Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

كـيـف سـيـكـون الـعـالم فـي عـام 2050

02 مارس 2017
02 مارس 2017

مستقبل العرب في «ما بعد العولمة» -

تأليف: د.جلال أمين -

عرض وتحليل: إميل أمين -

943774

هذا الكتاب محاولة جادة لواحد من أهم مفكرينا لاستشراف ما يمكن أن يكون عليه العالم في منتصف القرن الواحد والعشرين. ويخصص فيه الدكتور جلال أمين فصلين لتناول مستقبل مصر والوطن العربي، فالتفكير في المستقبل والتخطيط الجاد له هما من أساسيات نهضة الأمم، إن أرادت أن يكون لها مكانة تحت الشمس.

كما يتناول المؤلف مستقبل بعض المفاهيم والنظم وأنماط المعيشة التي تشغل بالنا وتؤثر في حياتنا في الوقت الحاضر، كالرأسمالية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.

وينهي عالمنا الاقتصادي الكبير كتابه بفصل ما يمكن أن يصبح عليه حال علم الاقتصاد والفكر الاقتصادي بوجه عام بعد خمسين عاما.

إنه كتاب رائد ومهم وأساسي لأي شخص مهتم بأوضاع مصر والعالم العربي، وبما سيؤول إليه حالنا وحال البشرية خلال العقود القادمة، لا سيما أن مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور جلال أمين أحد أكبر وأهم العقول المصرية والعربية، كاتب وناقد سياسي واقتصادي، وصاحب الباع الطويل في مجال الدراسات الإنسانية والمستقبلية، وصاحب مؤلفات «ماذا حدث للمصريين»؟ وعصر الجماهير الغفيرة» وعصر التشهير بالعرب والمسلمين، وقد اخترنا التركيز بشكل خاص على رؤيته للعالم العربي ومراجعاته التاريخية لفكرة القومية العربية بصورة آنية لا تخلو من نقد بناء للتجربة التاريخية السابقة، وما يمكن أن تؤول إليه آفاق التعاون بين العالم العربي في قادم الأيام.  

القومية العربية .. مراجعة تاريخية

يقول الدكتور جلال أمين مؤلف الكتاب إن القومية العربية أصيبت بضربات في النصف الثاني من الستينات، ثم توالت عليها الضربات من كل اتجاه طوال الأربعين عاما التالية، حتى كادت الدعوة إلى الوحدة بأي صورة من الصور تختفي من جداول أعمال السياسيين العرب وخطبهم على السواء. وحتى أصبحت المقارنة بين مشاعر شبابنا اليوم نحو هدف الوحدة، وبين مشاعر جيلي عندما كنا في مثل عمرهم، داعية للأسي والدهشة في نفس الوقت.

ولكني أريد أن أزعم أن قراءة تاريخ القومية العربية في فترة أطول من خمسين عاما، أي خلال قرنين كاملين، يمكن أن تخفف من هذا الشعور بالقنوط، إذ قد يستخلص من هذه القراءة أن القومية العربية، بكلا المعنيين، تمر بدورات من الازدهار ثم الضعف ولا تسير بالضرورة، لا في تقدم مستمر ولا انحسار مستمر. إذا كان الأمر كذلك حقا، فإن من المهم أن نفهم بالضبط عوامل الازدهار وعوامل الانحسار، عسى أن يكون في مقدورنا وقف التدهور الراهن وإعادة الحيوية من جديد للشعور بالولاء لهذه الأمة، وللحركة الهادفة إلى توحيدها.

