أفكار وآراء

العلاقات الأمريكية الأوروبية.. رياح التغيير

28 فبراير 2017
28 فبراير 2017

جمال إمام -

هل بات على دول الاتحاد الأوروبي أن ﺘﺴﺎﺭﻉ من الآن للاعتماد على نفسها والبحث عن ﻃﺮﻕ ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ أمنها بعيدًا عن الولايات المتحدة  بعد أن قالها الرئيس دونالد ترامب صراحة أن على دول أوروبا تحمُل عبء الدفاع عن نفسها وتكاليفه المادية وأن الولايات المتحدة ليس عليها أن تنفق تلك المبالغ الهائلة لتأمين أوروبا..  

والواقع أن كثيرين ذهبوا في التعليق على هذا التوجه الجديد للسياسة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب على أنه بداية تحول المصالح الأمريكية بعيدًا عن القارة العجوز التي لازمت الولايات المتحدة كظلها في كل الخيارات التي تبنتها واشنطن سياسيًا وعسكريًا..

حتى أن السياسات المشتركة كانت تعكس أحيانا استراتيجية واحدة تصل إلى قناعات أوروبية بالدرجة الأولى خاصة في قضايا وملفات كثيرة حتى بدت أوروبا في مرحلة ما وكأنها صدى صوت للولايات المتحدة..

ومع ذلك لست مع الرأي الذي يرى أن ثمة طلاقًا بائنًا سيقع حتمًا على جانبي الأطلسي، فالعلاقات ستبقى رغم التباين الذي تفرضه رياح التغيير وتعبر عنه السياسة بلغة قد تبدو مختلفة بعض الشيء لكن لا يمكن أن تشطبها أو تلغيها. حيث المصالح الواسعة والكبيرة والمتشعبة والمتعددة التي تربط الجانبين وهما أكبر قوتين استراتيجيتين في النظام الدولي الراهن. يمكن أن نقول إن الأولويات قد تتبدل في جدول الترتيب ولكنها أبدًا لن تقبع في ذيل القائمة؛ لأن العلاقات الأنجلوسكسونية هي حجر الزاوية في مواجهة تحديات كثيرة يموج بها النظام الدولي.

والواقع أنه ليس بالضرورة أن يكون التركيز فقط في النظر لواقع ومستقبل العلاقات الأمريكية الأوروبية على التوجهات الأمريكية ونغفل تماما المواقف الأوروبية، فالاتحاد الأوروبي لديه الدوافع نفسها في التعبير عن طموحاته كقوة سياسية واقتصادية ومالية وأيضا عسكرية في أن يترك مكانه في الظل ليكون في جوار الولايات المتحدة وليس خلفها.

وهي دوافع قديمة جديدة عبرت عنها فرنسا وألمانيا كأبرز قوتين داخل الاتحاد الأوروبي بأنه حان الوقت لتغيير قواعد النظام الدولي تتبوأ فيه أوروبا مكانة مغايرة لما عليها الآن.

فرنسا على سبيل المثال عبرت أكثر من مرة عن روح أوروبا الجديدة وحاولت أن تغرد خارج السرب وجدنا ذلك في دعوتها لمؤتمر باريس للشرق الأوسط في محاولة لتكون لاعبًا مؤثرًا في السياسة الإقليمية.

وجدنا ذلك أيضًا في دعم اليونسكو في قرارها الدولي بشأن الحقوق التاريخية للعرب في المسجد الأقصى ولكنها تعاود وتنضوي في كل مرة تحت العباءة الأمريكية.

الموقف الأخير لأوروبا بما فيها المملكة المتحدة تجاه بعض قرارات الرئيس ترامب ومنها عدم رفع العقوبات الأمريكية عن روسيا بسبب موقفها من الحرب على أوكرانيا يعكس حالة من التوجس تجاه السياسات القادمة للولايات المتحدة.

ويعبر أيضًا عن حالة التململ التي تظهر من حين لآخر على السطح وهي نوع من الرغبة في التحرر ولو قليلاً من تأثير وهيمنة الولايات المتحدة كنوع من الرغبة في التعبير عن الشخصية الأوروبية، وهي دوافع ما انفكت أوروبا أن تعبر عنها، وكانت شديدة الوضوح في الدفاع عن مصالحها فيما تعتبره مناطق نفوذ ومصالح قديمة حاولت الولايات المتحدة أن تتمدد فيها ونجحت واشنطن في ذلك ولكن على مضض أوروبي.. ربما كانت هذه بعض أجواء تهب فيها رياح تغيير قادمة مع سياسة الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب، وهي تحمل من الدوافع المشروعة أيضا للولايات المتحدة في البحث عن مصالحها أينما كانت.

