شرفات

إيتالو كالفينو: كل ما كتبته يقع بين الشعر والسرد

20 فبراير 2017
20 فبراير 2017

حوار : وليم ويفر ودميان باتيجرو -

ترجمة أحمد شافعي -

* في النهاية اخترت تورينو وانتقلت إليها. هل بدأت فورًا العمل لحساب إيناودي، دار النشر؟

سريعًا جًدا. بعد أن عرّفني بافيزي بجيليو إيناودي وجعله يعيّنني، وعملت في قسم الإعلان. كانت دار أيناودي مركز معارضة الفاشية. كانت لها خلفية تلائمني تماما، حتى وإن لم أكن مارستها بنفسي، لكنني كنت على أتم الاستعداد لأن تكون خلفية لي. يصعب على غريب أن يفهم كيف تتألف إيطاليا من عدد من المراكز المختلفة التي يختص كلٌّ منها بتقاليده المختلفة وتاريخه الثقافي. فقد كنت آتيا من منطقة ليجويرا المجاورة التي لا يكاد يكون لها تراث أدبي، ولم يكن فيها مركز أدبي. والكاتب الذي يشعر أنه ليس من ورائه تراث أدبي محلي يشعر أنه دخيل بعض الشيء. وكانت مراكز إيطاليا الأدبية الكبرى في الجزء الأول من القرن [العشرين] هي فلورنسا وروما وميلانو في المقام الأول. أما الوسط الثقافي في تورينو، لا سيما في دار إيناودي، فكان تركيزه على التاريخ والمشكلات الاجتماعية يفوق تركيزه على الأدب. ولكن كل هذه الأمور ليست مهمةً إلا في إيطاليا. في السنين التالية أصبح الوسط الدولي دائما يعني لي أكثر من المحلي.. أقصد كوني إيطاليا في سياق أدب عالمي. حتى على مستوى ذائقتي كقارئ قبل أن أكون كاتبا، كنت مهتما بالأدب في إطار عالمي.

* من الكتّاب الذين قرأتهم بأكبر قدر من المتعة، ومن أصحاب الأثر الأكبر عليك؟

من وقت لآخر، حينما أعيد قراءة كتب مراهقتي ومطلع رجولتي، يدهشني أن أعيد اكتشاف جانب من نفسي كان يبدو أنني نسيته، ولكنه بقي مع ذلك يعمل بداخلي. قبل فترة على سبيل المثال أعدت قراءة Saint Julien l’Hospitalier [القديس جولين الهوسبيتالي، ولفلوبير قصة قصيرة عنه، كما أنه موضوع إحدى قصص الديكاميرون لجيوفاني بوكاشيو، فمن يدري؟] وأتذكر كيف كان لها تأثير عظيم على كتابتي القصصية الأولى ـ برؤيتها عالم الحيوانات وكأنه لوحة قوطية. هناك كُتّاب قرأتهم في صباي، مثل ستيفنسن، وبقوا بالنسبة لي مُثُلا في الأسلوب، والخفة، والدافع السردي، والطاقة. كُتّاب قراءاتي في الطفولة مثل كيبلنج وستيفنسن، لا يزالون مُثُلا. بعدهما يأتي ستندال.

* نشأت صداقة أدبية مع بافيزي وغيره من كتاب دار إيناودي، أليس كذلك؟ كنت تعطيهم مخطوطاتك لقراءتها والتعليق عليها.

نعم، في ذلك الوقت كنت أكتب قصصًا قصيرةً وأعرضها على بافيزي ونتاليا جينزبرج التي كانت كاتبة شابة تعمل هناك هي الأخرى. أو آخذها إلى فيتورينوي في ميلانو التي لا تبعد غير ساعتي زمن عن تورينو. وكنت أنتبه لآرائهم. في لحظة معينة قال لي بافيزي نحن نعرف أنك تستطيع كتابة القصص القصيرة، غامر واكتب رواية. لا أعرف هل كانت تلك نصيحة سديدة أم لم تكن، لأنني كنت كاتب قصة قصيرة. لو كنت قلت كل ما كان عليّ أن أقوله في قالب القصة القصيرة لكنت كتبت من القصص عددًا لم أكتبه قط. وعلى أي حال نشرت روايتي الأولى ونجحت. ولسنوات طويلة ظللت أحاول أن أكتب رواية أخرى. ولكن المناخ الأدبي كان قد تحدَّد بالواقعية الجديدة، ولم يكن ذلك يلائمني. في النهاية رجعت إلى الفنتازيا واستطعت أن أكتب الفسكونت المشطور التي عبَّرت فيها عن نفسي فعلا. وأقول «رجعت» لأن تلك قد تكون طبيعتي الحقيقية. تجربتي للحرب وللتقلبات التي مرَّت بها إيطاليا في تلك السنوات هي التي أتاحت لي لفترة أن أعمل سعيدا في اتجاه آخر إلى أن «رجعت» وعثرت على نوع يخصني من الإبداع.