مراحل ازدهار القومية العربية

مرت القومية العربية خلال القرنين الماضيين بثلاث مراحل باهرة من الازدهار، تلتها ثلاث مراحل من التدهور. كانت المرحلة الأول في العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر، ولعب الدور الناصع فيها والي مصر، محمد علي، وابنه الفذ إبراهيم. كان محمد علي يطمح بلا شك في إقامة إمبراطورية عربية، فنجح في فتح السودان وضمها إلى مصر في 1821، واستمر ذلك ثلاثين عاما حتى وفاته في 1849. وفتح ابنه إبراهيم بلاد الشام، فانضمت بدورها إلى حكم محمد علي فيما بين 1832 و1840. تحالف محمد علي مع الأمير بشير في لبنان، الذي حكم لبنان نحو خمسين عاما، حتى سقط مع حرب محمد على في 1840. ودان الحجاز لمحمد علي بالولاء إلى أن ضُرب محمد علي. دخلت حركة التوحيد العربي في حالة انحسار طوال الربع الثالث من القرن التاسع عشر، ثم التهبت المشاعر من جديد ونشطت حركة المناداة بالتوحيد في العقدين الأخيرين من القرن وخلال الحرب العالمية الأولى، فتعددت منذ 1875 الجمعيات السرية والعلنية التي تنادي بالاستقلال للعرب، وبإحياء حضارتهم، وتحقيق وحدتهم. وساهم في هذه الدعوة كُتاب ومفكرون مسلمون ومسيحيون، كعبد الرحمن الكواكبي ونجيب عزوري، حتى تحولت الدعوة إلى ثورة ضد الإمبراطورية العثمانية قادها الحسين بن علي والي مكة. ثم ضُربت الفكرة والحركة والثورة العربية ضربة قاصمة، كما هو معروف، بخيانة الحلفاء لوعودهم وقيامهم بتقسيم غنائمهم العربية بين بريطانيا وفرنسا. وانشغلت دول المشرق العربي، طوال فترة ما بين الحربين، كما انشغلت مصر، بهدف تحقيق الجلاء، عن أي هدف يتعلق بفكرة العروبة.

الأربعينات وصحوة العروبة

دبت الحياة من جديد في الشعور القومي وحركة القومية العربية في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وساهمت في إذكاء هذا الشعور كتابات ساطع الحصري، وحركة القوميين العرب، وكذلك حزب البعث. واقترن هذا الانتعاش في الفكرة القومية بتتابع الثورات والانقلابات في دولة عربية بعد أخرى، وبإعلان كثير من هذه الثورات والانقلابات إيمانها بالوحدة العربية، بل ونجح بعضها في تحقيق أشكال مصغرة من الوحدة، على أمل أن تتسع في المستقبل فتشمل الدول العربية كلها. وكان أكثر صور التوحيد نجاحا وطموحا اتحاد مصر وسوريا في 1958م حين تكونت الجمهورية العربية المتحدة، على أمل أن تكون نواة لوحدة عربية تزداد اتساعا. ثم أصاب الحركة القومية الانتكاس من جديد وأطلقت ضربات متتالية من انفصال سوريا عن مصر في 1961، ثم فشل محادثات الوحدة التي تجددت في 1963 بين سوريا ومصر والسودان، واشتداد هجوم الدول العربية المسماة بـ«بالمحافظة» على الدول العربية المسماة بـ«الثورية»، وزيادة التباعد والجفوة بين الفريقين، حتى أصيب الجميع بضربة قاصمة في 1967م عانى منها الثوريون والمحافظون على السواء، كما أصابت في الصميم حركة القومية والتوحيد العربية، وأضعف بشدة الشعور بالانتماء والولاء لأمة عربية كبيرة نتيجة للضعف الذي أصاب الأمل في تحقيق أي هدف من الأهداف القومية الكبرى. ولا يزال هذا الضعف في حركة القومية العربية وفي الولاء القومي سائدا حتى اليوم، مما طبع بالإحباط والقنوط أي تفكير يتعلق بمستقبل القومية العربية.

استشراف المستقبل والقومية

لا يكتفي المؤلف بالحديث عن ماضي القومية العربية بل يسعى في طريق المستقبل ولهذا يرى أن أي محاولة لاستشراف مستقبل القومية العربية، يجب أن تحاول الإفادة من دروس هذا التاريخ الذي عرض باختصار شديد في السطور السابقة. ويعتقد أن قارئ هذه التجارب الثلاث التي مرت بها القومية العربية في الصعود ثم السقوط لا بد أن يلاحظ اشتراكها جميعا في سمتين أساسيتين: تتعلق إحداهما بطبيعة النظام السياسي والتركيب الاجتماعي الذي ساد العالم العربي في كل من الحقب الثلاث، وتتعلق السمة الثانية بدور العوامل الخارجية في حالة بعد أخرى من حالات الصعود والسقوط. و... ماذا عن السمة المتعلقة بالأوضاع الداخلية أولا ؟

هنا لا بد أن نلاحظ أولا في كل التجارب الثلاث غلبة دور الزعيم أو القائد على دور المساهمة الشعبية أو الجماهيرية، أو بعبارة أخرى: الطابع النخبوي الضيق للغاية الذي اتسمت به الحركة القومية. نحن نعرف جيدا أن محمد على في سعيه لإقامة إمبراطورية عربية لم يكن مدفوعا في فتحه لبلاد الشام بأكثر من دوافع شخصية له ولابنيه.

