الملف السياسي

خداع إسرائيلي استراتيجي

27 فبراير 2017
27 فبراير 2017

أ.د. حسني نصر -

بقليل من التحفظ يمكن القول إن يوم السادس من فبراير من هذا العام قد يشكل منعرجا مهما في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، ويلقي - كغيره من أيام هذا الصراع- بظلاله القاتمة على آمال الوصول إلى تسوية عادلة لهذا الصراع تقوم على حل الدولتين.

في هذا اليوم مرر الكنيست الإسرائيلي قانون التسوية او ما عرف بقانون تبييض المستوطنات، الذي قنن وضع المستوطنات الإسرائيلية العشوائية في الضفة الغربية بأثر رجعي، وأضفى عليها شرعية بالنص على منع المحاكم الإسرائيلية من اتخاذ أي قرارات بشأن تفكيك هذه المستوطنات وإزالتها.

وحتى تتضح الصورة أكثر من المهم أن نشير إلى أن قرار الكنيست الذي أثار عاصفة دولية وعربية وفلسطينية من الإدانات اللفظية، التي ما لبثت أن خفت حدتها في الأيام الأخيرة، يتعلق بالوحدات السكنية والمنازل المتحركة العشوائية التي قام مستوطنون ببنائها على أطراف مستوطنات أخرى على أراض مملوكة للفلسطينيين دون الحصول على موافقة الحكومة الإسرائيلية، ولا علاقة له باستمرار النهم الاستيطاني المنظم الذي يحكم ممارسات حكومة نتانياهو وكل الحكومات الإسرائيلية من قبل ومن بعد اتفاقيات أوسلو.

ورغم بيانات التنديد والإدانة والتحذير التي صدرت عن السلطة الفلسطينية وعدد من العواصم العربية والعالمية ذات الثقل مثل القاهرة وعمان ودمشق وباريس وبرلين وغيرها، فإن القراءة العربية والفلسطينية الأمينة والفاعلة لقرار الكنيست الإسرائيلي الأخير يجب أن تأخذ في الاعتبار حقيقتين مهمتين أخفاهما الهلع الوقتي المتوقع من القرار.

أولى هذه الحقائق أن هذا القرار ليس إلا مناورة إسرائيلية لتشتيت الانتباه العربي والعالمي عن جريمة الاستيطان الكبرى التي تتم بمباركة وموافقة الحكومة الإسرائيلية التي تزعم أنها تريد السلام. فالحديث عن الاستيطان غير الشرعي وإثارة الضجة حوله في هذا التوقيت ما هو إلا محاولة لصرف أنظار العالم عن نوع آخر مقابل من الاستيطان تريد إسرائيل أن ترسخه في أذهان العالم وهو الاستيطان الشرعي. وفي تقديري أن الإدانة الدولية التي صدرت مؤخرا عن مجلس الأمن الدولي كانت في جوهرها موجهة لهذا النوع الأخطر من الاستيطان المقنن. فالتشريع الجديد يلغي الحكم الذي كانت أصدرته المحكمة الإسرائيلية العليا في العام 1979 ويحظر بناء مستوطنات على أراض مملوكة لفلسطينيين، فيما يسمح باستمرار الاستيطان في الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في حرب يونيو 1967. في ضوء ذلك يمكن فهم قرار الكنيست باعتباره نوعا من الخداع الاستراتيجي للعالم والعرب والفلسطينيين، لقبول الحد الأدنى وهو الرضا بالاستيطان الشرعي الذي تديره الحكومة الإسرائيلية بنفسها. يعلم الكنيست جيدا مثلما تعلم حكومة نتنياهو أن قرار تبييض المستوطنات غير الشرعية لن يصمد طويلا، وقد يتم إسقاطه في المحكمة الإسرائيلية العليا، خاصة وأنه في اليوم التالي لتمريره قدمت منظمات حقوقية عديدة في إسرائيل طلبات إلى المحكمة العليا لإلغائه، وأعلن النائب العام الإسرائيلي أن القانون غير دستوري، وأنه لن يدافع عنه أمام المحكمة الإسرائيلية في حال تقديم التماس لإلغائه.

