أفكار وآراء

ينبغي أن تعتذر فرنـــسا للجزائـــر

03 مارس 2017
03 مارس 2017

مانو ساديا - واشنطن بوست ـ

ترجمة: أحمد شافعي -

في ما قد تكون نقطة تحول في التاريخ الفرنسي، وصف إيمانويل ماكرون ـ وزير المالية الفرنسي السابق ومرشح يسار الوسط في انتخابات الرئاسة الفرنسية ـ الاستعمار بأنه «جريمة ضد الإنسانية» ملمحا إلى أن فرنسا يجب «أن تقدم الاعتذارات لكل من وجّهنا لهم هذه الأفعال».

لم تجرؤ من قبل شخصية عامة في فرنسا على المضي إلى هذا الحد في تأمل ماضي فرنسا الاستعماري، ناهيكم عن مناقشة الاعتذارات. بل العكس هو الصحيح في واقع الأمر: ففي وقت غير بعيد من أغسطس الماضي أقر فرانسوا فيلون ـ مرشح يسار الوسط للرئاسة ـ بقوله «لا، فرنسا غير مذنبة في رغبتها بأن تشرك شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية في ثقافتها». تلك الهاوية الفاصلة بين «تشارك» فيلون المؤسف واتهام ماكرون الكاسح لا تقتصر طبعا على الجزائر (التي أدلى ماركون بتصريحه فيها). فهذا صراع شديد العلنية بين مرشحين طامحين لأرفع المناصب الفرنسية على ماضي فرنسا الاستعماري، ومن ثم فهو صراع على مستقبل فرنسا. فما المكان الجدير بأبناء رعايا فرنسا الاستعمارية ـ من مسلمي شمال أفريقيا ومن الفيتناميين والكونغوليين وغيرهم ـ في المجتمع الفرنسي اليوم؟

في الجزائر، قوبلت تصريحات ماكرون بالترحاب. إذ أثنى المؤرخ فؤاد صوفي على المرشح لتحليه بـ«الشجاعة». في حين جاءت ردود أفعال اليمين على تصريحات ماكرون غاضبة كما هو متوقع: فأدان فيلون «إهانة» ماكرون و«إصراره على إبداء الندم». أما مارين لو بان الشعبوية (التي يتردد أن أباها جان ماري لو بان شارك في أعمال تعذيب ضمن عمله كفرد مظلات في الجيش الفرنسي أثناء حرب الاستقلال الجزائرية) فأوكلت إلى أحد معاونيها الرد بالنيابة عنها موجها اتهاما إلى ماكرون بـ«كراهية فرنسا».

أما تعليقات اليسار فكانت أقرب إلى الصمت. فعلى سبيل المثال، لم توافق وزيرة الإسكان إيمانويل على استعمال تعبير «الجرائم ضد الإنسانية» نظرا لطبيعته القانونية الدقيقة. ويتبين من استطلاع رأي أجراه معهد «اي اف او بي» لموقع «تي اس ايه» الإخباري الجزائري أن الرأي العام الفرنسي منقسم، إذ يوافق 51% على ما قاله ماكرون. لقد عرف ماكرون ـ باستعماله تعبير الجرائم ضد الإنسانية القانوني ـ المشروع الاستعماري وفقا لحقيقته: أي أنه استيلاء غير مشروع على أرض وإخضاع عنيف لسكان محليين لما فيه مصلحة قوة إمبريالية.

إن الاعتذارات الرسمية من القوى الاستعمارية الأوربية قليلة ومتباعدة وعادة ما تتعلق بأحداث مميزة. فألمانيا في طور الاعتذار عن دورها في مذبحة هيريرو وناما في ناميبيا بين عامي 1904 و1907 (بدون أي تعويضات). والهولنديون اعتذروا لإندونيسيا عن أعمال قتل جماعي أثناء حرب الاستقلال. في المقابل لم تعتذر بلجيكا قط عن حكم الملك ليوبولد الدموي للكونغو، بينما رفضت إنجلترا صراحة استرضاء الهند بسبب مجازر الحقبة الاستعمارية.

