yousef
yousef
أعمدة

ثرثرة عن النيل

03 مارس 2017
03 مارس 2017

يوسف القعيد -

كانت القاهرة تمتد حدودها من سفح المقطم والقلعة شرقاً وتنتهى حدودها الغربية عند مدافن العتبة الخضراء والأزبكية والمناصرة. التي حاصرت امتدادها وحرمتها من الاتصال بالنيل أو الوصول إليه. كانت المنطقة التي تفصلها عن مجرى النيل تتكون من سلسلة من التلال. تمتد عدة كيلو مترات. حتى تصل إلى شاطئه.

لم يكن نهر النيل. في ذلك الزمان البعيد في موضعه الحالي. بل كان مجراه الرئيسي يشق طريقه في المنطقة الغربية. ممتداً من قرية الجيزة القديمة التي تقع عند نهاية كوبري عباس. ويسير محاذياً لشارع الدقي. ماراً ببولاق الدكرور والعجوزة وإمبابة. استعان الخديوي إسماعيل. بنابليون الثالث. صديقه الذي أوفد له المهندس هاوسمان. الذي خطط مدينة باريس. لكى يعيد له تخطيط مدينة القاهرة. نقل النيل ليشارك في تخطيط المدينة وإعادة الحياة الجميلة لها.

أقيم حاجز خراساني بالقرب من مدخل كوبري عباس. كمصد لتغيير اتجاه تيار مياه الفيضان ليتجه إلى الشرق في اتجاه مدينة القاهرة، وأقيم جسر ترابي بامتداده. ليسد جزءاً من مدخل المجرى القديم. كما أقيم حاجز خرساني أو مصد مماثل في موقع فندق شيبرد الحالي. ليغير اتجاهه ليعود إلى مجراه الأصلي عند منطقة إمبابة وبولاق ولا تزال آثار تلك المصدات الخرسانية موجودة.

هذا ما فعله المصريون بمساعدة الفرنسيين. ولكن النيل قرر أن يقوم بدوره في إكمال عملية تحويل المجرى. فقد ساعد ارتفاع منسوب الفيضان المفاجئ وقوة اندفاع مياه تياره. على تحقيق المعجزة فحفر النيل مجراه في عام. وتمت عملية التحويل. واتخذ نهر النيل موقعه الجديد في التخطيط المرسوم له في أواخر 1865. أي أن عملية التحويل استغرقت 18 شهراً. ومن ردم مجرى النهر القديم. خرجت إلى الوجود منطقة حدائق الأورمان والتي بلغت مساحتها 465 فداناً. وكذلك منطقة سراي الجيزة. التي لم يكن هناك حد لجمالها.

ومن آثار تحويل مجرى النهر تراكم الطمي والرمل في المنطقة الشمالية من الجزيرة. منطقة الزمالك. التي تحولت إلى شاطئ سياحي. بلغت مساحته ألفي فدان. فاتخذه سكان القاهرة مصيفاً ومكاناً للنزهة. والاستجمام والترفيه. فأصدر الخديوي إسماعيل قراره بألا تقام به أي مبان أو منشآت ثابتة سوى الزمالك. والزمالك لفظ ألباني معناه العشش أو كبائن الشاطئ. وكان لا بد من وصل ضفتي النهر الجديد ببعضهما بدلاً من الاعتماد على العبور بالقوارب القديمة. أنشئت على النيل الكباري الجميلة. فأقيم كوبري قصر النيل. بسباعه الأربعة، اثنان ناحية الشرق واثنان ناحية الغرب. لدرجة أن المصريين أطلقوا على الخديوي إسماعيل «أبو السباع».

كانت القاهرة سنة 1863 يسكنها 270 ألف نسمة. وهو رقم كبير. وإن كان هذا الرقم لا يصل الآن إلى سكان جزء من حي من أحياء القاهرة. ثم قفز الرقم السكاني إلى أكثر من عشرة ملايين نسمة في قرن وثلث من الزمان. وهكذا أصبحت قاهرة اليوم. ثالث أو رابع مدينة في العالم من حيث عدد السكان. ولأنها شهدت العديد من الحضارات الكثيرة. فهي مدينة الأزمنة المتجاورة. فيمكنك إن بدأت الرحلة من الجمالية إلى أهرامات الجيزة. أن تمر بعصور كثيرة. عندما تذهب إلى القلعة ومنطقة طولون. ومصر العتيقة. إنها ليست مدينة. ولكن متحف مسكون بالبشر. ونهر النيل هو الذي وهب هؤلاء البشر فرص الحياة.

