أفكار وآراء

«القيمة المضافة» .. في بعدها الإنساني

05 مارس 2017
05 مارس 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يمكن، بتركيز دقيق، أن نوظف مختلف المفاهيم التنظيرية، المتفق على دلالات رموزها، لنذهب بها الى حيث البعد الإنساني، لأن هذا البعد بالذات، هو ما يلحم العلاقات الإنسانية، أو يقوضها، هو الذي يبعث الأمل في الحياة، وهو الذي ينهي أجلها، هو الذي يزيد من اخضرارها و بقائها، او يسلمها الى فصل الخريف، ذلك أن الصدامات بين البشر قائمة منذ الأزل، كما أن التوافقات باقية منذ الأزل، وما بين التوافق والصدام قصة حضارة، بطلها هو هذا الإنسان الموكول إليه عمارة الأرض؛ والحياة والكون، وهنا يستوقفني مفهوم الـ «قيمة المضافة»، وهو مفهوم اقتصادي بحت، و من التعريف فإنه يعني : «هي كل ما يتم إضافته من قيم- مادية - لدى كل مرحلة من مراحل الإنتاج والتداول السلعي أو عند تأدية الخدمات» وبقدر أهمية هذا التعريف في بعده الاقتصادي المعروف، والذي تطبقه بعض الدول فيما يتصل بما يسمى «بضريبة القيمة المضافة» والتي تعرف أيضا بأنها «ضريبة مركّبة تفرض على السلع والخدمات» تكون هنا أهمية الحديث عن هذا المفهوم في محاولة الى تلمس شيئا مما يبعث التساؤل في الأذهان.

يأتي التقييم هنا في بعده الاقتصادي على أنه مكلف، وتكلفته المستمرة يدفعها المستهلك، وإن كان يعود ريع هذه الكلفة الى القائم بالخدمة من المؤسسات المعنية في أي مجتمع، وهي المؤسسات الموكول إليها تقديم الخدمات للجمهور العريض، مع أن من يقع فيها أكثر أصحاب الدخول المحدودة، الذين يعانون أكثر من غيرهم في التوفيق بين مدخولاتهم المحدودة، وبين تنامي ضرائب القيمة المضافة على السلع والخدمات بين كل فترة وأخرى في كثير من المجتمعات، خاصة مع توالي الأزمات الاقتصادية على وجه الخصوص، حيث تأخذ بها الحكومات للتقليل من حجم الإنفاق على السلع والخدمات، فتذهب الى ضريبة القيمة المضافة التي يتحملها بالدرجة الأساس المستهلك والمسألة، ربما، تكون أهون قليلا عندما ترتفع الضريبية على القيمة المضافة للسلع والخدمات الكمالية، حيث يظل الخيار متاحا أمام المستهلك، ولكن المسألة ليست كذلك عندما يكون هذا الارتفاع المتنامي على السلع والخدمات الأساسية التي لا غنى عنها أمام الفرد لتسيير حياته اليومية، وإن كان هناك من ينظر بنظرة أكثر إيجابية في هذه المسألة خاصة فيما يذهب الى « نمط استهلاكنا للسلع والخدمات» من حيث التغير الإيجابي في هذا الجانب، فقد يذهب البعض الى منهج الترشيد في الإنفاق، وينظم حياته بصورة أكبر، حتى يوفق بين مدخولاته المحدودة، وبين حجم استهلاكه المفتوح في بعض الأحيان، خاصة في مجتمعاتنا الشرقية المتهمة أكثر بالإسراف والتبذير، وعدم التقنين، انعكاسا لثقافة لم تنشأ على فهم الترشيد في الإنفاق إلا ما ندر، مع ملاحظة أن الأجيال الجديدة اليوم التي تواجه الكثير من تحديات الحياة، هي الأقرب الى الأخذ بثقافة الترشيد في الاستهلاك، خاصة مع نمو وتكاثر الأسر النووية التي يكون فيها قطبي الأسرة (الزوج والزوجة) هما المسؤولان المسؤولية المباشرة أمام أنفسهم قبل كل شيء في تحمل فاتورة الحياة اليومية بكل متعلقاتها.

