الملف السياسي

تشريع ينهي فرص حل الدولتين !!

27 فبراير 2017
27 فبراير 2017

د. عبدالحميد الموافي -

من المعروف أن البرلمانات، والمجالس التشريعية بوجه عام، تقوم بدور شديد الأهمية في إطار إدارة وتسيير الشؤون الداخلية للدول، وفي علاقتها أيضا مع الدول الأخرى، وذلك ضمن الإطار الدستوري والقانوني، الذي يحدد اختصاصات ومهام البرلمان أو الهيئات التشريعية، وعلاقتها مع السلطات الأخرى في الدولة، تنفيذية وتشريعية.  

ومن أكثر مصادر القوة التي تتمتع بها البرلمانات أو الهيئات التشريعية، أنها تعبر عن جموع المواطنين، أو اتجاهات الرأي العام في الدولة المعنية، حيال القضايا المختلفة، بحكم تشكيل المجالس المنتخبة منها بالانتخاب.

غير انه من المؤكد أن هذه القوة، التي يستغلها بعض السياسيين أحيانا بشكل يخدم مصالحهم أو توجهاتهم، الداخلية والخارجية، ليست مطلقة، كما أنها ليست نهائية أيضا، سواء بحكم الإطار القانوني الذي يحكم سلطات الدولة المعنية، ويحدد العلاقة فيما بينها، وهو ما يعطي في كثير من الأحيان دورًا وكلمة نهائية للمحاكم العليا أو الدستورية للفصل، في حالات تنازع أو تعارض الاختصاص، أو بحكم العلاقة بين القانون الداخلي والقانون الدولي، والقاعدة المستقرة في هذا المجال، بشأن أن قواعد وأحكام القانون الدولي تسبق وتعلو على القانون الداخلي للدولة، وهو ما يعني ببساطة انه لا يمكن لدولة ما أن تحتج بقانون، أو بحكم داخلي، أصدرته إحدى مؤسساتها، من أجل أن تعارض أو تتنصل من التزام أو أحكام أقرها القانون الدولي أو أصدرتها الأمم المتحدة أو محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية.

صحيح أن هناك انتهاكات كثيرة للقانون الدولي، ولتلك الأحكام، وأن إسرائيل هي إحدى الدول المارقة، أو الخارجة على الشرعية الدولية، ولكن هذه قضية أخرى، لا تلغي القاعدة التي ينبغي الالتزام بها، والتي يسير المجتمع الدولي نحوها، وان كان تطوره بطيئا في هذا المجال لاعتبارات كثيرة. على أية حال فان قرار الكنيست الإسرائيلي الأخير حول ما يعرف بقانون التسوية، أو قانون تبييض المستوطنات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية -وكأن هناك مستوطنات شرعية- يثير هذه النقطة، المتمثلة في استغلال المؤسسات التشريعية -وبشكل مقصود- للقيام بأدوار سياسية محددة، تتجاوز الدور التقليدي لتلك المؤسسات، من أجل تشريع أو تسويغ اغتصاب حقوق الآخرين، وهي هنا الحقوق الفلسطينية، وعلى نحو صارخ، وبكل ما يترتب على ذلك من نتائج أيضا. وفي هذا الإطار فلعله من الأهمية بمكان، الإشارة باختصار إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