الأنهار للشعراء. أما اليابسة فلها كُتَّاب النثر. هذه هي الحقيقة المؤكدة. ونهر النيل خير شاهد على ذلك. ما من شاعر ولد وعاش في مصر. إلا وكان للنيل مكان في شدوه الشعرى. أحمد شوقي يعيش على النيل. ما زالت كرمة ابن هانئ تطل على النيل حتى في غياب صاحبها. ويبدو كما لو أنها تطل على النهر نيابة عنه. وحافظ إبراهيم حمل لقب شاعر النيل. وكانت لهذا اللقب قوة أكثر من اسمه. وللنيل مطربيه. غنى له محمد عبد الوهاب وشدت به كوكب الشرق أم كلثوم. وتغنى به عبد الحليم حافظ.

وأصبح جزءاً من عناوين أعمال أدبية لنجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل». يصبح النيل ليس مجرد جزءاً من الاسم. بقدر ما يصبح بطلاً للعمل. عندما تنحل أعمدة العوامة في آخر الرواية. فتنطلق بمن فيها في النهر. لعل مياهه قادرة على غسل الأبطال من همومهم. ولثروت أباظة رواية «قصر على النيل». ولعبد الله الطوخي رباعية النهر. وكان قد قام برحلة على النهر من أسوان إلى الإسكندرية. سجلها في كتاب عنوانه: النهر. ثم اتبعه بثلاثة كتب عن النهر. وأصبح للنيل عنده رباعية جميلة. وكم صدرت في القاهرة دواوين الشعراء. وهى أكثر من أن يحصيها العد. فقط نقول إن لدينا ديوان: رقصات نيلية، لمحمد إبراهيم أبو سنة. ولا نيل إلا النيل، لحسن طلب. ولكم نيلكم ولى نيل، لعبد المنعم عواد. ومن الصعب إحصاء الأفلام السينمائية. والقطع الموسيقية ولوحات الفن التشكيلي والروايات والمسرحيات. والمسلسلات التليفزيونية التي تدور حول النيل. أو تتخذ منه مكاناً لها. نبدأ من النيل نجاشي، لشوقي. والنهر الخالد، لمحمود إسماعيل. وصراع في النيل، ليوسف شاهين. وما زال النيل يجرى، لأسامة أنور عكاشة ومحمد فاضل. وإن كان هذا من الأمور الطبيعية.

فإن الجديد. الجديد فعلاً هو الأثر الذي تركه النيل سواء في كتاب العالم أو الأدباء العرب. أميل لودفيج له كتاب جميل عن النيل. وهيرودوت عندما جاء إلى مصر قبل التاريخ نحت جملته الشهيرة: «مصر هبة النيل» والآن مورهيد. له كتابان عن النيل الأزرق والنيل الأبيض. كتب عنه الأعشى وأبو نواس والمتنبي وإسماعيل النحوي المصري. الذي يقول عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان أنه مات غرقاً في النيل. ومن الصعب إحصاء الذين أغواهم النيل وغرقوا فيه.

بل إن تقى الدين المقريزي له كتاب جميل عن المجاعات التي حلت بمصر. عندما كان النيل لا يأتي بالفيضان السنوي له. وكتب عنه ابن إياس وعبد الرحمن الجبرتي. ولكاتبة الروايات البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي رواية عنوانها: جريمة على النيل. وللروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل رواية من خمسة أجزاء عنوانها: «النيل يبحر جنوباً».

هل نلعب لعبة الخيال. ونحاول أن نتصور شكل القاهرة بدون النيل؟! النيل حمى القاهرة. ففي السبعينيات عندما جرى التفكير في نقل العاصمة من القاهرة إلى مدينة أخرى. خرج جمال حمدان يتساءل: وماذا سنفعل بالنيل؟ هل نحمله معنا إلى حيث يريدون نقل العاصمة؟. وهكذا تراجع الحاكم الذي كان يريد نقل العاصمة من مكانها إلى مكان آخر تحمل اسمه. ودفن الموضوع في مقبرته قبل أن يخرج إلى الوجود.

إن تُقَّالتي الميزان هما: الأهرامات. والنيل. وبهما.. كانت القاهرة.. قاهرة فعلاً.