929680
929680
إشراقات

«العلم» .. يعين على استحضار القلب ويصل بصاحبه إلى الحقيقة

23 فبراير 2017
23 فبراير 2017

«هدايات الرحمن .. وقفات مع آيات القرآن» -

الإيمان باليوم الآخر .. يقود الإنسان إلى المسارعة للخيرات -

توقف الشيخ إسماعيل بن ناصر العوفي في هذه الحلقة من دروسه التفسيرية «هدايات الرحمن.. وقفات مع آيات القرآن» عند البسملة «ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فقال: لا بد من الوقوف مع هذه الآية الكريمة «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وقوفا يعين التالي على استحضار قلبه لـمــا بعد هذه العبارة الشريفة من الآيات الكريمة، وإن استمرت الوقفة زمنا طويلا؛ فالقلوب تختلف، والأوقات التي يحتاج إليها تتباين بين إنسان وآخر، وقد يكون طول الوقوف يتفاوت بتفاوت المقامات في درجة الإيمان، فمن كان أعلى مقاما كان أطول وقوفًا، فالكون كله عنده تفسير للقرآن، وقد قيل: خرج رجل من المسجد بعد صلاة العشاء، فجاء إلى مفرق طريق، فوقف عند المفرق إلى أذان الفجر بين ذكر الجنة وذكر النار؛ فالـمفرق ذكره بقول الله: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» الشورى.

وأشار إلى أن من أعظم الأمور المعينة على استحضار القلب العلم، فقد يكون علم الإنسان سببا لطلوع شمس الإيمان على قلبه، وقد ذكر لنا القرآن الكريم خبر سحرة فرعون مرات في القرآن، فسحرة فرعون كانوا عالــمين بالسحر ووسائله، ويعلمون أنه باطل، وكانوا قبل الدخول فيما دخلوا فيه مع موسى في غاية الغرور «وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ» الشعراء، وقد علموا يقينا أن ما عند موسى ليس سحرا، وإنما هو شيء آخر، وأن العصا انقلبت حية حقيقية، وليس تخييلا، فما كان منهم إلا أن «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى» طه، ورأوا أن ما وعدهم به فرعون من المال والمكانة ليس شيئا أمام وعد الله بحصولهم على مغفرة الله التي تقود إلى الجنة: «إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى».

وأوضح أن القرآن الكريم يدل على وجود ترابط عظيم بين النظر في الآيات المبثوثة في الأنفس وفي الكون الواسع وبين تلاوة القرآن الكريم تلاوة تقود إلى عقل معانيه وإدراك أسراره عقلاً يقود إلى استشعار عظمة منزل القرآن، ومن عظم منزل القرآن عظم القرآن، فكان القرآن روحه التي لا حياة إلا بها، فالنظر في الآيات في الأنفس والكون مقدمة للقرآن وباب للدخول إليه، ولا يمكن الدخول من غيره، يقول الحق -جل جلاله- مبينا هذه الحقيقة: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ» فاطر.

وأضاف قائلاً: ذكر الله في سورة الروم جملة من آياته العظام التي بثها في الكون في منهاج عجيب، ونظام دقيق، يوصل الإنسان إلى حالة الإيمان الحقيقي بالدار الآخرة، وأن الله له ملك السماوات والأرض، ولا يكون ذلك إلا لمن أعمل عقله إعمالا كاملا، فالنظر في أصل الإنسان من أنه من تراب، وأن الله خلق للإنسان من نفسه زوجا، (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً» يقود إلى التفكر، فيكون عند الإنسان عقل يعمل، ويبدأ بالحركة بعد أن كان جامدًا «وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) الروم، والنظر في خلق السماوات والأرض واختلاف ألسن الناس وألوانهم يقود إلى العلم، والعلم يكون بعد التفكر، وطريق يصل بالإنسان إلى بر الحق، فيكون متهيئًا لسماع الحق: «وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، والنظر في وقوع النوم للناس بالليل والنهار، وفي طلب الأرزاق وحصولها وفق نسق عجيب يقود إلى السماع؛ لأن النظر في هاتين الحالتين يشعر الإنسان أنه عاجز، وأنه يحتاج إلى السماع من مصدر آخر لعله يغطي شيئا من عجزه، فيدرك شيئًا من دقائق هذه الظواهر العجيبة التي تمر على الناس مرورًا، والسماع درجة فوق العلم، فمن استشعر قيمة العلم عرف مقدار السماع، ولذلك يدرك أن في السماع آيات وآيات «وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ».