نحن نعرف أيضا أن الشعور القومي العربي طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر كان أضعف بكثير من الشعور الديني. نعم، كان العرب من مختلف الأديان يشعرون بكراهية شديدة للاستبداد التركي، مما جعلهم يستقبلون الفاتح المصري أحيانا بـ«التأييد والتهليل والتكبير» على حد تعبير جورج أنطونيوس، ولكن هذا الفتح المصري لم يكن يستند إلى أي مصالح طبقية كتلك التي استندت إليها الحركات القومية في أوروبا في نفس القرن. يجب أن نلاحظ أيضا أن مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر كان من التأخر وحالة التعليم من التردي ووسائل الاتصال بين بلد عربي وآخر من البدائية، بحيث تمنع كلها أي نمو ذي شأن لحركة تستهدف الوحدة العربية.

لا أعتقد أن علينا أن نعلق أهمية كبيرة في تفسير نجاح أو فشل الحركة القومية على مدى نبل الدافع إليها. فالحركات القومية، سواء في ذلك القرن أو غيره، نادرا ما عرف عن قوادها نبل الدافع أو تجردهم من المصالح الشخصية، ولا أظن أن الحكم على أي حركة قومية من هذه الزاوية يتسم بالحكمة. فكثيرا ما تنتج أفضل الأشياء من أهداف غير نبيلة، وكثيرا ما تنجح مطامح الحاكم الشخصية أن تثير لدى الناس العاديين أنبل المشاعر وتدفعهم دفعا إلى تحقيق أعظم الأهداف. ولكن المؤكد على أي حال أن نجاح محمد على وإبراهيم في توحيد مصر والسودان وبلاد الشام والحجاز تحت إمرتهما لم يكن تلبية لمطلب شعبي ولا استند إلى مصالح شعبية أو طبقية.

الوحدة وإحياء الحضارة العربية

كان الوضع من هذه الزاوية أفضل قليلا بعد نصف قرن، فقد أصبحت الوحدة العربية وإحياء الحضارة العربية مطلبا حقيقيا لدى شريحة واسعة من المثقفين في المشرق العربي. لم تأت قيادة هذه الحركة من مصر في هذه المرة، بل قامت في الشام والجزيرة العربية. كانت الحركة الوطنية في مصر منذ الاحتلال الإنجليزي لها في 1882 تهدف إلى تحقيق الجلاء. وبدا هدف الوحدة العربية أو إحياء المجد العربي للمصريين في ذلك الوقت هدفا بعيدا عن الهدف العاجل وهو التحرر من الاحتلال البريطاني. بينما كانت الأهداف التي تحملها فكرة القومية العربية في بقية بلاد المشرق العربي متسقة تماما مع هدف التحرر من الاستبداد التركي، ومن قهر اللغة التركية للغة العربية، وهدف تخليص المشرق العربي كله من محتل واحد، هو الدولة العثمانية.

ومع هذا فلم تكن الحركة القومية في هذه المرحلة أيضا تستند إلى أي مصالح اقتصادية ذات شأن، ولا إلى تأييد طبقة أو شرائح اجتماعية تجد لها مصلحة قومية لدى المصريين والجزائريين على السواء. وأظن أن ما حدث لا بد أنه زاد من إحباط المتعاطفين مع فكرة القومية العربية، حتى في خارج مصر والجزائر.

العوامل السلبية المؤثرة في القومية

ولكن مهما كانت قوة العوامل المؤثرة في فكرة وحركة القومية العربية، من داخل العالم العربي، فإني، مرة أخرى، أعلق أهمية أكبر على العوامل المؤثرة فيها من الخارج.