* هل الروائيون كذابون؟ ولو أنهم ليسوا كذلك، فأي حقيقة تلك التي يقولونها؟

الروائيون يقولون قطعة الحقيقة القابعة في قاع كل كذبة. بالنسبة للتحليل النفسي ليس مهما للغاية ما إذا كنت تقول الحقيقة أم تكذب، لأن الأكاذيب في مثل إثارة وجزالة ودلالة أي حقيقة مزعومة.

أشعر بالارتياب في الكتّاب الذين يزعمون أنهم يقولون الحقيقة كاملة عن أنفسهم، أو عن الحياة، أو عن العالم. أوثر البقاء مع الحقائق التي أجدها لدى كتّاب يقدمون أنفسهم بوصفهم أشد الكذابين تبجحا. كان هدفي من كتابة لو أن مسافرًا في ليلة شتائية، وهي رواية قائمة كلها على الفنتازيا هو العثور بتلك الطريقة على حقيقة ما كنت لأتمكن بطريقة أخرى من العثور عليها.

* هل تعتقد أن الكتّاب يكتبون ما يقدرون عليه أم ما يجب أن يكتبونه؟

الكتاب يكتبون ما يقدرون على كتابته. عملية الكتابة لا تنجح ما لم تسمح للمرء بالتعبير عن مكنون نفسه. فالكاتب يشعر بمختلف أنواع القيود ـ هناك قيود أدبية كعدد الأبيات في السونيتا أو قواعد التراجيديا الكلاسيكية، وهذه جميعًا جزء من بنية العمل التي تتحرر بداخلها شخصية الكاتب وتتمكن من التعبير عن نفسها. لكن هناك -من بعد- قيودًا اجتماعيةً كالالتزامات الدينية والأخلاقية والفلسفية والسياسية. وهذه لا يمكن فرضها مباشرة على العمل لكن لا بد من مرورها عبر مرشحات ذات الكاتب. وما لم تكن هذه جزءا من شخصية الكاتب العميقة فإنها لن تجد مكانها في العمل بدون أن تخنقه.

* قلت مرة إنك كنت تود لو تكتب قصة من قصص هنري جيمس. هل هناك آخرون تود لو أنك كتبت أعمالهم؟

ماذا أقول الآن؟ رواية «بيتر شليميل» لأدلبرت فون تشاميسو.

* هل تأثرت بجويس أو أي من الحداثيين؟

كاتبي هو كافكا وروايتي المفضلة هي أمريكا.

* يبدو أنك تشعر أنك أقرب إلى كتاب الإنجليزية ـ كونراد وجيمس، وحتى ستيفنسن- من أي أحد في تراث النثر الإيطالي. هل هذا صحيح؟

طالما شعرت بارتباط شديد بجياكومو ليوباردي. فبجانب أنه كان شاعرًا رائعًا، كان أيضا كاتب نثر استثنائيًا وصاحب أسلوب عظيم، وطرافة، وخيال، وعمق.

* تعرّضت لاختلاف الوضع الاجتماعي بين الكتاب الأمريكيين والإيطاليين، فالكتاب الإيطاليون أوثق علاقة بصناعة النشر، في حين أن الكتاب الأمريكيين في العادة مرتبطون بالمؤسسات الأكاديمية.

الجامعة، التي تشيع كمكان تجري فيه أحداث الروايات الأمريكية، شديدة الإملال (ونابوكوف هو الاستثناء العظيم الوحيد هنا)، بل هي أشد إملالا من دار النشر كمكان تجري فيه أحداث الروايات الإيطالية.

