح التعليم .. لا يكفي وحده لمنع التطرف

14 مارس 2017
14 مارس 2017

د. عبد العاطي محمد -

في أكثر من مناسبة، على الصعيدين العام والخاص، يجري الحديث عن دور التعليم في منع التطرف. وبالمقابل هناك من يرون أن المواجهة تتم أولاً بالتخلص من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تصنع بيئة حاضنة للتطرف. وكلا الوجهتين صحيحتان، وليس من الصواب تصريف الجهد في واحد منهما دون الآخر، وإنما الاقتناع بأنهما متكاملان لا منفصلان، ومن ثم يتعين العمل في المسارين معا في نفس الوقت.

مصدر الخلاف بين المسارين يعود إلى النظرة للتطرف ذاته الذي يعنى ببساطة تجاوز الوسطية والاعتدال. فمن ينحازون إلى التركيز على دور التعليم ينطلقون من أن التطرف فكرة في المقام الأول والأخير، وأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر. وبما أن التعليم هو المصدر الرئيس للفكر، ومن خلاله تصنع العقول وتنتشر التربية على الأخلاق الحميدة، وبالأعم هو الباب الأوسع للنهضة في كل المجالات، وبما أن التطرف مجرد فكرة تهيمن على صاحبها وتدفعه إلى تفعيلها على أرض الواقع فإن المواجهة الناجعة للتطرف يجب أن تتركز في صياغة نوع من التعليم يحقق هذا الهدف. ولكن هناك توجه آخر يتعامل مع التطرف على أنه حركة ونشاط خصوصا عندما يكون منظما. وهؤلاء لا يختلفون على أهمية الفكر، بالنظر إلى أن كل حركة ما نشأت إلا بناء على فكرة معينة ولكنهم مقتنعون بأن أي فكر لا قيمة له إلا إذا اقترن بالعمل الذي يحوله إلى واقع وينظرون للتطور الإنساني عموما على أنه تفاعل بين الفكر والواقع كلاهما يوثر في الآخر ويتأثر به، وبناء عليه يتعين النظر للتطرف على أنه حركة ونشاط قائم على أرض الواقع أكثر من كونه مجرد فكرة، ومن ثم يتعين التعامل مع مواجهة التطرف بتوجه شامل بالوقوف على مجمل العوامل التي تؤدي إليه وولوج كل المجالات ومن بينها التعليم.

وواقع الأمر أنه برغم وضوح العلاقة الوثيقة بين الفكر والحركة في النظرة للتطرف فإن الغلبة لا تزال قائمة لأصحاب التركيز على التعليم مقارنة بأصحاب التركيز على المواجهة الشاملة القائمة أساسًا على التعامل مع التطرف على أنه حركة أكثر من كونه مجرد فكرة لسبب رئيس هو استعجال النتائج حيث يعد التعليم الباب الأيسر المفتوح لتحقيق نتائج سريعة خصوصا أنه مجال محدد وواضح ويمكن السيطرة عليه وتوجيهه، بينما الطريق الآخر أي المواجهة الشاملة مع التطرف على أنه حركة صعبة وشاقة ومتعددة الجهد ونتائجها تتحقق في الأجل الطويل.

الاهتمام بدور التعليم ليس وليد اللحظة الراهنة، وإن كانت قد أعطته أولوية قصوى.. لنا أن نتذكر الخلاف القديم بين الإمام محمد عبده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبين أستاذه جمال الدين الأفغاني حول نفس القضية، حيث كان الأول شديد الاقتناع بأهمية التعليم ليس فقط للخروج من التخلف واللحاق بركب التقدم الذي أحرزته أوروبا، وإنما لإصلاح الفكر الديني الإسلامي نفسه بتحريره من الجمود والتشدد، بينما الثاني كان مهتمًا بالثورة السياسية فقط. وامتد الخلاف بين التوجهين إلى يومنا هذا. وبعد تصاعد موجة التطرف منذ سبعينات القرن العشرين وصولا إلى ما تعانيه منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره من عمليات الإرهاب التي تعد الوجه الآخر لما يسمى في الأعراف الغربية بالتطرف العنيف أي التطرف المصحوب بالإرهاب عادت الثنائية القديمة المتعلقة بكيفية مواجهة التطرف إلى سطح الأحداث من أين نبدأ؟ هل بإصلاح التعليم أم بالقضاء على البيئة الحاضنة للتطرف والتي من بين عناصرها التعليم ذاته الذي يعاني من مشكلات شتى؟.

في ذلك الإطار، وعلى سبيل المثال لا الحصر شهدت مدينتا القاهرة وشرم الشيخ مؤتمرين على مستوى رفيع تعدى نطاق المحلية وأخذ طابعًا إقليميًا ودوليًا. الأول انعقد تحت عنوان «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل» ونظمه الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، والثاني كان للوزراء العرب المعنيين بالشؤون الاجتماعية وحمل عنوان «الإرهاب والتنمية الاجتماعية.. أسباب ومعالجات». وفي المؤتمرين كانت القضية المهيمنة على النقاش هي تجديد الخطاب الديني، ومع أن المؤتمر الثاني كان أقرب إلى توجه البحث عن البيئة الحاضنة للتطرف إلا أنه أعطى أهمية أيضا لتجديد الخطاب الديني. ولم يكن إصلاح التعليم بعيدا في أي منهما طالما أنهما انطلقا أساسًا من التوجه نفسه وهو النظر للتطرف على أنه حالة فكرية.