• أولا: إن القضية الفلسطينية في جوهرها هي قضية استعمار إسرائيلي استيطاني، وبدون الحاجة إلى الدخول في أسس ومنطلقات هذه القضية، والمراحل التي مرت بها، وتدخلات وتأثيرات القوى والأطراف الدولية المختلفة، بما في ذلك الأمم المتحدة ذاتها، التي سوغت إنشاء إسرائيل بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 29 أكتوبر 1947، فان الأراضي التي خصصها قرار التقسيم للفلسطينيين، هي أراض فلسطينية بالقطع، قبل قرار التقسيم وبعده، وإذا كانت إسرائيل قد استولت على الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، ضمن الأراضي التي احتلتها عام 1967، فان كل قرارات الأمم المتحدة، بما فيها قرارات مجلس الأمن الدولي، أكدت رفض ضم الأراضي بالقوة، وأكدت على أن الأراضي التي استولت عليها إسرائيل عام 1967 هي أراض محتلة، وان إسرائيل دولة احتلال، وان إجراءات الاحتلال لا تغير من الحقوق الفلسطينية الأصيلة في الأراضي المحتلة، وأن الحقوق الفلسطينية هي حقوق غير قابلة للتصرف، ثم كان قرار مجلس الأمن الأخير 2334 في ديسمبر الماضي، والذي صدر بإجماع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، والذي يدين الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ويدعو لوقف عمليات الاستيطان وإنهائه أيضا. هذه المواقف والقرارات المتراكمة ليست بدون فائدة، ولكنها بدأـ تحدث اثرها، الذي لا يزال محدودًا لأسباب كثيرة، ولذا فان تغيرا دوليا ينمو الآن بشكل متزايد على المستوى الدولي، الأوروبي والغربي وفي العالم الثالث، ولا يقلل من ذلك أن ترامب قرر عدم انتقاد إسرائيل طوال حكمه، والمؤكد ان ذلك يقلق إسرائيل بشكل متزايد.

وفي محاولة لخداع العالم، وايهامه بأن إسرائيل دولة مؤسسات، وان حكومتها تخضع لما يمكن ان يصدره الكنيست - البرلمان الإسرائيلي - من قرارات، فإن الحكومة والأحزاب اليمينية المتطرفة لجأت الى التحرك من خلال الكنيست لإصدار قانون التسوية، وهي خطوة الغرض منها منع حكومة نتانياهو من القيام بإخلاء المستوطنات العشوائية، التي يقوم المستوطنون الإسرائيليون - وبتشجيع من وزراء الحكومة أو بعضهم - بإقامتها في مناطق متفرقة من الضفة الغربية، وعلى أراض مملوكة ملكية خاصة للفلسطينيين ،ثم إعطاء الحكومة مبررا للتقاعس وعدم القيام بأي خطوة لمنع ذلك، بحجة الامتثال لقرار صادر عن الكنيست.

• ثانيا: إنه في الوقت الذي يمثل فيه قانون التسوية، نقلة همجية لتسريع الاستيطان في القدس الشرقية وعموم الضفة الغربية المحتلة، ودون أية ضوابط، أو اعتبار لملكية فلسطينية خاصة أو عامة، أو لاتفاقيات تم التوقيع عليها مع منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، فإن قرار الكنيست أثار جدلا واعتراضا من بعض الأوساط الإسرائيلية ذاتها، بالتأكيد ليس انتصارًا للحقوق الفلسطينية، ولا خوفا عليها، ولكن خوفًا من وحشية الاستيطان، وقلقًا بشأن ما يمكن أن يترتب على ذلك، سواء على الصعيد الفلسطيني في الضفة الغربية، أو بالنسبة لصورة إسرائيل في العالم، وهو ما سبق وحذر منه وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، قبيل أن يغادر منصبه مع إدارة أوباما في 20 يناير الماضي. وبالفعل بدأت جهات إسرائيلية في رفع دعاوى قضائية أمام المحكمة العليا الإسرائيلية للمطالبة بوقف هذا القرار لخطورته على إسرائيل ذاتها.

أما المسار الآخر، الذي ينبغي التركيز عليه، فلسطينيا وعربيًا ودوليًا أيضا، فانه يتمثل في انتهاك الكنيست للقانون والقرارات والشرعية الدولية، بالنسبة للأراضي الفلسطينية المحتلة. فالكنيست الإسرائيلي لا يمكنه، وليس من حقه، تغيير صفة الأراضي الفلسطينية المحتلة، من أراض محتلة إلى أراض إسرائيلية؛ لأن ذلك يتعارض مع قواعد ومبادئ القانون الدولي المستقرة، ومع قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة . وهنا تحديدًا تثور مسألة ضم إسرائيل للقدس الشرقية مثلا، وإعلان القدس عاصمة موحدة، التي اقدم عليها الكنيست الإسرائيلي، وهو أمر لم يعترف به العالم، ولن يعترف به، لمخالفته الصارخة للقانون الدولي، ولمصادرته على خطوات الحل النهائي للقضية الفلسطينية.

