أفكار وآراء

الصناعة ..العنوان الحقيقي للازدهار الاقتصادي

26 فبراير 2017
26 فبراير 2017

علاء الدين يوسف -

,, لسنا في حاجة إلى كثير من الاجتهاد للتأكيد على دور الصناعة وأهميتها في تحضر الدول والمجتمعات،وليس أدل على ذلك من أن أوروبا الحديثة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا في أعقاب الثورة الصناعية الكبرى بعد قرون ظلامية،وكذلك الأمر بالنسبة لعديد من الدول ,,

فالصناعة تصنع حدا فاصلا ما بين المجتمعات البدائية والمجتمعات المدنية، وهي بالفعل العنوان الحقيقي للازدهار الاقتصادي لأي دولة راغبة في التقدم، ويدلل خبراء الاقتصاد على ذلك بأنه كلما ابتعدت المجتمعات عن الاقتصاد « الريعي» و «الخدمي» والاقتصاد «الأحادي» الجانب بشكل عام وباتت أكثر اعتمادا على الاقتصاد «الصناعي» كلما حقق لها ذلك درجة عالية من الاستقرار ومن ثم التقدم . والواقع أن الدعوة إلى التصنيع ليست وليدة اليوم، وأحد أهم اهدافها هو إنشاء قاعدة صناعية تحقق الاعتماد على الذات وتلبية احتياجات السوق المحلية وزيادة الصادرات كذلك من الصناعات الغذائية، والصناعات الكيماوية والصناعات الصغرى أو كثيفة العمالة.. وغيرها، وتلك الحقائق واضحة وضوح الشمس لدى القيادة العمانية على اختلاف مستوياتها، فأصبح قطاع الصناعة أحد القطاعات الاقتصادية الخمسة التي تركز عليها الخطة الخمسية التاسعة، وخلال الاحتفال الأخير بيوم الصناعة العمانية تجلت الحقائق في تصريحات كبار المسؤولين عن هذا القطاع الحيوي خاصة فيما يتعلق بما يتعرض له القطاع في السلطنة وفي دول مجلس التعاون الخليجي لضغوط كبيرة جراء انخفاض أسعار النفط وعدم تعافي الأسواق العالمية بشكل عام وأسواق آسيا بشكل خاص والمنافسة الشديدة من المنتجات المستوردة وحالات الإغراق.

إلا أن العزيمة موجودة والهدف واضح لرفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي للدولة إضافة إلى توفير فرص عمل مستدامة وجاذبة للشباب والباحثين العمانيين عن عمل، خاصة من خلال التركيز في سنوات الخطة الخمسية التاسعة على قطاع البتروكيماويات، وقطاع المعادن الفلزية، وقطاع المعادن اللافلزية، وقطاع الصناعات الغذائية إضافة إلى الاستخدام الأمثل للطاقة والبحث عن بدائل لتوفير الطاقة، إضافة إلى التوسع في برامج دعم الابتكار وريادة الأعمال، التي أصبحت من أهم عوامل دعم القطاع الصناعي بالمشروعات الصغيرة أو المتناهية الصغر ، التي من شأنها ضمان تشغيل قطاعات عريضة من الشباب العماني، يساعد على ذلك وقوف الدولة إلى جانب هذا التوجه وتبنيها القوي لمبدأ وثقافة الابتكار وريادة الأعمال.

وتكتمل منظومة تطوير القطاع الصناعي العماني بالتأكيد على المواصفات العالية للمنتجات العمانية وارتفاع مستوى جودتها ، واكتمال منظومة الموانئ، وكلها عوامل ساعدت المنتجات العمانية على الدخول في أسواق جديدة. فبالإضافة إلى أسواق دول مجلس التعاون الخليجي فقد ركز عدد من المصانع العمانية خلال عام 2016 على التوسع في أسواق آسيا وأفريقيا ، وقد نجح العديد من هذه المصانع في الحصول على عقود تصدير جيدة . بما يحتم استمرار التشاور بشأن الولوج إلى الأسواق العربية والأجنبية الواعدة ، والتي يمكن التوجه إليها هذا العام 2017 مما يدعو إلى الاستمرار في استكشاف أسواق جديدة ، والتوجه نحو الابتكار لخفض التكاليف، وتقديم منتجات جديدة وبأسعار منافسة.