وقال: إن النظر في حصول البرق ونزول الماء من السماء، فتحيا به الأرض بعد موتها يقود الإنسان إلى حصول عقل يدرك عظمة الله وجلاله؛ فيقوده ذلك إلى الإيمان بالغيب، لإدراكه أن الله على كل شيء قدير، وهنا يصل العقل إلى المرحلة التي يراد أن يصل إليها، وخلقه الله من أجل الوصول إليها (وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، فمن وصل إلى درجة من يستحضر الدار الآخرة في كل وقت وكل حين، ويعتقد اعتقادا حقيقيا أن الله له ملك السماوات والأرض، فلا يتوجه إلا إلى الله ولا يستعين إلا بالله فقد وصل إلى درجة (العقل).

ومن أعظم الإيمان بالغيب الإيمان بالدار الآخرة، وبذلك يكون الإسلام العظيم صورة حية في حركات الإنسان وسكناته، ويتكون المسلم الحق الذي يراقب نواياه وأقواله وأفعاله، فما أعظمه من منهاج «وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الروم.

وأردف قائلا: إن الآيات من سورة الروم التي ذكر الله فيها بعض آياته ترشد إلى أن تكوين عقل يدرك الحقائق، وينتفع بالآيات، ولا يقف عنده طلب العلم والاستزادة منه عند حد يمر بأربع عمليات لا بد أن تكون متوالية، فأول تلك العمليات (التفكر)، وهي عملية قائمة على النظر في أصل الإنسان، والنظر في سر استمرار النوع البشري، وثاني تلك العمليات (العلم)، وهي عملية قائمة على النظر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسن والألوان، وفي هذه العملية يدرك الإنسان قيمة العلم، فتقوده هذه العملية إلى العملية الثالثة، وهي (السماع)، التي تقوم على النظر في آيات هي عند الناس من الأشياء التي يرونها شيئا عاديا، كالمنام بالليل والنهار، والسعي في طلب الرزق وحصوله، فتمر هذه الآيات على كثير من الناس من غير أن يلقوا لها بالا؛ وهنا يدرك الإنسان ضعفه، وأن ما أوتيه من العلم ليس شيئا في محيط العلم، فتحمله نفسه على السماع لمن أعطاهم الله حظا من العلم، ومن المعلوم أن السامع إلى من له حظ من العلم يؤدي إلى أخذ عقل المسموع -إن صح التعبير- بل ينتفع بكل صوت يسمعه، فكل صوت آية من آيات الله، فينتقل إلى العملية الرابعة وهي عملية (العقل) التي تقوم على النظر في دقائق الآيات، كالنظر في آية البرق وتكونه في نوع معين من السحاب الذي ينزل منه الماء؛ فتحيا به الأرض بعد موتها، وفي حياة الأرض دلالة على قدرة الله على إحياء الموتى، وهنا يصل الإنسان إلى درجة (العقل) الذي لا يتوقف عطاؤه عند حد، عقل يعمل حقيقة وفق مراد الله من خلق العقول، فيحصل التعظيم لله الذي يقود إلى الإيمان بالغيب.

