أفكار وآراء

الديمقراطية الدولية .. والحد من المعايير المزدوجة

25 فبراير 2017
25 فبراير 2017

علاء الدين يوسف -

,,تواجه انطونيو جوتيريس الأمين العام الجديد للأمم المتحدة مهام جسيمة على أكثر من صعيد يأتي في المقدمة منها إحياء مفهوم »الديمقراطية الدولية» وكذلك «الحد من المعايير المزدوجة» في التعامل مع قضايا العالم المتنوعة، وكلاهما شديد الارتباط حيث لا مجال للحديث عن ديمقراطية دولية إلا بالقضاء على المعايير المزدوجة ,,

فإذا كان الأمين العام للأمم المتحدة يوصف دوما بأنه «الأب» الذي يتحمل مسؤولية أكثر من سبعة مليارات إنسان على وجه الأرض بجنسيات ولغات وديانات وتوجهات مختلفة ومشاكل سياسية واقتصادية وتنموية وثقافية وإنسانية وبيئية فهذا يعني أن جوتيريس على موعد مع مواجهات مفتوحة لمساحة ضخمة من المشاكل الموروثة منذ عقود بعيدة وتحتاج إلى جهود جبارة فقط لوضعها على الطريق الصحيح، إلا أنه من وجهة نظر أخرى تبدو المهمة العاجلة أمام جوتيريس والأمم المتحدة بشكل عام متمثلة في ضرورة إقامة حالة من الديمقراطية الدولية والقضاء على المعايير المزدوجة وسياسات الكيل بمكيالين أو الحد منها على أقل تقدير، وتحقيق ها الإنجاز كفيل في حد ذاته بتسوية كثير من الأزمات ونزع فتيل أخرى حتى قبل تفجرها. وقد تكون الأمم المتحدة الحلبة الأكبر في هذا العالم لممارسة الشكل الديمقراطي ولكنها بالتأكيد أيضا تعكس حقيقة غياب العدالة الدولية.

وهي الساحة الكبرى للديمقراطية لأن العالم كله ممثل فيها وتستطيع كل دولة من خلال أروقتها أن تعلن مواقفها وتعبر عما تريد بالطريقة التي تروق لها، بالتأكيد وفقا للقواعد التنظيمية والإطارية التي تحكم عمل المنظمة، ومن هذه الحقيقة فإنها تعد بالفعل التجمع الأضخم من نوعه على الصعيد العالمي،أما لماذا تعد دليلا على غياب العدالة الدولية فذلك يعود إلى سبب بسيط جدا واكب إنشاء الأمم المتحدة ذاتها في منتصف أربعينات القرن الماضي وتحديد مهام كل قطاع من مؤسساتها الرئيسية، فقد وضعت القوى العالمية الكبرى - وخاصة الدول الغربية - أسس نزع العدالة منها ووجهت أعمالها بما يحفظ مصالحها قبل أي شيء آخر، وليس أدل على ذلك من أن هذه المنظمة الضخمة لا تستطيع غالبا أن تفرض واقعا سياسيا عادلا في خدمة السلم والأمن الدوليين، وقد بني هذا الاستنتاج بشكل أساسي على استقراء آليات عمل المنظمة وطبيعة دورها ومهامها من المنظور التاريخي، فالمجال الأساسي لنجاح عملها - وبشكل نسبي أيضا - يتمثل في القضايا الدولية العابرة للحدود التي تحمي السلم الدولي والأمن الإنساني بشكل جماعي وأيضا تحافظ على بقاء البشرية وكوكب الأرض وهي في مجموعها قضايا تتسم بالشمول ويمكن وصفها بالقضايا النوعية وتحتاج إلى إرادة جماعية دولية تصون مصالح الأغنياء والفقراء معا والدول المتقدمة والنامية على حد سواء.

ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر قضايا المناخ والبيئة والانبعاثات الضارة والغذاء وحقوق الإنسان والأهداف الدولية للألفية وحماية المدنيين في مناطق الحروب والأقليات وصولا إلى معاهدات نزع السلاح وحظر الانتشار النووي والحد من إجراء التجارب النووية، وحتى تلك الأخيرة ورغم أهميتها للبشرية إلا أنها لا تحمل صفة الإلزام إلا للدول الموقعة عليها وهنا تظهر مجددا علة المنظمة الأساسية وهي عدم وجود صفة الإلزام في تنفيذ قراراتها، ولكنها على أية حال حققت بعض النجاح في مثل هذه القضايا الدولية الشاملة والعابرة للحدود، ولكنها تقف عاجزة أمام كثير من القضايا التي تكون سيادة الدول عنصرا فاعلا في حلها أو تسويتها، فيظهر دور الأمم المتحدة بشكل واضح عندما تتنازل الدول عن جزء من سيادتها لمصلحة الحل الدولي بينما تبقى الحلول الدائمة لمثل تلك القضايا في أيدي أصحاب السيادة الدول والحكومات المعنية. لقد دخلت الأمم المتحدة ‬منذ فترة‮ ‬غير قصيرة ‬- في ضوء ما سبق عرضه وتقديمه - مرحلة الترهل التي تزداد أعراضها تدريجيا‮، وتبدد الأمل في معالجة بعض أمراضها بعد أن انتهت دورتها السبعون في العام الماضي ‬دون أن تقدم جديدا وأحبطت التوقعات التي سبقتها‮.‬ فقد أعيد في تلك الدورة إنتاج السيناريو الذي لا يختلف من دورة إلي أخرى على مدى العقدين الأخيرين على الأقل، إلا في بعض تفاصيله‮.‬ وتتمثل الملامح العامة لهذا السيناريو في كلام بلا عمل إلا فيما قل، وأوراق ووثائق مكدسة يطويها النسيان إلا فيما ندر، وقرارات لا يجد بعض أهمها وأكثرها انسجاما مع ميثاقها طريقا إلى واقع دولي تحكمه عوامل القوة التي صارت مكشوفة في معظم الأحيان من أي‮ ‬غطاء قانوني أو أخلاقي، والحال أنه كلما تفاقمت الأزمات ازداد انكشاف الأمم المتحدة وتجلى ضعف أداء أجهزتها كافة بدرجات متفاوتة، وتوسع نطاق الخروقات لقراراتها، وتحولت وظائفها إلى طقوس شكلية‮، وبرغم كل المعطيات والشواهد التي تدل على أن المنظمة لم تعد مجدية في حالتها الراهنة وهي عاجزة حتى عن الالتزام بميثاقها،‬ فضلا عن الفلسفة التي يقوم عليها‮ ‬والمبادئ الكبري التي يستلهمها، يظل ضروريا السعي إلى تحقيق أي قدر من الإصلاح فيها،‬مادام استمرارها مفروغا منه حتي حدوث تغيرات كبري في العالم‮ ‬تنهي هذه المرحلة‮.‬ وفي هذا الخضم بحثا عن ديمقراطية سياسية للنظام الدولي، كذلك لم يعد أمام دول العالم سوى الاتجاه بقوة نحو التنمية المستدامة التي تشمل جميع نواحي الحياة لتطوير الأرض والمدن والمجتمعات وأيضا الأعمال التجارية من خلال تلبية احتياجات الحاضر بدون المساس بمقدرات الأجيال القادمة علي تلبية حاجاتها وإقامة الأسواق وفتح أبواب العمل ودمج المهمشين داخل المجتمع وهو خيار وحيد وضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها، ولتحقيق هذه الأهداف شاركت حوالي أكثر من 150 دولة في القمة العالمية للتنمية المستدامة التي عقدت في الجمعية العامة العام الماضي وتبنت خطة طموحة للتنمية المستدامة على مدى السنوات الـ 15 المقبلة والتي ستتكلف مليارات الدولارات سنويا لتحقيق 169 هدفا وتم التركيز على سبع عشرة نقطة، تتمثل أهمها في القضاء نهائياً على الفقر والجوع ورعاية صحية أفضل والتعليم العالي، والمساواة بين الجنسين في جميع أنحاء العالم ومعالجة آثار تغير المناخ والحد من عدم المساواة بحلول عام 2030، لكن هذه الأهداف هي أكبر المشاكل التي تواجه هذا الكوكب ولذلك تصطدم بتحديات جمه يعرفها الجميع تتركز في خطورة التدهور البيئي الذي يجب التغلب عليه مع عدم التخلي عن حاجات التنمية الاقتصادية وكذلك المساواة والعدل الاجتماعي المفقود في العديد من الدول العالمية فضلا عن زيادة التناحر والحروب الذي يتنافى تماما مع تحقيق التنمية .

وتعد مشكلة الفقر من أخطر المشكلات التي تواجه العالم وبرغم الإعلان خلال التقرير الختامي « أهداف تنمية الألفية» - خلال القمة العالمية - أن عدد سكان الأرض الذين يعيشون بمستوى دخل لا يتجاوز 1.25 دولار يوميا انخفض من 1.9 مليار في عام 1990 إلى 836 مليونا في عام 2015، لكن لم يأخذ هذا التقرير في الحسبان معدلات التضخم الذي ارتفع بشكل كبير مما أدخل فئات أخرى أكثر دخلا ضمن الفقراء مع تراجع القيمة الشرائية للعملات لكن ربما شكل النجاح في قطاعات أخري كالصحة والتعليم حيث تم إنقاذ أكثر من 6 ملايين شخص من المصابين بالملاريا وتخفيض مستوى الوفيات الناجمة عن مرض السل بمقدار 45% وتوفير التعليم لـ43 مليون طفل لكن هناك صعوبة تواجه السيطرة علي الفقر الذي يعد القضية الأهم لذلك يسعى البنك الدولي لتقليص معدل الفقر في العالم بحيث لا يتجاوز 3 % بحلول عام 2030 ويتوقف اتفاق قمة العالم الأخيرة للقضاء على الفقر خلال 15 عاما توفير ما بين 3.5 تريليون و5 تريليونات دولار أمريكي التي تم الاتفاق على إتاحتها خلال الفترة المقبلة وهو تحدي يواجه هذا الاتفاق لأنه يتطلب الاعتماد على الموارد الداخلية للدول بجانب المنح والموارد الخارجية . وتمثل الحقائق الأخيرة أيضا محورا مهما من محاور التحدي التي ستواجه جوتيريس، فتحقيق العدالة الاقتصادية لا يقل أهمية بأي شكل من الأشكال عن تحقيق العدالة العالمية والديمقراطية الدولية، بل إنها قد تكون مفتاحا حاسما لفتح أبواب الحل لكثير من المشاكل العالمية كالفقر والإرهاب والهجرة غير الشرعية واللجوء القسري والنزوح القهري، وهي بلا شك تحديات ستستنزف الكثير من جهود جوتيريس والمنظمة الدولية.