إن الضعف النسبي الذي أصاب مركز مصر، وأصاب ولاء شريحة واسعة من الطبقة الوسطى العربية إزاء الفكرة القومية، كلاهما كان إلى حد كبير بتأثير عوامل خارجية: فالتدهور في مركز مصر حدث كما ذكرت ابتداء من حرب 1967م وهي اعتداء خارجي. وضعف الولاء الناتج عن اشتداد حركة التغريب في العالم العربي، يعود إلى حد كبير إلى ما طبقته الدول العربية من سياسات الانفتاح على الغرب في أعقاب تلك الحرب، وهي سياسات كانت في رأيي نتيجة ضغوط خارجية أكثر من كونها اختيارا حرا من جانب السياسيين العرب. ولكن مسؤولية العوامل الخارجية في إضعاف القومية العربية اتخذت أيضا خلال الأربعين عاما الماضية شكل سياسات وإجراءات متعمدة من جانب قوى خارجية لإضعاف المشروع العربي، وأقصد بالطبع، وعلى وجه الخصوص، إسرائيل والولايات المتحدة.

من اللافت للنظر كيف تحول وجود إسرائيل في داخل العالم العربي من عامل موحد للعرب منذ إنشاء هذه الدولة في 1948 حتى حرب 1967م إلى عامل مفرق ومشتت للعرب بعد حدوث هزيمة 1967م. كان غرس الدولة الإسرائيلية في العالم العربي في 1948 بمثابة دخول الشوكة المسمومة في الجسم العربي، وطوال العشرين عاما التالية لم يفقد العرب الأمل في قدرتهم على انتزاع هذه الشوكة من جسمهم، وكان اجتماعهم على تأييد عبد الناصر والسير وراءه ناتجا إلى حد كبير عن هذا الأمل. تغير الأمر بصورة مأساوية بوقوع هزيمة 1967م، إذ أخذ اليأس يحل بالتدريج محل الأمل وأغرى ذلك جزءا بعد آخر من أجزاء العالم العربي بالبحث عن آمال وطموحات أخرى، بعيدة الصلة عن تحقيق مشروع النهضة العربية والتوحيد العربي.

كان هجوم صدام حسين على الكويت في 1990م عاملا مهما في نشر مزيد من اليأس والإحباط بين المؤمنين بالقومية العربية، وقد كان المستفيد الوحيد منه إسرائيل، والولايات المتحدة، وقد ترك أثرا بالغ السوء على أمل العرب في الوحدة خاصة لدى سكان دول الخليج.

ما إن انتهت حرب الخليج حتى رفع شعار «الشرق – أوسطية»، وهو مشروع إسرائيلي – أمريكي يهدف إلى القضاء إلى غير رجعة على مشروع القومية العربية، وإحلال مشروع جديد محله، يقوم فيه العرب بدور التابع، سياسيا واقتصاديا، للدولة الإسرائيلية، وتحل محل الهوية العربية، هوية تسمى «الشرق – أوسطية»، أو بالأحرى هويات متعددة لا يجمعها إلا خدمة الأهداف الإسرائيلية. وقد لعبت وسائل الإعلام، ولا زالت تلعب، دورا مهما في خدمة المشروع الجديد، بما في ذلك، للأسف، كثير من وسائل الإعلام العربية.

كان من الممكن أن يأمل المرء في أن يؤدي تيار العولمة الذي ازداد قوة خلال الأربعين عاما الماضية إلى تقريب الدول العربية بعضها من بعض، وتقوية درجة الالتحام بين الشعوب العربية كما يؤدي إلى تقويتها بين شعوب العالم بأسره. ولكن المذهل

أن نجد أن العولمة، وإن كانت قد سهلت الاتصال المادي بين أجزاء العالم العربي، وزادت من تنقل الأيدي العاملة والسلع فيما بينها، ومن تسهيل نقل المعلومات بين بلد عربي وآخر لم تساهم بأي درجة تذكر في تقوية الروابط الفكرية أو العاطفية بين الشعوب العربية. بل حتى فيما يتعلق بالمعلومات، وإني أقارن اليوم بين كمية الأخبار والمعلومات التي تنشرها الصحف المصرية عما يجري في سوريا مثلا أو السودان أو المغرب أو تونس، وبين ما كنا نقرأه من أخبار هذه الدول في صباي وشبابي، فألاحظ تدهورا مدهشا، يزيد من الدهشة له السهولة التي يمكن بها نقل الأخبار والمعلومات من مكان لآخر في عصر العولمة ولا يمكن أن نفسر ذلك بمجرد الخطأ أو قلة الكفاءة، إذ لا بد أن يكون نتيجة لسياسات متعمدة للتفريق والتشتيت، بالإضافة إلى ضعف الهمة وقلة المبالاة في بذل الجهد اللازم للخروج من هذه المحنة.