وأكد العوفي أن من أعظم الغيب الذي يؤمن به الواصل إلى هذه المرحلة هو الإيمان بالدار الآخرة الذي يقود إلى المسارعة إلى الخيرات، وإدراك معنى الخلافة في الأرض، والسعي إلى عمارة الأرض من غير توقف عن العمل والإنجاز؛ لعلمه أن المقامات يوم القيامة تتفاوت بتفاوت عظمة الأعمال، وقد نبه النبي الكريم الذي «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» النجم، إلى ثمرة الوصول إلى هذه الدرجة وعلامتها، فقال: «إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، نعم فحياة الواصل إلى هذه الدرجة عطاء من غير انقطاع، وعمل من غير توقف، ويرى التعب ليس شيئا أمام ما ينتظره من عطاء الله بل سعادته في تعبده؛ فتحصل بذلك الحياة الطيبة في الدنيا، ويكون الجزاء الحسن في الآخرة، «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».وأضاف: وإذا وقفنا عند شيء من المعلومات التي تتعلق بظاهرة تحصل من الإنسان بالليل والنهار وجدنا العجب العجاب، وحصل لنا شيء من الإدراك لمعنى قول الله: (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)؛ لأنّ النظر في هذه الآيات يقود إلى معرفة الله حقيقة، وعندها يتجاوز الإنسان درجة أداء الواجب، واجتناب المحرّم إلى جعل نفسه وماله لله، وقد سأل أحد الناس زاهدًا، فقال له: ما مقدار الزّكاة؟ فقال : عندنا أو عندكم؟ فتعجّب السائل، وقال: هل يختلف مقدارها عندنا عن مقدارها عندكم؟ فقال الزاهد: أمّا عندكم فربع العشر، وأمّا عندنا فالعبد وماله لسيّده وسيّد العبد هو الله، ومن تجاوز درجة أداء الواجب واجتناب المحرّم لم يكن في قلبه إلا الله، وبذلك يرتقي المخلوق إلى درجة الإحسان (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

والظاهرة التي نقف عليها في هذا المقام هي ظاهرة المنام بالليل والنهار، هذه الظاهرة التي لا زال العلماء يجهلون أكثر الأمور المتعلقة بها، وقد كانت الأبحاث السابقة تقترح أنّ وظيفة النوم إراحة البدن، ومحاولة تخفيف التعب عنه، ويظنّون أنّ عمل الأعضاء أثناء النوم يكون شبه متوقّف، ولكنّ الدراسات اللاحقة دلّت على أنّ للمخّ نشاطًا داخليًّا شبه مستمرّ أثناء النوم، مـمّا يدلّ على أنّ النوم قد لا يكون عمله الأساس إراحة البدن كما أنّ العمل الأساس للحنجرة ليس الكلام، وهناك اقتراحات أخرى اقترحتها دراسات أخرى تدلّ على أنّ كثيرًا ممّا يتعلق بهذه الظاهرة من المجهولات، منها أنّ النوم يؤدّي إلى التوازن الهرمونيّ، وينظم الحرارة، ويحافظ على معدّل ضربات القلب. ونكتفي في هذا السياق بذكر هرمون واحد يفرز أثناء النوم، وهو (هرمون النّموّ)، وهو الهرمون المسؤول عن تكاثر خلايا الجسد وتجديدها في الطفولة، ويكون مسؤولا عن المحافظة على سلامة نموّ الأنسجة والأعضاء في جميع المراحل العمريّة، ونقصانه يتسبّب في القزامة، وزيادته تؤدّي إلى ضخامة النهايات، فيكون الرأس كبيرًا واليدان والقدمان أكبر ممّا يجب، والرؤية صعبة، وهناك آثار أخرى، «فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» الروم. وهناك ظواهر كثيرة تحدث أثناء النوم تدلّ على عجيب خلق الله، وحسب الإنسان أن يعرف أنّ عضلاته تكون مرتخية بصورة كاملة إلى حدّ الشلل الظاهريّ، ولولا ذلك لتحرّك الإنسان أثناء نومه خمسة وثلاثين مرة على الأقل، فمن الذي يستطيع ردّ الحركة للإنسان؟ لو شاء الله بقاءه في حالة الشلل والعياذ بالله، فسبحان الله العظيم، سبحان من ينقل الإنسان من حال إلى حال.