صحيح أن الحكومات الإسرائيلية، التي تريد استمرار ضم القدس الشرقية وأكبر مساحات ممكنة من الضفة الغربية، تحتج بقرارات الكنيست في هذا الشأن، ولكن الواقع أن قرارات الكنيست لا سند قانوني دولي لها، بل انها غير شرعية.

وينطبق ذلك أيضا على القرار الأخير للكنيست بشأن قانون التسوية. حيث لا يمكن الاحتجاج بأنه قرار للكنيست وكفى، لأنه قرار غير شرعي ويشرع لاغتصاب الأراضي الفلسطينية بشكل اكبر، ولن يعترف به احد تقريبا، سوى هؤلاء الذين يعتبرون مرآة لإسرائيل .

وعلى ذلك فإنه من المهم والضروري التركيز على تعارض قرارات الكنيست الإسرائيلي، سواء في ضم القدس الشرقية أو في قانون التسوية، مع القانون الدولي ومقررات الامم المتحدة ومتطلبات الحل النهائي . صحيح ان إسرائيل - كدولة مارقة - يمكنها ان تضرب بذلك كله عرض الحائط، وان تخرج لسانها إلى الأمم المتحدة، كما يقال، ولكن الصحيح أن الرهان هو على التمسك بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في ارضه وفي دولته المستقلة، والمساندة العربية والدولية لذلك، والعمل على السير نحو تغيير اكبر في الرأي العام الدولي، بما يؤيد الحقوق الفلسطينية ويقف ضد ممارسات إسرائيل، ولو كان ذلك لإنقاذها من نفسها ومن مخاطر استهتارها بالقانون الدولي .

•ثالثا: إنه إذا كانت حكومة نتانياهو قد أرادت، بالقرار الصادر عن الكنيست، إيهام العالم بأنها تنفذ إرادة البرلمان الإسرائيلي، وهي تعلم جيدا، انه قرار فاقد للشرعية، خاصة وان العالم لا يمكنه أن يتبنى الطروحات والمنطلقات الإسرائيلية لتسويغ اغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلة، فان قرار التسوية، هو بمثابة المسمار الأخير في نعش حل الدولتين. ليس فقط لآن وزراء حكومة نتانياهو، بحكم توجهاتهم السياسية والايديولوجية، يؤمنون بالاستيطان ويشجعون عملية توسيعه في عموم الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبمبررات توراتية يحتجون بها، ولكن ايضا لان هناك الآن في إسرائيل صرعة، حكومية وحزبية يمينية متطرفة، للتوسع بأقصى سرعة ممكنة في عمليات الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والاستفادة، إلى أقصى مدى ممكن، من وجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في منصبه، خاصة وان ترامب لا يرى أن المشكلة في المستوطنات. ثم فإن هوس الاستيطان الراهن سيؤدي عمليا إلى انتهاء الفرصة العملية لحل الدولتين، لأن عمليات الاستيطان ستتكاثر في المناطق المفتاحية والمهمة في الضفة الغربية، وبشكل يفتت تماسك واتصال الأراضي الفلسطينية، ثم تجويلها إلى معازل متفرقة ومتناثرة تتخللها المستوطنات الكبيرة والصغيرة، لحرمان الفلسطينيين من حقهم الأصيل في الاستقلال، وفي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

ومع ان إسرائيل قد تنجح، على المدى القصير، في تحقيق ذلك، إلا أن ذلك هو بعينه اقصر وصفة لهدم إسرائيل من الداخل، ليس فقط لان إسرائيل لن تتمكن على المدى المتوسط والبعيد من الاستمرار في السيطرة على الشعب الفلسطيني، ولكن أيضا لأن الفلسطينيين لن يستمروا في حالتهم الراهنة من الانقسام والخلاف بين قواهم الأساسية، فهل يتمكن أصدقاء إسرائيل من إنقاذها من حماقاتها؟ وإتاحة الفرصة المناسبة لحل الدولتين لصالح إسرائيل والفلسطينيين والمنطقة والعالم أيضا ؟