دواعي الأمل في مستقبل عربي

مع كل هذه الأسباب الداعية للتشاؤم هل هناك بعد من أمل في وحدة عربية بشكل أو بآخر؟

يجيب صاحب الكتاب بالقول: لا أعتقد أن الوضع خال تماما من دواعي الأمل في مستقبل أفضل للقومية العربية، سواء في ذلك الوضع الداخلي في العالم العربي، أو الوضع الخارجي. ولكني قبل أن استعرض دواعي الأمل هذه أريد أن أعبر عن وجهة نظر قد تبدو غريبة وسط جو مفعم بالتشاؤم بمستقبل القومية العربية.

إن المدهش مثلا في الوضع الراهن للعرب ليس هو الفشل في تحقيق وحدتهم وفي استمرار انقسامهم وتفرقهم، بل المدهش هو أنه على الرغم من كل ما تعرض له العرب طوال المائة وثمانين عاما الماضية من عقبات وعوائق في طريق الوحدة، لا زال للشعور القومي العربي موجود علي الإطلاق، ولا زال أمل الوحدة يطوف بأذهان العرب بين الحين والآخر.

يقصد الكاتب بالعقبات والعوائق احتلال الإنجليز لعدن في سنة 1830م، واحتلال الفرنسيين للجزائر في نفس العام، إلى تفريق متعمد بين الدول العربية، إلى تجزئة الدولة العربية إلى أكثر من دولة، إلى رسم حدود الدول العربية بحسب ما يحقق مطامح الدول الاستعمارية المتنافسة، إلى فرض كل دولة استعمارية لنظام للتعليم يقوم علي تعليم لغتها دون غيرها من اللغات، ويرسخ الشعور بالولاء لثقافتها دون ثقافات غيرها، وسياسة اقتصادية تفتح الأسواق لسلعها دون سلع غيرها، إلى غرس دولة غريبة في قلب الأمة العربية لا تكف عن العمل علي وأد أي محاولة للنهوض من الدول العربية المحيطة بها، وعرقلة أي محاولة للوحدة بين هذه الدول.

المدهش أن هذه الأمة التي تبدو كأنها تمر بأحلك أيامها، وعلى الرغم مما يظهر من استهتار بالروابط القومية، بل ومقاومة للتيار الداعي إلى تقريب العرب بعضهم من بعض، علي الرغم من ذلك نجد صمودا يدعو إلى الإعجاب من جانب المجتمع المدني في رفض خطوات التطبيع مع إسرائيل، واستعدادا لتحدي الحكومات العربية من أجل مساندة ودعم الفلسطينيين. على الرغم من جهود استمرت 180 عاما لتقطيع أوصال الأمة العربية لا زلنا نجد الكتاب العربي يصدر في الجزائر أو تونس فيقرأه أهل الكويت والبحرين، وما يكتبه الشاعر الفلسطيني أو السوري يتحول إلى أغنيات يتغنى بها المصريون والسودانيون.

هذا الصمود المدهش في مواجهة عوامل التفتيت والتفريق يدل في رأي علي قوة كامنة في أعماق الشخصية العربية، ومستمدة من حضارة ثرية تستند إلى لغة عبقرية. هذه القوة الكامنة في الشخصية العربية أعتقد أن أعداء الأمة العربية يدركونها جيدا جدا، وإن كان يطيب لهم أن ينكروها وأن يعلموا العرب التنكر لها.