والواقع أن تبني مثل هذه المفاهيم من شأنه دعم التصنيع في السلطنة بشكل كبير لأسباب عديدة، فالوقوف وراء هدف واحد للصناعة قد يأتي بنتائج عكسية، وعلى سبيل المثال - ووفقا لرؤية خبراء متخصصين -لا يجب أن يكون الهدف من الصناعات مجرد توفير احتياجات السوق المحلية وتقليص الاعتماد على الواردات والاكتفاء الذاتي، وإحلال الواردات فحسب، لكن من الضروري أن يكون الهدف من عملية التصنيع عموما فتح أسواق خارجية جديدة والاحتفاظ بالسوق المحلية كسوق مضمونة ومستقرة، وذلك لأن العلاقة بين التصنيع والموارد الخارجية مهمة، ففي بعض الأوقات يكون التصنيع عبئا على التجارة الخارجية، وبالتالي يرهق ميزان المدفوعات ، والمفترض أن يكون التصنيع دعما للتجارة الخارجية وتقوية لميزاني المدفوعات والحساب الجاري وتوافر الموارد الاجنبية.

وعلى سبيل المثال فإن اليابان ومن بعدها كوريا الجنوبية استخدمتا التجارة الخارجية لعلاج مشكلة نقص الموارد والمداخيل الأجنبية عن طريق اختيار مفهوم التصنيع من أجل الصادرات وزيادتها وليس إحلالا للواردات فقط، واليابان - كما هو معروف - دولة فقيرة في الموارد الطبيعية، والصناعة لا يمكن أن تقوم فيها اعتمادا على مواردها الطبيعية المحدودة ولا بد لها من الاستيراد سواء المواد الخام أو الآلات أو غيرها من السلع اللازمة للإنتاج ، هنا اختارت اليابان منذ منتصف القرن التاسع عشر التصنيع من أجل زيادة الصادرات وليس فقط لإحلال الواردات، فقد أدركت في ذلك الوقت أنها دولة محدودة الموارد وأن بناء صناعة حديثة يتطلب موارد مالية كبيرة لاستيراد التكنولوجيا وقطع الغيار والكثير من الموارد الأولية المطلوبة للصناعة، وبات الحل في أن يصبح قطاع الصناعة قادرا على تمويل نفسه بنفسه فيما يتعلق باستيراد احتياجاته من المواد الأولية أو الوسيطة أو الآلات الرأسمالية. ومن هنا كان الاختيار الطبيعي أن تكون الصناعة أساسا للتصدير وبحيث تحقق ما يكفي لاستيراد احتياجاتها من الأسواق الأجنبية،والفائض يعود إلى الاقتصاد المحلي ، فالصناعة اليابانية قامت منذ البداية على فتح الأسواق الأجنبية إذ لم يكن لديها قطاع آخر قادر على توفير العملات الأجنبية اللازمة لتنمية هذا القطاع.

وإذا كانت الصناعة اليابانية قد قامت منذ البداية على أساس التصدير لدفع فاتورة وارداتها من المواد الأولية والوسيطة،فإنها كانت مضطرة إلى الاحتفاظ بدرجة عالية من القدرة على المنافسة العالمية وإلا فقدت أسواقها فى الخارج،ومن هنا فإن الصناعة التصديرية بطبيعتها مضطرة للاحتفاظ بدرجة عالية جدا من الكفاءة وسلاحها الوحيد هو الإنتاجية العالمية وانخفاض الأسعار ، فلا تستطيع دولة أن تحتفظ بأسواقها الخارجية إلا إذا كانت أسعارها مناسبة وسلعتها متميزة ودون ذلك فإنها تفقد هذه الأسواق لمصلحة المنافسين من الدول الأخرى .