وحتى هذا اليوم، تظل حرب الاستقلال الجزائرية (في الفترة من 1954 إلى 1962) موضع جدل حاد في التاريخ الفرنسي. فلقد بقيت في المجتمع الفرنسي انقسامات بعيدة المدى بسبب انتهاكات الجيش الفرنسي لحقوق الإنسان (وأبرزها الإفراط في استعمال التعذيب)، وممارسة الجانبين للإرهاب، والهزيمة النهائية وترحيل قرابة 800 ألف مواطن فرنسي من الجزائر. وازدادت المشكلة جسامة بهجرات العمال الجماعية من مستعمرة سابقة إلى معجزة فرنسا الصناعية أثناء ستينيات القرن الماضي. ويوجد حاليا قرابة 7.3 مليون فرنسيا لهم على أقل تقدير جد مهاجر (من أصل 66 مليون نسمة)، منهم قرابة المليون من أصل جزائري.

قبل عقد مرَّرت أغلبية يمينية قانونا يطالب باعتراف كتب التاريخ المدرسية بـ«الدور الإيجابي» للاستعمار. ومن الجيد أن تم إلغاؤه. وبالمثل، في عام 2001، أزاح عمدة باريس الاشتراكي الستار عن لوحة معدنية تذكارية مخصصة لمذبحة السابع عشر من أكتوبر سنة 1961. في ذلك الوقت، وصف اليمين والاتحادات الشرطية ذلك بأنه «حجة للمتطرفين المسلمين» و«الاستفزاز». تلك اللوحة المعدنية المتواضعة كانت تهدف إلى الاعتراف بما يقال عن مقتل نحو مائتي متظاهر من أجل استقلال الجزائر بدم بارد على أيدي الشرطة مع إلقاء البعض منهم في نهر السين. وبقيت اللوحة التذكارية، لكن شبح الماضي الاستعمار لا يزال يسيطر على الحاضر الفرنسي. قبل أيام، صاح متظاهرون ضد ماكرون في كاربنتراس (جنوبا) بـ «خيانة» وهم يحملون لافتات كتب عليها «أو ايه اس» في إشارة إلى عصابة إرهابية فرنسية مسؤولة عن تفجيرات مناهضة للجزائر في حرب الاستقلال، بل إنها مسؤولة عن محاولة اغتيال فاشلة للجنرال شارل دي جول.

وليس اليسار الفرنسي باستثناء من هذه الهستيريا. فالحجاب لم يحظر للمرة الأولى في المدارس إلا في ظل حكومة تميل إلى اليسار. وثمة تيار كامل من اليسار الفرنسي ـ من رسامي الكاريكاتير في شارلي إبدو وحتى كبار المثقفين ـ يرى الإسلام غير متسق مع مُثُل المساواة والحرية لدى الجمهورية الفرنسية (أي التقييد الصارم على التعبير الديني فلا يتجاوز المجال الخاص وإعلاء قوانين الأغلبية). ومن هنا كان كل ذلك الصدى لإدانة ماكرون العلنية لطبيعة الاستعمار الإجرامية. ففي حين أن هذه ليست رؤية خلافية للغاية في أوساط المؤرخين المحترفين، فهي تعارض أغلب الأصوات العالية في كل من اليمين الشعبوي واليسار الجمهوري المناهض للدين. لقد فتح تصريح ماكرون فضاء للاعتراف بأخطاء فرنسا في الماضي. والأمل والفتح المحقق هو أن إبراز هذه الأخطاء، وتسميتها، وعرضها على الأعين، قد يفضي إلى تشخيص أفضل لعقدة فرنسا في التعامل مع أقلياتها العرقية والدينية. إن الاعتذار عن أهوال الاستعمار إشارة قوية وضرورية في واقع الأمر، إشارة صدق تجاه كثير من مواطني فرنسا الذين تنحدر أصولهم من المستعمرات، والذين يعانون الحرمان من بعض حقوقهم. والصدق في ما يتعلق بالماضي أول خطوة نحو التصالح.

مانو ساديا كاتبة فرنسية مقيمة في لوس أنجلوس.