عوامل خارجية مبشرة بالوحدة

هناك أيضا في العالم الخارجي تطورات مهمة قد تدعو للتفاؤل بمستقبل القومية العربية. إن العالم في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين يبدو مختلفا جدا عما كان عليه عندما تلقت التجربة الثالثة للحركة القومية العربية تلك الضربة الفادحة في 1967. لقد مضى على تلك الضربة الفادحة ما يقرب من نصف قرن، أخذ مركز الثقل خلالها ينتقل بالتدريج من الغرب إلى الشرق، وتهاوت خلاله بالتدريج زعامة الولايات المتحدة للعالم، بعد أن كنا نظن منذ عشرين عاما فقط أنها قد أصبحت الآمر والناهي الوحيد في العالم.

إن تدهور المركز النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي لا بد عاجلا أو آجلا أن يؤدي إلى تدهور مركزها السياسي والثقافي. لقد استمرت الولايات المتحدة خلال نصف القرن الماضي كله في تقديم العون والدعم لإسرائيل التي استخدمت هذا العون والدعم في قهر العرب وضرب القومية العربية. ولهذا فإنه لا يسعني إلا أن أستبشر خيرا بتدهور مركز الولايات المتحدة، اقتصاديا وسياسيا، وأجد فيه بصيص أمل، مهما كان ضعيفا، في انتعاش القومية العربية.

كتب المستشرق «فون جرونباوم» مرة أنه «حينما تخضع أمة لسيطرة ثقافة غريبة عنها، فإن نهضة الأمة المغلوبة وإحياء ثقافتها يتوقفان علي إصابة الأمة الغالبة بالضعف والانكسار أكثر مما يعتمدان علي عوامل ذاتية في الأمة المغلوبة نفسها». فإذا كان هذا صحيحا فإنه قد يبعث في نفوسنا بعض الأمل في مستقبل القومية العربية.

ومع ذلك فإنه من المؤكد أن من الحماقة أن نبالغ في تعليق الآمال علي تدهور أمة أخرى. إن تاريخ القومية العربية نفسه يعلمنا أن العرب يمكن أن تتداولهم دولة استعمارية بعد أخرى دون أن يحرزوا تقدما يذكر نحو تحقيق آمالهم. والأمل لا بد أن ينعقد في نهاية الأمر على ما يفعله العرب بأنفسهم. ومع هذا فإن من المهم أيضا أن نلاحظ أن العالم يبدو اليوم كأنه مقبل علي تحول لم يحدث له منذ خمسمائة عام، وهو انتقال مركز الإشعاع الحضاري في العالم من الغرب إلى الشرق، وأن التدهور النسبي في مكانة الولايات المتحدة قد يعني شيئا أهم من ذلك وهو بداية المغيب للحضارة الغربية كلها.

تأثير العولمة علي القومية العربية

قد يكون هذا سببا لبعث الأمل، ولكنني أعود فألاحظ شيئا آخر من شأنه أن يضاعف الخوف ويزيد من التشاؤم، وهو أثر التيار المتسارع للعولمة، ليس فقط علي الشعور بالولاء للقومية العربية بل وعلى الهوية العربية نفسها. إن التجارب الثلاث السابقة لحركة القومية العربية تبدو مختلفة فيما بينها في الدوافع الأساسية المحركة لها، وهذا لابد أن يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان الدافع المحرك لحركتنا القومية في المستقبل يمكن بدوره أن يكون من نوع جديد.

في تجربة النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان الدافع إلى تكوين دولة عربية تحقيق الاستقلال السياسي عن الإمبراطورية العثمانية، استجابة لطموحات فرد واحد أو أسرة واحدة هي أسرة محمد علي. وفي تجربة الحرب العالمية الأولي، وإن كان من دوافع الحركة القومية دافع الاستقلال السياسي أيضا عن الإمبراطورية العثمانية (فضلا بالطبع عن المصالح العسكرية والسياسية لبعض الدول العظمي)، فقد كان من بين أقوى الدوافع الأمل في استعادة المجد العربي القديم. في تجربة منتصف القرن العشرين، واقترن بدافع الاستقلال السياسي عن الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، دافع تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، ودافع تحقيق الاستقلال الاقتصادي وتنمية اقتصادية سريعة عن طريق إقامة تكتل عربي.

