شرفات

الأمريكي الذي احتسى ثلاثة أكواب من الشاي في كورف

06 مارس 2017
06 مارس 2017

ليلى عبدالله -

[email protected] -

«إن كنت تريد أن تثبت أقدامك في باكستان، فعليك أن تحترم طريقة عيشنا عندما تحتسي الكوب الأول من الشاي مع البلطي فأنت غريب، وعند الكوب الثاني أنت ضيف مبجّل، أما الكوب الثالث فيعني أنك أصبحت فردا من أسرتنا وبأننا سنفعل أي شيء من أجلك إلى درجة الموت في سبيلك».

«ثلاثة أكواب من الشاي» بالزبدة بنكهة سكان شمال باكستان غيّرت حياة الأمريكي « جريغ مورتنسون »، فبعد الجرعة الثالثة من الشاي صار واحدا من أهلها وفق التقاليد الباكستانية ، ما جعله يسرد سيرة هذه الرواية الباكستانية بخليط أفغاني، رواية من صلب واقع مشوب بتحديات كبيرة و مغامرات شتى، شارك الأمريكي « جريغ مورتنسون » في كتابتها الصحفي « ديفيد أوليفر ريلين « ترجمة وفاء طقوز، دار التكوين 2016م.

رواية تطفح بالتفاصيل الدقيقة عن حياة البلطيين في شمال باكستان، يعيشون في قرية منسية و مقفرة، قرية تتجمد في الشتاء و لا يملك أفرادها المعدمون سوى طيّ أطرافهم المتجمدة في منازلهم لا من الصقيع فحسب بل من الجوع و غياب أبرز مظاهر الحياة، لكن رجلا أمريكيا يدعى « جريغ مورتنسون » يسحبهم من العزلة و الأميّة والجهل و الخوف إلى مجابهة الحياة و إلى تحدي واقعهم المرير ببناء مدرسة تعلم أطفال هذه القرية المنسية.

« جريغ مورتنسون » متسلّق جبال، كان يطمح أن يصل قمة جبل « كيه 2 »، و الذي يعدّ ثاني أطول قمة شاهقة في العالم بعد جبال الهملايا، و كانت غايته لارتقاء أكثر القمم انحدارا في العالم كي يضع قلادة أخته « كريستا » التي فارقتهم في سن مبكرة تقديرا لها ووفاء لذكراها، لكن هذا المتسلق الحزين ضلّ طريقه و تفرق عن صحبه و بذلك تغيرت مسار حياته و هدف رحلته أيضا، ووجد نفسه تائها، مسكونا بالوحدة والجوع، متجمدا من البرد في تلك البقعة المنسيّة التي يعرف بعد ذلك أنها قرية تدعى كورف و يتعرّف على أهلها الفقراء و يرى كم أنهم مضطهدون، يحيون في ظل حكومة أسقطتهم من خارطة اهتمامها، فالقرية بلا مستشفى و أطفالهم حبيسو الدار لا يغادرونها سوى إلى حقول المقفرة في مواسم حصادها التي بالكاد تفي بمتطلباتهم الأساسية في العيش، يرى « مورتنسون » نفسه في موضع مسؤول عن رفع مستوى الحياة في هذه القرية التي على وشك الهلاك لاسيما و أن أهالي القرية هم من انتشلوه من موت وشيك، فيعدهم ببناء أول مدرسة لأطفالها، و يدأب على كتابة أكثر من خمسمائة رسالة يبثها إلى أثرياء العالم، علّ أحدهم يتبرع بمبلغ من المال من أجل تعليم صغار القرية، يجابه تحديات جمّة، من رجال الدين و المتطرفين في تلك القرية التي يرون أن تعليم الصغار يشكل تهديدا لهم لاسيما تعليم الفتيات، غير أن « جريغ » يتغلب على كل التحديات بعزيمته و ينجح في بناء المدرسة التي وعد أهالي القرية و صغارها بها، و حين يجد متبرعا لبناء المدرسة، يجد نفسه أمام تحدّ آخر، تحدّ بناء جسر للقرية التي تعاني من الوصول إلى الضفة الأخرى حيث تبنى المدرسة، لذلك يشحذ « جريغ » كل جهوده لبناء الجسر بمساعدة أهل القرية و طلب المزيد من أموال من المتبرع نفسه، بعد بناء الجسر يجد أن أهالي القرية يقطعون مسافات طويلة لجلب المياه عبر منحدرات جبلية شديدة الوعورة، فيدرك أن صغار القرية بحاجة لمياه صحية قبل اثراء عقولهم بالتعليم، فهناك طفل من بين ثلاثة أطفال يلاقي حتفه قبل أن يبلغ من العمر عاما واحدا و العلة تعود لعدم توفر مياه صالحة للشرب، و يتم ضخ أنابيب لبيوت القرية، هذه العملية التي لم تكلف كثيرا غير أنها قلّصت من أعداد وفيات الأطفال بنسبة كبيرة.