* ماذا عن عملك في إينوادي؟ هل أثَّر على نشاطك الإبداعي؟

إينوادي ناشر متخصص في التاريخ والعلم والفن وعلم الاجتماع والفلسفة والكلاسيكيات. والقص يحتل لديه المكان الأخير. العمل هناك أشبه بالعيش في عالم أبوكالبتي.

* يبدو نضالاً الإنسان في محاولته أن يتحرى الانتظام وسط العشوائية ثيمة منتشرة في أغلب أعمالك. أفكر بصفة خاصة في «لو أن مسافرا في ليلة شتائية» و «القارئ» الذي يحاول العثور على الفصل التالي في كتاب يقرؤه.

الصراع بين خيارات العالم وهوس الإنسان بمنطقة هذه الخيارات نمط شائع في ما كتبته.

* في كتابتك تتنقّل ذهابًا وإيابًا بين المزاجين الفنتازي والواقعي. هل تستمتع بالمزاجين بقدر واحد؟

حينما أكتب كتابا كله ابتكار، أشعر باشتياق إلى كتابة تتعامل مباشرة مع الحياة اليومية، ومع أنشطتي، ومع أفكاري. في تلك اللحظة تكون لدي رغبة في كتابة كتاب غير الذي أكتبه. في المقابل، وأنا أكتب شيئًا سريًا للغاية، مرتبطا بخصائص الحياة اليومية الدقيقة، يكون الاتجاه المقابل موضع شوقي. يتحول الكتاب إلى الآخر الابتكاري ذي الروابط الخفية بذاتي، وربما لهذا السبب نفسه، يكون أصدق منه.

* وماذا عن حركة كتبك في أمريكا؟

مدن لا مرئية هو الكتاب الذي يحظى بالقدر الأكبر من المعجبين في الولايات المتحدة، وهذا مدهش، فمن المؤكد أنه ليس من أسهل كتبي. فهو ليس رواية بل بالأحرى مجموعة قصائد نثرية. حقق حكايات شعبية إيطالية النجاح هو الآخر، بمجرد أن ظهرت له ترجمة كاملة، بعد خمسة وعشرين عامًا من صدوره في إيطاليا. في حين كان مدن لا مرئية أنجح بين الخبراء، والأدباء، والمثقفين، يمكننا القول إن حكايات شعبية إيطالية حقق نجاحا شعبيا. صورتي في الولايات المتحدة هي صورة كاتب الفنتازيا، كاتب الحواديت.

* هل تعتقد أن أوروبا غارقة في الثقافة البريطانية والأمريكية؟

لا. ليست لدي أي ردود أفعال شوفينية. المعرفة بالثقافات الأجنبية عنصر حيوي لأي ثقافة، ولا أعتقد أن بوسعنا أن نكتفي منها. لا بد أن تنفتح أي ثقافة على التأثيرات الأجنبية لو أنها تريد أن تحافظ على حياة قوتها الإبداعية. في الثقافة الإيطالية طالما كان المكون الثقافي المهم هو الأدب الفرنسي. ولا شك أن الأدب الأمريكي ترك أثرا عميقا عليّ. كان [إدجار آلن] بو من أوائل اهتماماتي، علمني ماذا تكون الرواية. ثم اكتشفت لاحقا أن [ناثانيل] هاوثورن كان في بعض الأحيان أعظم من بو. أحيانًا وليس دائما. ميلفيل. في النهاية، أنا تدربت في ظل تشيزاري بافيزي، أول مترجم إيطالي لملفيل. وكان من المُثُل الأدبية الأولى بالنسبة لي كتاب أمريكيون ثانويون في نهاية القرن التاسع عشر من أمثال ستيفن كرين وأمبروز بيرس. أما سنوات نشأتي الأدبية في مطلع الأربعينات فسيطر عليها في المقام الأول همنجواي وفوكنر وفيتزجيرالد. في الوقت نفسه، عرفنا هنا في إيطاليا نوعا من الافتتان بالأدب الأمريكي. حتى الكتاب شديدو الثانوية من أمثال سارويان و[إرسكاين بريستن] كولدويل، و [جيمس مالان] كين، كانوا يعدّون مثلاً أسلوبيةً. ثم كان نابوكوف الذي كنت ولا أزال من جمهوره. لا بد أن أعترف أن اهتمامي بالأدب الأمريكي مدفوع إلى حد ما بالرغبة في متابعة ما يجري في مجتمع هو بطريقة أو بأخرى صورة مسبقة لما سوف يحدث في أوروبا بعد سنوات قلائل. بهذا المعنى، يكون كتاب من أمثال صول بيلو وماري مكارثي وجور فيدال مهمين بسبب اتصالهم بالمجتمع الذي يظهر في إنتاج مقالات جيدة. وفي الوقت نفسه أنا دائم البحث عن الأصوات الأدبية الجديدة، ومن هنا اكتشافي روايات جون أبدايك في منتصف الخمسينات.