إن مقارنة سريعة بين حجم الاستيطان العشوائي الذي يتعلق به قرار الكنيست، وبين نظيره المنظم الذي تضطلع به الحكومة الإسرائيلية تكشف لنا حقيقة الأهداف الإسرائيلية الكامنة من وراء إثارة أمر تعلم جيدا أنه سيعرضها لانتقادات دولية واسعة لفترة قصيرة، ثم يلغيه القضاء الإسرائيلي (العادل)، ولكن العائد منه سيكون كبيرا سواء على مستوى سمعة إسرائيل «الديمقراطية والعادلة»، أو على مستوى القبول الدولي بالاستيطان المنظم مقابل التضحية بالاستيطان العشوائي. تقول الأرقام إن القانون الجديد يتعلق فقط بتقنين أوضاع نحو 2000 إلى 4000 وحدة سكنية في 16مستوطنة كانت قد أقيمت بشكل غير شرعي على أراض مملوكة لفلسطينيين. في المقابل تواصل إسرائيل بناء المستوطنات «الشرعية» من وجهة نظرها بالطبع . ومنذ أسابيع قليلة وقبل أيام من زيارة نتانياهو الأخيرة لواشنطن، أعلنت الحكومة الإسرائيلية خطة توسيع ضخمة للمستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، في تحد واضح للضغوط الدولية. وقد شملت هذه الخطة بناء نحو ستة الآف وحدة سكنية، منها 566 وحدة اعتمدها مجلس مدينة القدس في القدس الشرقية المحتلة، بالإضافة إلى 2500 وحدة جديدة ضمن حزام المستوطنات التي تعتزم إسرائيل عدم التخلي عنها تحت أي اتفاق مستقبلي مع الفلسطينيين.

وتقول دراسة نشرها مركز أبحاث الأراضي، التابع لجمعية الدراسات العربية في نوفمبر 2014 أن عدد المستوطنات الإسرائيلية في أراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بلغ 205 مستوطنات ، بالإضافة إلى 257 بؤرة استيطانية جديدة، تلتهم حوالي 200.000 دونم من الأراضي الفلسطينية، وتضم حوالي 750 ألف مستوطن يهودي. وإجمالا فإن مجموع مساحات الأراضي الضائعة من الفلسطينيين بسبب الاستيطان وحماية المستوطنات وطرقها والجدار العازل يصل إلى 1864 كيلو مترا مربعا، تشكل ما نسبته 33 % من مجموع مساحة الضفة الغربية. وتقلصت مساحة الأراضي التي يعيش عليها الفلسطينيون إلى حوالي 36.1 % من مساحة الضفة الغربية، و8% فقط من مساحة فلسطين التاريخية، فيما تبلغ مساحة الأراضي التي تخضع للسيادة التامة الإسرائيلية نحو 63.9% من مجموع مساحة الضفة الغربية. هكذا إذن تريد إسرائيل أن تشغل العالم بالحديث عن أربعة الآف وحدة استيطانية أقيمت بشكل غير قانوني حتى ينسي أمر الاستيلاء على ثلثي أراضي الضفة تقريبا. وهنا فإن من الضروري ألا تقتصر بيانات الإدانة العربية والدولية على القرار الأخير، وأن تشمل كل أشكال الاستيطان التي تمت وتتم على الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب يونيو، باعتبار أنها كلها أنشطة استيطانية غير شرعية.

الحقيقة الثانية تتعلق بتأثير قرار الكنيست على حل الدولتين، وهو التأثير الذي تم تضخيمه عن عمد سواء في بيانات العواصم العربية او حتى في البيانات التي صدرت عن أحزاب ومنظمات إسرائيلية تعارض حكومة نتنياهو. والواقع أن هذا التضخيم المقصود يصب في صالح إسرائيل في المقام الأول، خاصة إذا علمنا أنها تتخذ من هذا الحل ذريعة لاستمرار الأوضاع على ما هي عليه، بل وتعول عليه كثيرا في معركة كسب العقول والقلوب وكسب الرأي العام العالمي وصرف الأنظار عن حلول أخرى ممكنة. وهنا علينا أن نعترف أن حل الدولتين في ظل الواقع العربي والعالمي والإسرائيلي الحالي لم يعد حلا، ولولا أن إسرائيل تريد فقط أن تواصل استثماره واستخدامه ستارا يجنبها مشقة البحث عن حلول أخرى قد تكون مؤلمة لها، لكانت أسقطته منذ فترة طويلة. والمؤكد أن حل الدولتين لم يعد حلا يرضي إسرائيل، أو بالأصح لم يكن بالنسبة لها، منذ إقراره في اتفاقيات أوسلو منذ ربع قرن، حلا قابلا للتنفيذ، خاصة وأن الضغوط والظروف التي كانت قائمة وقت طرحه لم تعد قائمة. على هذا الأساس، فإن علينا في هذه المرحلة أن نصحو من حالة الخدر التي أصابتنا بهذا الحل الخرافي، وألا نعول كثيرا عليه، وأن نبدأ البحث عن خيارات أخرى بديلة، لأن إسرائيل ببساطة شديدة لا تريد هذا الحل، ولا تريد في نفس الوقت أن تعلن إسقاطه حتى يبقى لأطول فترة ممكنة ذريعة للتسويف والمماطلة. وليس من المستبعد أن يكون قرار الكنيست الأخير جزءا من مناورة إسرائيلية جديدة لإحياء الحديث عن هذا الحل ودفع العالم إلى التذكير به والإصرار عليه كحل وحيد لا بديل له، طمعا في كسب مزيد من الوقت، الذي اعتدنا أن يعمل لصالحها في كل الأحوال.