وهي أجواء تجعلنا نتعرف عن قرب عن أبرز ملامح التباين الذي يبدو أحيانًا مكتومًا على الجانب الأوروبي.

في النقطة الأولى

نجد أن أوروبا تعبر صراحةً عن حالة تأزيم العلاقات الأوروبية الأمريكية التي تقوم بها روسيا هكذا تقول صراحة صحيفة «شبيجل» الألمانية نقلا عن تقارير أعدها جهاز الاستخبارات الفيدرالي الألماني بالاشتراك مع المكتب الاتحادي الفيدرالي لحماية الدستور من أن موسكو تقوم منذ سنوات بالضغط على دول الاتحاد الأوروبي «محاولة عن قصد تأزيم الصراعات الاجتماعية الموجودة، خاصة في الدول الغربية»، ساعية إلى «التشكيك في العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة».

في النقطة الثانية

إنَّ الأزمة الأوكرانية تعكس صدام المصالح الأمريكية الأوروبية بدرجة كبيرة فالموقف الأمريكي بالتقارب مع الرئيس بوتين يعطي مساحة من التفاهم ربما تدفع ثمنه أوروبا التي ليس أمامها سوى التسليم بالتسوية الأمريكية الروسية كما هو شأنها في كثير من الملفات التي تتراجع فيها أوربا خطوة خلف الولايات المتحدة.

في النقطة الثالثة

إن الرئيس ترامب يتبنى في سياسته الخارجية مبدأ «أمريكا أولا» كهدف رئيسي لسياسته الخارجية بمعنى أنه لا يجب على أمريكا أن تؤَّمن مصالح غيرها أو تضعها في اعتبارها بالقدر الحالي.. مع ضرورة الالتزام بالمصالح الأمريكية والتعامل معها على أساس أنها الدافع الأساسي لأي تحرك على مستوى السياسة الخارجية فقد قالها صراحة: إن أمريكا ليس عليها أن تتحمل عبء حماية أو دفاع عن دول أخرى دون مقابل.

وهذه نقطة حساسة جدًا بالنسبة لأوروبا عندما يقترب الحديث عن الناتو والالتزامات العسكرية التي على أوروبا حيث يعترض الرئيس ترامب على تحمل الولايات المتحدة النصيب الأكبر من ميزانية حلف الناتو الذي يضم الكثير من دول أوروبا والتي لا يصل معدل إنفاقها العسكري من إجمالي الناتج المحلي إلى 2% سوى أربع دول من 28 دولة بجانب الولايات المتحدة وقد هدد بالانسحاب من الناتو إذا لم يلتزم أعضاؤه بالحد المتفق عليه للإنفاق العسكري وحتى إن لم تنسحب الولايات المتحدة فالعلاقات يعاد كتابتها بصيغة جديدة.

في النقطة الرابعة

إنَّ المصالح الأمريكية المتشعبة والهائلة تفرض على واشنطن أن تعطي لها مساحة كبيرة من الاهتمام فليس كل العلاقات قاصرة على الاتحاد الأوروبي مع أهميتها فهناك مساحة هائلة تستحقها العلاقات الأمريكية الصينية من أجل أن تتجاوز الولايات المتحدة العجز في الميزان التجاري الأمريكي مع الصين.

كما أن النفوذ الصيني على كوريا الشمالية جزء مهم من الأوراق التي تريد واشنطن أن تفسح لها المجال كأحد البدائل القوية المؤثرة على السياسات الكورية الشمالية.. وكلها متغيرات لا تؤثر على جوهر العلاقات والمصالح الأمريكية الأوربية التي تبقى لها الأولوية دون أن تغضب أوروبا إذا يممت الولايات المتحدة تجاه مصالحها الأخرى كقوة أحادية في النظام العالمي لها رؤيتها واستراتيجيتها التي تعطيها مساحة حركة كبيرة ومنها العلاقات مع أوروبا.