* في السنوات الحاسمة الأولى بعد الحرب، عشت في إيطاليا بصورة مستمرة. ومع ذلك، باستثناء روايتك القصيرة «الحارس» لا تعكس قصصك إلا قليلاً من الوضع السياسي الذي عاشه البلد في ذلك الوقت برغم أنك على المستوى الشخصي كنت منغمسًا في السياسة انغماسًا كبيرًا.

كان ينبغي أن تكون الحارس جزءًا من ثلاثية لم تكتمل قط بعنوان «تأريخ الخمسينات». لقد كانت سنوات تكويني هي سنوات الحرب العالمية الثانية. وفي السنوات التالية مباشرة حاولت أن أتفهم الصدمات الرهيبة التي عشتها، لا سيما صدمة الاحتلال الألماني. كانت للسياسة إذن أهمية كبيرة في حياتي بعد كبري. في الواقع، انضممت للحزب الشيوعي، برغم أن الحزب في إيطاليا كان يختلف كثيرًا عن الأحزاب الشيوعية في البلاد الأخرى. مع ذلك كنت أشعر أني مرغم على القبول بأشياء كثيرة بعيدة عني. ثم بدأ إحساسي يتزايد بتزايد صعوبة التصالح مع فكرة إقامة ديمقراطية حقيقية في إيطاليا بناء على النموذج ـ أو الوهم ـ الروسي. وتنامى التناقض إلى درجة أنني شعرت بالانفصال كلية عن العالم الشيوعي، ثم عن السياسة برمتها في النهاية. وكان ذلك من حسن حظي. ففكرة وضع الأدب في المرتبة الثانية، تاليا للسياسة، غلطة جسيمة؛ لأن السياسة نادرًا ما تحقق مُثُلها. أما الأدب في المقابل فقادر في نطاقه أن يحقق على المدى البعيد جدًا شيئًا من التأثير السياسي. ولكنني الآن بت أؤمن أن الأمور المهمة لا تتحقق إلا من خلال عمليات بالغة البطء.

* في بلد كتب فيه كل كاتب ذي شأن للسينما أو أخرج لها، يبدو أنك قاومت غواية السينما. لماذا وكيف؟

في شبابي كنت متحمسًا للسينما كثيرًا، وكنت كثير التردد على دور العرض. لكنني ظللت مشاهدا طوال الوقت. فكرة الانتقال إلى الجهة الأخرى من الشاشة لم تجذبني قط بصورة كبيرة. معرفتي بطريقة صنع الأفلام تبدِّد قدرا من الفتنة الطفولية التي توفرها لي السينما. وسر حبي للأفلام اليابانية والسويدية بالذات هو أنها تبدو لي شديدة البعد.

* هل شعرت قط بالملل؟

نعم، في طفولتي. ولكن تجب الإشارة إلى أن ملل الطفولة نوع خاص من الملل. ملل حافل بالأحلام، كأنه استحضار لمكان آخر، وواقع آخر. أما ملل الكبر فقوامه التكرار، هو الاستمرار في عمل شيء لم نعد نتوقع من ورائه أي مفاجأة. وليت لدي الآن وقتا للملل. أما ما لدي بالفعل فهو الخوف من تكرار نفسي في عملي الأدبي. وهذا هو السبب الذي يجعلني كل مرة أبحث عن تحدٍّ جديد لمواجهته. عليَّ أن أجد شيئًا أفعله ويبدو لي جديدًا، شيئًا يتجاوز قدراتي بعض الشيء.

نشرت الحلقة الأولى من ترجمتنا لهذا الحوار قبل أسبوعين، وكانت عبارة عن ثلاث مقدمات للحوار نفسه، وهذه هي الحلقة الأخيرة. أما الحوار بالإنجليزية فنشر في العدد 124 من باريس رفيو الصادر في خريف 1992، ويحمل الرقم 130 في سلسلة حوارات المجلة مع كتاب القص في العالم.