التوجه نفسه كان حاضرًا في اللقاءات التي تمت على مستوى القمة سواء في واشنطن أو نيويورك قبل نحو عامين (الربع الأخير من عام 2015) وجاءت متأثرة بصعود تنظيم «داعش» وكيفية مواجهته. وقتها اهتم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بالتأكيد على أن مواجهة التطرف العنيف الذي يمارسه «داعش» تتحقق بالمزيد من الديمقراطية وقال: «لا تهزم الأيديولوجيات بالمدافع ولكنها تهزم بأفكار أفضل.. إن الطريق ليس عبر ديمقراطية أقل بل عبر المزيد من الديمقراطية مع التركيز على حقوق الإنسان وسيادة القانون. وآنذاك أيضا تحدث الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون عن أن لدى المنظمة الدولية خطة عمل شاملة لمنع التطرف يتم تطبيقها مع بداية عام 2016. كما ركزت منظمة اليونسكو على الأهمية الإستراتيجية لجودة التعليم باعتباره أداة لمنع التطرف وذلك بنشر ثقافة السلام عن طريق العلم. وفي تلك الفترة أيضا وبسبب الصدمة التي تلقاها الغرب من ظهور «داعش» راحت بعض وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية تبحث عن سبب ما في التعليم وراء انضمام الآلاف من الشباب إلى هذا التنظيم، ومن هو على شاكلته. وفي هذا الإطار ذهبت بعض الدراسات الغربية إلى مقولة مؤداها أن من يتخرجون من الكليات العملية كالهندسة والطب والصيدلة والعلوم والحاسبات هم أكثر انجذابا للتطرف. ودعموا ذلك بالإشارة إلى أن تنظيم «داعش» كان حريصًا على تجنيد هذه النوعية من الخريجين. وبنت هذه الدراسات تحليلاتها على أساس أن هذا النوع من التعليم لا يعرف سوى الخطأ والصواب أو الحق والباطل، وهو لا يقبل النقاش فيما يحدد تفكيره، بينما الكليات الإنسانية التي تدرس الفنون المختلفة قائمة على النقاش والجدل ورفض التفكير الأحادي. وكان د. سعد الدين إبراهيم عالم الاجتماع المعروف قد وصل إلى نفس النتيجة قبل ذلك بسنوات طويلة وقت أن كان يجري بحثًا على المقبوض عليهم من تنظيم «التكفير والهجرة» أواخر سبعينات القرن العشرين.

ومع وجاهة كل الحجج التي يطرحها أنصار المدرسة التي تركز على أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر وتهتم إلى حد كبير بدور التعليم في منع التطرف إلا أنه توجه في حاجة إلى مراجعة من أصحابه خصوصًا أنها حجج مردود عليها إلى الحد الذي يفرغها من وجاهتها. فنوعية التعليم ليست دالة على التطرف من عدمه. صحيح أن جماعات التطرف العنيف جذبت فئات من الشباب الذين تلقوا ما يسمى بالتعليم الهندسي (لا يسمح بالجدل والنقاش وتنوع الفكر)، ولكن الحقيقة المؤكدة أن الغالبية العظمى من خريجي الجامعات الغربية هم من الكليات الإنسانية، وقد انخرط قطاع كبير منهم في جماعات التطرف!. ولا شك أن عامل البطالة هو الأكثر دلالة في تفسير هكذا ملاحظة، فجميع الخريجين يتأثرون بها بما يدفعهم إلى اليأس ومن ثم الميل إلى الارتباط بجماعات التطرف، وخريجو الكليات العملية هم الأكثر تأثرًا سلبيًا بعامل البطالة مقارنة بغيرهم فهم من خيرة الشباب المتفوق علميًا والذي يأمل أن يلقى مكانةً مرموقةً بعد التخرج ومجالاً للعمل يحقق فيه ما حصله من علوم. وعندما لا يلقى لا هذا ولا ذاك بسبب البطالة فإنه لا غرابة في أن ينجذب للتطرف أكثر من غيره. وأما حرص «داعش» على جذب هؤلاء فإنه يرجع إلى احتياجات التنظيم قبل أي اعتبار آخر بما أنه طرح نفسه على شاكلة الجيوش النظامية القوية ويريد أن يقدم نموذجًا بديلاً للدول الوطنية القائمة.

ومن جهة أخرى لا يمكن تجاهل العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، وعليه فإن التطرف في صورته المعاصرة شديد الصلة بالواقع الذي أفرزه وهو هنا تحديدًا فشل الدولة الوطنية في القيام بمهامها الأساسية المتعلقة بتوفير أسباب الرفاهية والأمن والسيادة. وقت أن كانت الدولة الوطنية في عز مجدها لم يكن للتطرف وجود يذكر.

ولكن الفشل أفرز فراغًا ساعد على حدوث ظاهرة جديدة هي وجود أشكال من «الجماعات» التي تملأ هذا الفراغ وتتحدى وجود الدولة الوطنية ذاتها، وتسعى هذه «الجماعات» إلى استدعاء نماذج من الماضي البعيد لتفرضه بديلا عن وضع معاصر فيه من الانكسارات وأوجه الفشل أكثر مما فيه من عوامل النجاح. هذه الجماعات تنقل التطرف من نطاق الفكرة إلى نطاق الحركة خصوصا عندما تكون محكمة التنظيم.

إصلاح التعليم وتجديد الخطاب الديني، كلاهما مهم ولكنهما جزء من كل لا يصح التعويل عليهما وحدهما لمنع التطرف، وإنما يتعين النظر إلى ذلك الكل المتعدد الأمراض الذي خلق بيئة حاضنة للتطرف وما أكثر هذه الأمراض اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا. عندما تعود الدولة الوطنية إلى أسباب نجاحها كما كانت عند وهجها في مرحلة الاستقلال الوطني يختفي التطرف من تلقاء نفسه.