بناء المدرسة التي لم تغيّر حياة صغار القرية و إناثها فحسب بل غيرت حياة « جريغ مورتنسون » و يجد نفسه مديرا لمؤسسة خيرية تحمل اسم آسيا الوسطى، تسعى لبناء المدارس في تلك القرى النائية في باكستان و أفغانستان، المدينتان اللتان طحنتهما رحى الحروب و الإرهاب و طالبان من جهة و الملاحقتان من قاذفات أمريكا من جهة أخرى، و حتى « مورتنسون » نفسه يكون محاصرا بأخطار المكان أيضا، و يلاحق من طالبان و الإرهابيين، بل يسفكون دمه، و يقع في قبضة طالبان كأمريكي كافر، يظل أسيرهم في غرفة ضيّقة و الموت يعتصر جنباته لثمانية أيام لا يدري كيف سقطت من عمره..؟! و معجزة تطلق صراحه « لا تذهب أبدا إلى أي مكان في الباكستان بمفردك أبدا، أبدا ! أتعدني بذلك ».

« جريغ مورتنسون » صار بطلا لهؤلاء الفقراء في أعالي جبال باكستان المثلجة و في قرى أفغانستان المقفرة، بل صار أسطورة يتغنى بها صغار تلك القرى كلما ارتقوا في مرحلة من مراحل التعليم، فقد استطاع هذا الأمريكي أن ينحت أشدّ صخور العالم وعورة، لقد تمكنت مؤسسته آسيا الوسطى من بناء كثير من المدارس في تلك البقاع المندسّة من العالم، لقد استطاع تحقيق أحلام الشباب و خلصهم من الإرهاب الذي كان متفشيا على يد الإرهابيين و طالبان الذين كانوا يسعون لتجنيد أطفال تلك القرى و ما يجاورها في مدارس تعلمهم الجهاد و تغسل عقولهم بأوهام الجنة والنار و الحوريات، لقد تمكّن « جريغ مورتنسون » بعزيمته الشامخة و صموده و ايمانه بقدرات الأجيال القادمة من محاربة إرهاب هؤلاء بالكتب، و تمكّن أيضا من دفع إناث تلك المناطق النائية وهنّ ملفوفات في حجابهن الشرعي إلى نيل حقهن من التعليم، و صار لكل واحدة منهن طموح تسعى إلى تحقيقه بمثابرة عظيمة، لقد تخرجت من تلك القرى فتيات مثقفات، حاملات شهادات عليا، القرية التي طالما رأت أن تعليم البنات يعدّ عارا و إثما..!

من يقرأ هذه الرواية لوهلة سيستعيد حكاية رواية إندونيسية عنوانها « عساكر قوس قزح » للروائية « أندريا هيراتا »، التي تناولت صراع معلمة مهمّشة و تلاميذها العشرة، المعلمة المعجزة التي تكافح بعزيمة جبّارة كل الصعوبات التي تهّز جدران مدرستها المتهالكة.

يقاوم، يكافح، كل هؤلاء الطيّبون على الرغم من كل المخاطر و التهديدات التي تحاصرهم من كل جبهات الحروب و الإرهاب و المجاعات و تفشي الأمراض و سياسات مستبدة و غيرها من أجل عشرة ملايين طفل محرومين من حقهم البسيط في التعليم وفق آخر تقرير لليونيسيف.