شرفات

العلم على خطى الدين

06 مارس 2017
06 مارس 2017

عبد الله العليان -

ناقش العلامة الهندي وحيد الدين خان في أغلب كتبه، قضية ارتباط وابتعاد الدين عن العلم،خاصة مع ظهور الفلسفات والعلوم الحديثة في القرنين الماضيين،وبروز الفلسفات المادية، واللأدرية التي تشكك في وجود صانع الكون، مع أن الوجود دليل الواجد والصنعة دليل الصانع،ويرى وحيد الدين في كتابه (الإسلام والعصر الحديث) إن الإنسان ظن «حين تقدمت به وسائل المشاهدة،أن يستطيع أن يشاهد كل شيء فأخذ يدعي أن أنه لا وجود للأشياء التي لا تخضع لمشاهدة المنظار والمجهر. لقد ظل هذا الادعاء قائماً بقوة من عهد نيوتن (1642 ـ 1727)حتى اينشتاين (1879 ـ 1954).لكن العلماء في عهد ما بعد أن اينشتاين قد فقدوا ثقتهم في هذا الادعاء. فأصبح الأمر مشكوكاً فيه عما إذا كان الكون «موضوعياً» Objective أم أنه (ذاتي) Subjective، وبكلمة أخرى: هل لهذا الكون من وجود خارجي يمكن مشاهدته؟ أم أنه لا يعدو أن يكون مظهراً لأحاسيسنا الداخلية؟، فقد الفكرة العلمية القديمة ترفض الاعتراف بالعقل والإحساس كوجود حقيقي،وتقول إن الشيء الموجود ليس إلا المادة وما المادة وما العقل والإحساس إلا نتاج إضافي للمادة. وكان الاعتقاد السائد، كما يقول العلامة وحيد الدين خان، حتى نهاية القرن التاسع عشر يقول إن الذرة هي الحقيقة النهائية لكل شيء وأن الذرة تتكون من جزئيات صغرى تخضع للمشاهدة ولكن الذي حدث هو أن الذرة ،بعد تحطيمها، تحللت في العالم الذي لا يخضع للمشاهدة. وأصبح العلماء يعترفون الآن، بصورة عامة، أن الشيء النهائي ليس له وجود اللطافة والصغر ولا يمكن مشاهدته، فمنهمWaves of Probabilities من شرح الكون قائلا: إنه يتكّون من « موجات الاحتمالات» ، ومنهم من يقول: إن الكون ليس علماً على شيء من النوع المعهود لنا بل هو سلسلة أحداث، ومنهم من يسميه بكون الفكر، ومنهم من يشبّه الكون بالأشباح، ومنهم من يدّعي أنه محض تركيب، بينما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنه ((عالم الظلال)). وقد لخص برتراند رسل كل هذه الآراء والأفكار في جملة ساخرة حين قال:((إن المادة قد أصبحت مشابهة جداً للأشباح، فلم تعد عصا مناسبة لضرب العقل)). وهو يضيف قائلاً: ((إن الشيء الذي كنا نطلق عليه ((الجسد)) ليس إلا تركيباً علمياً مصنوعاً في غاية الدقة خالياً من أية حقيقة طبيعية)). وهكذا وصل نهر العلم إلى حيث انفصل عن الدين، فاعترف بأن الكون في حقيقته النهائية حادث غير مادي بدلاً من أن يكون رقصاً غير هادف للمادة الميتة العمياء».

إن قضية العصر الحاضر ضد الدين، كما يرى وحيد الدين خان، في دراسته ( الإسلام يتحدى)، هي قضية طريقة الاستدلال ، أعني الطريقة الجديدة التي كشفها العلم الحديث بعد التطورات في ميادينه العديدة ، بحيث لم تعد تقف أمامها دعوى الدين وعقائده. هذه الطريقة الجديدة هي معرفة الحقيقة بالتجربة والمشاهدة على حين تتصل عقائد الدين بعالم ما وراء حواسنا ولا يمكن إخضاعها للتجربة، (فالدين له مبنى على قياس واستقراء)، وهذا هو ما يجعله باطلا لأنه ليس له أساس علمي. وقضية العصر الحاضر باطلة لأنها لا تقوم على أسس علمية ، فالطريقة الجديدة لا تنفي وجود أشياء لم تجرب مباشرة كما لا تنفي قياس أشياء لم نشاهدها على أشياء شاهدناها تجريبيا وهو ما يسمى (قياسا علميا) ، ويعتبر كالتجربة المباشرة فالتجربة لا تعد حقيقة علمية لمجرد أنها شوهدت ، كما أن القياس ليس باطلا لمجرد أنه قياس ، فإن كان الصحة والبطلان موجودان فيهما على السواء.