ما الدافع الذي يمكن أن يثير همة العرب الآن للقيام بحركة قومية جديدة، ويثير حماسهم لتحقيق الوحدة العربية ؟

إن البلاد العربية التي كانت محتلة في منتصف القرن الماضي قد تحررت كلها سياسيا، ولو اسميا فقط، فيما عدا فلسطين. ولكن أضيفت العراق إلى فلسطين في محنة مشابهة من الخضوع للاحتلال والقتل والتشريد. لم تعد قضية الاستقلال الاقتصادية تحتل المكانة التي كانت تحتلها في منتصف القرن الماضي، لا لأن البلاد العربية قد استردت سيادتها علي مواردها، ولكن لأن السيادة الوطنية علي الموارد الاقتصادية لم تعد تلهب حماس الناس في عصر الشركات الدولية العملاقة والعولمة الاقتصادية، مثلما كانت تلهبها منذ نصف قرن.

ولكن إلى جانب قضية فلسطين، وقضية العراق، أخذت قضية جديدة في الظهور والنمو خلال نصف القرن الماضي، لم تكن، فيما أظن، لتخطر في بال أي من الحركات العربية الثلاث السابقة، وهي ما يتعرض له العرب من تهديد متزايد لوجودهم كأمة. إني أزعم أن الخطر الأساسي الذي يهدد العرب اليوم، أكثر من الاحتلال العسكري، وأكثر من السيطرة السياسية وأكثر من الاستغلال الاقتصادي، هو ما يتعرضون له من تهديد لاستمرارهم كأمة، أي التهديد لما يجمعهم من لغة وثقافة وعادات وقيم مشتركة، أي لكل ما يكون هوية الأمة ويميزها عن غيرها من الأمم.

العروبة وأزمة الهوية العربية

إن عوامل تخريب الهوية العربية التي نشطت خلال العقود الخمسة السابقة كان بعضها نتيجة لتسارع تيار العولمة الذي خضعت له سائر الأمم بدرجات مختلفة، ولكن بعض هذه العوامل كان نتيجة أعمال متعمدة لتفكيك أوصال الأمة، والانفراد بكل جزء منها علي حدة، وإضعاف لغتها واستبدال غيرها بها، وتحقير ثقافتها، وتزوير تاريخها، وإفساد نظام التعليم فيها. إن هذا التخريب المتعمد يخدم مصالح اقتصادية خارجية تري في تمسك العرب. بثقافتهم وفي ولائهم لها عائقا في وجه توسيع الأسواق للسلع ورؤوس الأموال الأجنبية، ولكن هذا التخريب يخدم أيضا بلا شك مصالح الصهيونية في ترسيخ وجودها في فلسطين، كما يسهل بشدة مهمة المحتلين الغربيين في إخضاع العراق واستغلاله.

إذا كان هذا التصوير صحيحا لطبيعة التحدي الذي يواجه الحركة القومية العربية اليوم فإنه يبدو لي أخطر وأصعب مما كان يواجه أيا من الحركات القومية الثلاث السابقة. كان محمد علي وابنه إبراهيم يواجهان جيشا تركيا ضعيفا ودولة عثمانية اجتمعت فيها العلل، فاستطاعا أن ينشآ بالفعل إمبراطورية عربية صغيرة، لولا اتحاد الدول الأوروبية ضدها لترسخت جذورها واتسعت. واجه الشريف حسين أيضا دولة عثمانية ضعيفة، وتلقى مساعدات عسكرية من بريطانيا، ولكنه كان يواجه مؤامرة مبيتة من أقوي دولتين في العالم، منعتاه من أن يرسي أول حجر لتأسيس دولته العربية. عندما حمل جمال عبد الناصر لواء القومية العربية بعد ذلك بأربعين عاما، كان العالم قد أصبح أكثر قسوة، وكان عليه أن يواجه، فضلا عن المصالح المحلية المعادية، دولة صهيونية جديدة تدعمها أقوى دولة في العالم، لها أطماع في ثروة العرب من البترول، مما لم يكن له شأن يذكر لا في أيام الشريف حسين ولا في أيام محمد علي وإبراهيم.

اليوم يواجه العرب، ليس فقط دولة إسرائيلية أقوي بكثير مما كانت في منتصف القرن الماضي، مما جعلها تطمع في أكثر بكثير مما كانت تطمع فيه حينئذ، ولكنهم أيضا يواجهون تيارا من العولمة يفت في عضدهم، ويضاعف من شكوكهم في أنفسهم، ويعمل علي طمس هويتهم كأمة.