أرصد، في سياق هذا المعنى، رصدا نظريا مجموعة المبادرات الشبابية من الجنسين فيما يخص الجمعيات الخيرية، الرسمية منها والأهلية، وأفخر كثيرا بهذا العطاء الخير الجميل، وأرى فيه أن هذا التحرر من استحكامات الذات يعكس أنفسا غير عادية حيث تبذل «قيم مضافة» غير التي يبذلها الأفراد العاديون في المجتمع، وبالتالي فهذه الـ «قيم المضافة» التي يبذلها هؤلاء الشباب هي التي ترخي سدولها على المجتمع المحب لأفراده، والذاهب الى حيث منابع الخير والصلاح، فهم على كثرة التزاماتهم لحياتهم الخاصة، فهم كأي فرد آخر من أبناء المجتمع، لهم مصالح ذاتية، موظفون في الحكومة، أو في القطاع الخاص، لديهم أسر وأبناء يحتاجون الى عونهم ومساعدتهم، هم يعيشون وسط مجتمع فيه ما فيه من العلائق الاجتماعية الكثيرة، ومع ذلك هم ينسلون بهممهم وأنشطتهم من كل ذلك حيث يسجلون رصيدا اكبر في مفهوم الـ «قيم المضافة» لإنسانيتهم ولمجتمعهم، واليوم هم أحوج فيه الى نصف درجة من درجات الخير و الثواب، ومن خلال هذا الفهم يأتي معنى «زرعوا فأكلنا، ونزرع ليأكل من بعدنا» فالبشرية على امتداد أعمارها لن تخلو من بذرة الخير هذه . نعم؛ قد يتفاوت العطاء وفقا لمساحة العمل المتاحة، وللهمم التي تغتلي في نفوس الأفراد في كل فترة على حدة، قياسا للإيمان الذي يكون عليه الأفراد بأهمية ما يبذلون لصالح المجتمع، وهذا الأمر أيضا محكوم بالثقافة الجمعية المؤسسة على فعل الخير، وبالتالي فأي مجتمع تتكاثر فيه نفوس المقتنعين بالمساهمة في تعضيد الـ «قيم المضافة» في مناخها الإنساني يظل مجتمع فتي، نضر، حيوي؛ لن يقترب منه الهرم، ويظل مجتمعا ساميا بجهد أبنائه الخيرين الذين يتجاوزون مظان النفس الداعية الى التكور على الذات، والاستحواذ على الخصوصية التي تعمل لأجل ذاتها فقط، وهذا أمر ليس يسيرا ولا سهلا، فانتزاع الجهد لخدمة العام يحتاج الى كثير من الشجاعة والإقدام والتحدي، فمجموعة القيود غير المحفزة كثيرة، وهذا أمر طبيعي، وبالتالي فالخروج من هذه الدائرة الضيقة لن يقيم على أنه أمر طبيعي، أو هكذا أفهمه على المستوى الشخصي.

تذهب ضرائب الـ «القيمة المضافة» في الفهم الاقتصادي - كما يفترض -الى «الصالح العام من تحسين الخدمات وتحسين البنية التحتية، وتحسين خدمات الرعاية الاجتماعية والصحية، مساهمة في تحسين جودة التعليم وغيرها من مصاريف الصالح العام» كما هو التعريف السابق في صدر المقال، وتذهب الـ «قيم المضافة» في الفهم الإنساني الى ذات المعنى ولكن ليس في مفهوم برامج التنمية التي تنفذها المؤسسات المعنية، وإنما الى برامج التنمية التي ينفذها الأفراد من حر مالهم، ومن فيض طاقاتهم، ومن سخاء نفوسهم، وهي مشروعات خالية تماما من مفهوم السوق القاسي؛ القائم على الربح والخسارة، ومن مفهوم بقدر العطاء تحصل على المقابل، هنا يتسيد فقط مفهوم المبادرات الإنسانية الواهبة نفسها للآخر، وهو مفهوم قد لا يحظى لدى فئة غير قليلة في المجتمع بذلك القدر من الاهتمام وبالتالي المساهمة فيه وانجاحه وإطالة عمره، وتعضيد أفراده تعد لفتات في قمة الإنسانية يجب أن تبارك، وينظر اليها بالكثير من التقدير والتبجيل. عايشت في إحدى الدول العربية التي زرتها كثيرا، أن في يوم الجمعة من كل أسبوع يأتي أناس الى المساجد يحملون صناديق صغيرة يجمعون فيها ما تجود به أنفس الآتين لأداء صلاة الجمعة، وهذه الصناديق تحمل عناوين كثيرة منها: بناء مسجد كذا، كفالة يتيم، كفالة طالب علم، كفالة اسر فقيرة، كفالة مدارس لتعليم القرآن الكريم، وغيرها من العناوين ذات الطابع الإنساني، وقد سألت مرة أحد هؤلاء المهتمين بهذا الشأن، فأخبرني أن العائد كبير، ويغطي كل متطلبات الإنفاق للذين يحمل الصندوق عناوينهم، مع علمي الخاص، أن سكان هذه الدولة ليسوا من المصنفين من أصحاب الملايين، ولكن لأن نفوسهم تسامت في هذا النوع من العطاء، فأتى العطاء خصبا ثمينا، خضرا كثيرا، فاحتوى فئات أغناها عن الخروج من معاقل سترها وتعرضها للحرج، ومن تكفل بهذا الجهد المضني الجميل، مارس ذلك بكل رضا، فحق لهم الفخر، وحق لهم الفوز، هذا الفوز الذي نقيمه في الحياة الدنيا على أنه الـ «قيم المضافة» في مساحة العطاء الإنساني النبيل (وما عند الله خير وأبقى) فطوبى لهذه النفوس كلها، وطوبى لهذا الهمم كلها، ومن كانت في نفسه مساحة للآخر، فذلك هو من يستحق الثناء.