كان الناس في القديم،كما يقول، يصنعون السفن الشراعية من الخشب اعتقادا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنا ، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب ، أنكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا ، وجاء نحاس فألقى بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية - بدل أن تطفو على سطح الماء- استقرت في القاع ، كان هذا العمل تجربة ، ولكننا جميعا نعتقد اليوم أنها كانت تجربة باطلة فلو كان النحاس قد ألقى بطبق من حديد وشاهد بعينه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية. في بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا ، فلما شاهدنا السماء بهذا النظار وجدنا أجراما كثيرة كالنور فاستنبطنا أنها سحب من البخار والغاز تمر بمرحلة قبل أن تصير نجوما ، ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوي وشاهدنا هذه الأجرام مرة ثانية ، علمنا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض.

وهكذا نجد كما يشير وحيد الدين، أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة. لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة النطاق ، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا ، أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها، والذي يطالع العلم الحديث يجد أن أكثر آرائه (تفسير للملاحظات) وأن هذه الآراء لم تجرب مباشرة ، ذلك أن بعض الملاحظات يحمل العلماء على الإيمان بوجود بعض الحقائق غير مشاهدة قطعيا ، فأي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع أن يخطو خطوة دون الاعتماد على ألفاظ مثل: (القوة) Force ، و(الطاقة) Energy ،و(الطبيعة) Nature و(قانون الطبيعة)Law of Nature ، وما إلى ذلك. ولكن هذا العالم لا يدري ما (القوة والطاقة والطبيعة وقانونها)؟ فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة ، لكي يبين عن علل غير معلومة ، وهذا العالم لا يقدر على تفسير هذه الألفاظ تماما كرجل الدين لا يستطيع تفسير صفات الإله،وكلاهما يؤمن ـ بدوره ـ بعلل غير معلومة.يقول الدكتور ( الكسيس كيرل):إن الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات والفروض لا تشتمل على شيء غير (معادلة الرموز) ؛ الرموز التي تحتوي على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها). والعلم الحديث، كما يقول العلامة وحيد الدين، لا يدّعي ولا يستطيع أن يدعي أن الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة ، فالحقيقة أن (الماء سائل). ونستطيع مشاهدة هذه الحقيقة بأعيننا المجردة ، ولكن الواقع أن كل (جزيء) من الماء يشتمل على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين وليس من الممكن أن نلاحظ هذه الحقيقة العلمية ، ولو أتينا بأقوى ميكروسكوب في العالم ، غير أنها ثبتت لدى العلماء لإيمانهم بالاستدلال المنطقي.

ويقول البروفيسور ا. ى. ماندير: إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسةPercieved Facts) )، بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في (الحقائق المحسوسة) ؛ فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة ولكننا عثرنا عليها على كل حال ، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطة)Inferred Facts)،والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين وإنما الفرق هو في التسمية ، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة ، والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط).ويضيف ماندير قائلا:

إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر؟ . . هناك وسيلة وهي الاستنباط أو التعليل. وكلاهما طريق فكري ، نبتدئ به بوساطة حقائق معلومة حتى ننتهي بنظرية: (أن الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا). وهنا نتساءل: كيف يصح الاستنباط المنطقي لأشياء لم نشاهدها قط؟ وكيف يمكن أن نسمي هذا الاستنباط بناء على طلب العقل: حقيقة علمية؟ ويجب ماندير بنفسه عن هذا السؤال:إن المنهج التعليلي صحيح لأن (الكون) نفسه عقلي.فالكون كله، كما يرى وحيد الدين، مرتبط بعضه بالآخر؛ حقائقه المتطابقة ، ونظامه عجيب ، ولهذا فإن أية دراسة للكون لا تسفر عن ترابط حقائقه وتوازنها-هي دراسة باطلة. ويقول ماندير في هذا الصدد:

إن الوقائع المحسوسة هي أجزاء من حقائق الكون غير أن هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية ، وغير مرتبطة بالأخرى. فلو طالعناها فذة مجردة عن أخواتها فقدت معناها مطلقا. فأما إذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة مما علمناه مباشرة أو بلا مباشرة فإننا سندرك حقيقتها.ثم يأتي بمثال سليم يفسر ذلك فيقول:إننا نرى أن الطير عندما يموت يقع على الأرض ، ونعرف أن رفع الحجر على الظهر أصعب ويتطلب جهدا ونلاحظ أن القمر يدور في الفلك ، ونعلم أن الصعود في الجبل أشق من النزول منه. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا ، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية -هي (قانون الجاذبية) وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق فنعرف للمرة الأولى أنها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى ارتباطا كاملا داخل النظام. وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة ، فلن نجد بينها أي ترتيب ، فهي متفرقة وغير مترابطة ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فستخرج صورة منظمة للحقائق).

إن قانون (الجاذبية)، وفق رؤية الباحث، لا يمكن ملاحظته قطعا ، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية وإنما هي أشياء أخرى، اضطروا لأجلها ـ منطقيا ـ أن يؤمنوا بوجود هذا القانون.واليوم يلقى هذا القانون قبولا علميا عظيما، وهو الذي كشف عنه نيوتن لأول مرة ، ولكن..ما حقيقة هذا القانون من الناحية التجريبية؟..ها هو ذا نيوتن يتحدث في خطاب أرسله إلى (بنتلي) فيقول:إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهي تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما).