شرفات

وحيد الدين خان .. مفكر برؤية علمية منهجية «5» الماركسية التي رفضها التاريخ

27 فبراير 2017
27 فبراير 2017

عبد الله العليان -

لا شك أن النظرية الماركسية جاءت كنتيجة لما جرى في الغرب من تطورات كبيرة وبروز المجتمع الصناعي وتحدياته في المجتمع الغربي، بعد ظهور الرأسمالية المتوحشة،وجاء كارل ماركس بنظريته القائمة على جدلية الصراع،وفق ما استقاه كارل ماركس من فريدريك هيجل من الجدلية المادة للتاريخ، أو ما يراه الماركسيون، «إن البناء الفوقي للمجتمع هو ناتج عن البناء التحتي»،وان تغير وسائل الإنتاج معبراً لتغير المجتمع، ويرافقها ما سميّ بصراع الطبقات كضرورة لتغييره من واقعه، إلى واقع جديد،وهي مرحلة جنة الشيوعية التي تصبح البروليتاريا هي التي ستحرر المجتمع من الاستغلال، لكن هذه النظرية أصابها الكثير من الأخطاء والسلبيات بعد تطبيق النظام الاشتراكي، بل أن أخطر مقاتل النظرية الماركسية- كما يقول المفكر المعروف أنور الجندي- «هي إقحام الضرورة والحتمية على حركة التاريخ، ومن الحق أن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والدينية والعادات والتقاليد لها أثرها في سير التاريخ والحياة البشرية ولكن الحتمية التاريخية التي قالها كارل ماركس هي فرضية زائفة، ومخالف للمنهج العلمي، الذي يقول بالترجيح والاحتمال، والقوانين البشرية كلها قوانين احتمالية وترجيحات لا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية أو الإطلاق».

وكان المفكر المسلم/‏ وحيد الدين خان قد تنبأ بسقوط النظرية الماركسية قبل 30 عاماً من انهيار الدول الاشتراكية، ففي كتابه(سقوط الماركسية)،الذي صدر في منتصف الستينات من القرن الماضي:أن الخطأ الذي ارتكبه ماركس هو من هذا النوع. لقد افترض ماركس أن الإنسان وبقية أجزاء الكون المادية أجزاء مجموعة واحدة؛ فالإنسان والكون عنده يخضعان لقانون مادي واحد، مثلما تتبع التربة والماء قانوناً واحداً. ومن هنا انطلق ماركس إلى الإدعاء بأن القانون، الذي يُحدث التغيير في الكون المادي، هو ذاته الذي يحدث التغيير في المجتمع البشري.

وهذا هو الخطأ الفكري الأساسي، الذي سقطت فيه الفكرة الماركسية، ذلك الخطأ، كما يقول وحيد الدين، الذي أدى إلى بطلان كل البنيان الفكري، الذي أنشأته هذه الفكرة، لقد نظر ماركس إلى الإنسان نظرة مادية صرفة، وأنشأ علاقة بين الإنسان والكون على غرار العلاقة، التي تربط قوانين التربة والماء الطبيعية.لقد ظن ماركس أن الإنسان عميل لا خيار له في الخضوع للقوانين الكونية الطبيعية... بينما الحقيقة هي أن خاصة الكون في انعدام الخيار، لا تنسحب على الإنسان، بل على العكس من هذا، فالكون هو المجال الرحب للخيار والحرية اللذين يتمتع بهما ابن آدم.ولم يلبث ماركس أن أدرك أن الاشتراكيين لا يملكون شيئاً، سوى الإغراء الأخلاقي، وأن الإغراء الأخلاقي وحده ليس بكاف لإقامة مجتمع أفضل.ولذلك أطلق ماركس على هذه الفكرة وصف ((الاشتراكية الخيالية)) Socialism Utopian أما هو فاهتدى إلى فكرة جديدة طرحها باسم الاشتراكية ((العلمية))، التي تعرف هذه الأيام بـ ((الشيوعية)).وكان المنادون بالاشتراكية الخيالية، كما يرى وحيد الدين خان، يقولون بأن الأنشطة الاقتصادية الأساسية في أيدي الدولة، أو تحت سيطرتها، لكي تنظم الدولة هذه الأنشطة بمراعاة العدالة العامة. أما ماركس فقال: إن القضية الأساسية ليست هي سيطرة الدولة، أو إشرافها على الأنشطة الاقتصادية، بل هي تكمن في أن كل البشر يعيشون لأجل مصالحهم الشخصية، وأهدافهم الفردية داخل المجتمع الرأسمالي، وأنه لذلك لا يمكن بناء مجتمع أفضل، ما لم يُقض على هذه العقلية، التي تفضَّل مصالح الفرد على مصالح المجتمع.واكتشف ماركس بعد دراسة طويلة أن نظام التوزيع والمبادلة، الرائج في مجتمع ما، هو الذي يكوَّن طبائع الإنسان وعاداته، فقال إن الطبيعة المفضَّلة للمصالح الذاتية، الرائجة هذه الأيام، هي ناتجة عن سريان نظام التوزيع والمبادلة الرأسمالي في المجتمع، ولو أمكن إحلال نظام التوزيع والمبادلة الاشتراكي محل هذا النظام الرأسمالي، لتغيرت طبيعة الإنسان هذه.مراحل تطور المجتمع البشري: وطبقا لهذه الفكرة، قسم ماركس تطور المجتمع البشري إلى ثلاث مراحل : فهو يرى أن المجتمع البشري يصعد دوما نحو الرقي والكمال، وأنه يتجه- تلقائيا- من حالة دنيا إلى حالة عليا، ولهذه المسيرة البشرية ثلاث مراحل عند ماركس: المجتمع الرأسمالي، المجتمع الاشتراكي والمجتمع الشيوعي. ويرى ماركس أن الدوافع المعيشية، هي التي تؤدي إلى ظهور هذه المجتمعات بأنواعها المختلفة.

إن المجتمع الإنساني، كما يرى وحيد الدين، يحتاج إلى أشياء مادية كثيرة لقيامه، وبقائه وتطوره.وأعضاء المجتمع يصنعون هذه الأشياء، ويوفرونها بالتعاون والتكامل، فعضو من أعضاء هذا المجتمع يقوم بعمل أو حرفة ما، بينما يقوم عضو آخر بعمل آخر مختلف، ولكن لا يكفيه ما ينتجه هو بنفسه، بل هو يحتاج إلى أشياء أخرى كثيرة، أنتجها آخرون. وهذه الحالة تقتضي أن يبادل الإنسان جزءا من إنتاجه بأشياء من إنتاج الآخرين. وهكذا يبدأ التعامل والتبادل بين أفراد المجتمع، ذلك التعامل الذي يولد الحياة الاجتماعية، التي يطلق عليها- بالتالي- وصف « المجتمع» ويرى ماركس أن مجتمعا ما، لا يعدو أن يكون الشكل الاجتماعي لتطور التعامل بين الأفراد، ولكي يمكن معرفة رقي المجتمع ما، من وجهة نظر الفكرة الماركسية، ينبغي النظر إلى أسلوب التعامل الرائج به.

لقد حطم القادة الشيوعيون الروس – بمنتهى القسوة- النظام المعيشي، القائم على «القيمة التبادلية»، وبدأوا يكافحون بكل ما لديهم من سلطان لتشكيل المجتمع على أساس القيمة الجوهرية، لكي يبدأوا – بعد ذلك – مسيرتهم نحو المجتمع المتشكل في ظل القيمة الاستعمالية .. وبالرغم من مظالمهم- التي لا سبيل إلى وصفها- لم ينجح هؤلاء حتى في المرحلة الأولى من كفاحهم، وهو القضاء على نظام القيمة التبادلية، ناهيك أن يكونّوا مجتمعا وفق المرحلتين الثانية والثالثة.

إن روسيا الاشتراكية تزخر اليوم، كما يقول العلامة وحيد الدين، بكل الأشياء التي اعتبرها ماركس «نتيجة للمجتمع الرأسمالي»، فلا تكف السلطات عن الإعلان عن مواطنين، يرتكبون جرائم السرقة والاختلاس والتجسس والخيانة والرجعية .. ولو كان المجتمع الاشتراكي يؤدي إلى نتائج معينة، حددها ماركس، فلم نجد هذه الحالة في مجتمع، سادت عليه الاشتراكية سبعين سنة ؟!لقد اطلعت على القصة الطريفة التالية في أحد الكتب التي قرأتها ذات مرة : تقدم أحد الأعضاء الشيوعيين بمجلس الشيوخ الفرنسي إلى عضو محافظ، وأطلعه على طبعة جديدة لأعمال كارل ماركس، مطبوعة بأسلوب «البريل» الخاص للعمى، وشرح العضو الشيوعي للعضو المحافظ أن هذه الطبعة هي للعمى، لكي يقرأوا أفكار ماركس، فرد عليه العضو المحافظ قائلا: «سيدي .. إن كل أعمال ماركس هي للعمى». والحقيقة هي كما يرى وحيد الدين خان،

أن المؤمن بأفكار ماركس هو الأعمى الذي لا يميز بين الحق والباطل. ولا يسع صاحب البصر والبصيرة إلا أن يدرك لغو هذا الفكر السقيم. لقد قدم ماركس فكرة باسم «العلم»، ولكن دعواه هذه كانت مبنية على الرغبة و التمني، لا على الحقيقة. فالماركسية لا تعدو أن تكون فلسفة خيالية، لم تصمد أمام اختبار العلم والمنطق يوماً واحداً . وسرعان ما بدأت حركة لإصلاح الماركسية، ولا تزال هذه الحركة مستمرة إلى يومنا هذا، إن حركة الماركسية الإصلاحية غيرت من الماركسية الأصلية، لدرجة أن أحد الكتاب، و هو سيدني هوك، يقول عن الماركسية الجديدة : إنها « المجئ الثاني لماركس» (على غرار المجيء الثاني للسيد المسيح). ولذلك قال أحد المراقبين: إن ماركس هو بطل «البروفسوريا» (طبقة الأساتذة والمفكرين)، بدلاً من «البروليتاريا» (طبقة عامة الشعب).

إن تجربة التاريخ قد رفضت الماركسية بوضوح؛ وقد بدأ التراجع عن المثل الماركسية في كل من روسيا، والصين الاشتراكيتين، ويجري هذا العمل بدون إعلان في روسيا، بينما يتم هذا بالإعلان ـ ولو جزئياً ـ في الصين. فتتبع هاتان الدولتان ـ الآن ـ أساليب وممارسات، كانت خاصة بالرأسمالية ـ حسب منطق الاشتراكيين ـ ومن أمثلته السماح بالحرية الدينية الجزئية في روسيا؛ وإنهاء سيطرة الحزب الشيوعي على المصانع في الصين.

إن قصة الفكر الماركسي، كما يرى وحيد الدين خان، قد انتهت إلى طريق مسدود، ولا توجد ـ اليوم ـ من أهمية للشيوعية إلا من جانبين : فالشيوعية ـ من ناحية ـ تسمح لحفنة من الحكام بممارسة السلطة المطلقة على شعب بأكمله . وهي من ناحية أخرى - تسمح لحكام روسيا بهيمنة دولية، من خلال ولاء شيوعّيي العالم، باستغلال اسمَيْ ماركس ولينين .إن ولاء روسيا للماركسية لا يعدو أن يكون حيلة لتنفيذ أهدافها الاستعمارية .إن الحقيقة هي أن الاشتراكية قد فشلت نظرياً وعملياً معاً .فقد تحولت إلى جزء من التاريخ، سواء أقر اشتراكيو اليوم بهذا الواقع أم لم يقروا. إن سر القبول الذي حظيت به الماركسية في وقتها، لم يكن يكمن في صدقها الفكري، بل كان مرده إلى تطابقها لميل العصر الذي ظهرت فيه . فكان ذلك العصر هو عصر غلبة «العلم»، وكان الإنسان يريد أن يفهم كل شيء في ضوء مصطلحات «العلم». وحين نادى ماركس بـ«الاشتراكية العلمية»، اتجه إليه أناس، تطابقت طبائعهم وميل العصر إلى العلم». وكان ماركس يريد حل شر واقع، بواسطة نظام قائم على شرّ أكبر، ولكن استغلاله لمصطلحات علمية، دفع ببعض الناس إلى الاعتقاد بأنه قد اكتشف حلا«علمياً» للمشكل الاقتصادي.