واختيار منهج إحلال الواردات كأساس للصناعة بدلا عن التصنيع من أجل التصدير يجعل معظم الصناعات تعاني اختلالا في مصروفاتها وايراداتها، فهي تضطر إلى تحمل أعباء كثيرة لاستيراد الطاقة والعديد من المواد الأولية والسلع الوسيطة ، فضلا عن الآلات ومكوناتها من الخارج، وهكذا فإن استمرار الصناعة يتطلب توافر العملة الأجنبية بشكل كبير وفي الوقت نفسه فإن عملية التصنيع وهي تتجه الى السوق المحلية فإن إيراداتها تكون عادة بالعملة المحلية لتواجه صناعة إحلال الواردات مشكلة نقص الموارد المالية وكذلك فقد يصبح أيسر الحلول هو الانتاج بمواصفات محلية دون المواصفات العالمية للصناعة، فالسوق المحلية عموما هي إلى حد بعيد رهينة الصناعة الوطنية وهي تضطر الى قبولها بالنظر الى ارتفاع اسعار السلع المستوردة البديلة والتي تتمتع بشكل عام بمواصفات متفقة مع المواصفات الدولية وهكذا تتحول السوق الوطنية المحلية الى سوق تقبل الأصناف الأقل جودة مما يؤدي إلى مزيد من عدم الارتقاء بالإنتاج الصناعى المحلي ، ثم بقدرتها على المنافسة العالمي،فالسوق المحلية الأكثر قبولا للسلع غير المطابقة للمواصفات العالمية تؤدي بشكل غير مباشر إلى تشجيع الصناعة المحلية غير المطابقة للمواصفات العالمية ، ومن ثم انعدام قدرتها على دخول الأسواق العالمية، ولا يقتصر الامر على ذلك، بل انه يشجع على مزيد من استيراد السلع الرديئة والتي لا تجد لها مجالا في الأسواق العالمية الكبيرة. والسبيل الوحيد لمواجهة تلك المخاوف أو السلبيات هو التصنيع من أجل زيادة الصادرات، وبالتالي توفير العملات الكافية للصناعة للمحافظة على قدراتها التنافسية العالمية, والخطوة الأولى في هذا السبيل تعني الالتزام بالمواصفات العالمية للصناعة،الأمر الذي يفتح أمام هذه الصناعة الأسواق الخارجية، ولا بد من استعادة المواصفات العالمية حتى تقبل بضاعتها في هذه الأسواق .

ويتطلب ذلك توجه الصناعة إلى التصدير ، الأمر الذي لا يتحقق فقط بتحسين الأسعار في الأسواق الخارجية ، بل يتطلب ايضا ضرورة مراعاة المواصفات العالمية للمنتجات، والصناعة الناجحة تتطلب مواكبة التقدم التكنولوجى والقدرة على المنافسة العالمية ، أما الانكفاء على الذات فهو أقرب إلى الهروب منه إلى الحل، وقد نجحت كوريا الجنوبية وتركيا إلى حد كبير فى تحسين اقتصادهما خلال العقود الأخيرة نتيجة التزامهما جميع المواصفات الاوروبية للصناعة الوطنية بها.

وما يبعث على الارتياح في ضوء العرض السابق هو إدراك القيادات القائمة على أمر التصنيع في السلطنة لهذه الحقائق، ويتجلى ذلك في حرصها على أهمية التجويد والتزام المواصفات العالمية للمنتج العماني وزيادة الصادرات لأسواق متنوعة بما يكفل زيادة الموارد الخارجية لهذا القطاع ثم مضاعفة إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن القناعة التامة بحتمية دعم الابتكار والبحث العلمي نحو مزيد من التطوير التكنولوجي لمواكبة التطورات العصرية والصمود في وجه المنافسة الخارجية.