المنوعات

رؤى استشرافية للعالم في 2030

09 فبراير 2017
09 فبراير 2017

5 أسئلة تحدد شكل صورته المستقبلية -

تأليف د.إبراهيم عباس -

عرض وتحليل: إميل أمين -

عن دار كتابي للنشر والتوزيع بالقاهرة صدر هذا الكتاب القيم للكاتب الفلسطيني الأصل الدكتور إبراهيم فؤاد عباس الكاتب والباحث والناشر المعروف. يضم هذا الكتاب بين دفتيه قراءة لمجموعة من الكتب والمقالات والأبحاث التي نشرت بالإنجليزية في عديد الصحف والمجلات ومراكز الأبحاث الغربية في الأعوام القليلة الماضية حول الأحداث المهمة، وأهم المتغيرات الدولية التي وضعها المؤلف تحت عنوان «العالم في حقبة ما بعد العولمة»، بما تعكسه المرحلة الحالية في النظام الدولي الجديد من تغيرات في الخريطة الجيوسياسية في أماكن كثيرة من عالمنا المضطرب، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت المنطقة الأكثر ارتطاما بالأحداث على المستوى الدولي، والتي تمثلت بشكل خاص باندلاع الثورات وتحديدا ثورات الربيع العربي، والانقلابات، وتعدد التنظيمات الإرهابية التي انتقلت من مرحلة العمليات ذات الطابع الفردي أو الجماعي في مناطق محدودة إلى تنظيمات تمتلك جيوشا وأسلحة متطورة وتحتل أراضى شاسعة وتسيطر على مصادر للنفط في بلدان عدة، وتوسع من نطاق عملياتها الإرهابية حول العالم. هذا إلى جانب المتغيرات الاقتصادية وتطورات الملف النووي الإيراني وارتباطه بالأحداث التي تمر بها المنطقة خاصة فيما يتعلق بأمن الخليج. كما شملت التطورات ظهور قوى إقليمية ودولية جديدة، الصين والهند بشكل خاص فيما يعرف بالقوى أو الدول الصاعدة» ((emerging powers)) التي نقلت العالم من عالم أحادي القطبية إلى عالم متعدد القطبية. تناول المؤلف هذه القضايا والمشكلات من زاوية استشرافية لكتب وأبحاث ومقالات لنخبة من خبراء السياسة الدولية من خلال مقالات نشرت جميعها في صحيفة المدينة في حينه.

لماذا سيتخذ التغيير المتوقع شكل التطور لكنه لن يكون ثوريا أو جذريا؟

أين هو موقع وموضع الولايات المتحدة الأمريكية من العالم الجديد القادم؟

تنطوي أهمية الكتاب – إضافة إلى قيمته التوثيقية – قيما تضمنه من توقعات للأحداث تمكن القارئ من المقارنة بين تنبؤات الباحثين واستشرافهم للأحداث، ومدى صحة تلك التنبؤات في ضوء ما تحقق منها حتى الآن، وهو ما يتيح لنا الحكم على مدى صوابية رؤى أولئك الباحثين، وبالتالي – وهو المفترض – التركيز على ما يصدر من مؤسسات بحثية في الغرب، ووضعها تحت المجهر عند رسم سياساتنا الاستراتيجية.

يضم الكتاب أربعة فصول هي على النحو الآتي: كيف سيبدو العالم بعد نحو عقد ونصف؟ - الملف النووي الإيراني: التطورات – والتحديات والمخاوف – المتغيرات الدولية وآثارها المتوقعة – الملف الأمني وتحدي الإرهاب.

أولا – كيف سيبدو العالم بعد نحو عقد ونصف؟

اتجاهات عالمية: العالم عام 2030

هناك خمسة أسئلة تحدد شكل عالم متعدد الأقطاب عام 2030 تضمنها تقرير «اتجاهات عالمية» وهو عبارة عن تقرير يضم خلاصة مجموعة من المقالات الاستشرافية ذات الطابع الاستراتيجي والتحليلي يقوم بإعدادها نخبة من الأكاديميين وخبراء السياسة الدولية من الولايات المتحدة وخارجها ويصدر عن مجلس الاستخبارات الوطني كل 4 سنوات عقب الانتخابات الأمريكية الرئاسية مباشرة. التقرير الأخير حمل عنوان «اتجاهات عالمية 2030 – عوالم بديلة»، ويضم مجموعة من المقالات تتمحور حول الكيفية التي سيبدو فيها العالم بعد أقل من عقدين من الآن، وهو يرجح في المحصلة عالما لا تهيمن عليه قوة واحدة كما هو الوضع الآن حيث لا تزال أمريكا القوة المهيمنة، وليس كما يتوقع البعض أن الصين ستحل حينذاك محل أمريكا كقوة مهيمنة جديدة، وإنما سيكون عالما متعدد الأقطاب، وهو ما يعني أن العالم انتقل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من عالم ثنائي القطبية تتصدره قوتان عظميان: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي إلى عالم أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية تسعينات القرن الماضي مع تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، إلى عالم متعدد القطبية بدءا من عام 2030، أي أن الولايات المتحدة ستفقد مكانتها كقوة عظمى وحيدة في العالم بشكل تدريجي، فيما سينشأ واقع اقتصادي عالمي جديد تنتقل فيه الثروة من الغرب والشمال إلى الشرق والجنوب، وإن عالما كهذا سيكون أكثر عدالة وتوازنا وأقل حروبا.

العالم في طريقه للتقارب أم التباعد؟

كتب مايرون بريليانت نائب الرئيس الأول للشؤون الدولية في غرفة التجارة الأمريكية المسؤول عن توجيه استراتيجية منظمة التجارة العالمية إنه يمكن القول إن عالمنا في الجزء الأكبر من الخمسين سنة الأخيرة ظل في تركيبه، وعملياته، وأهداف مؤسساته الرئيسة مستقرا، ولكن لا يبدو الأمر كذلك الآن، فالنظام العالمي كما نراه اليوم، وكما يتمثل في منظمات مثل صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية، منظمة الصحة العالمية، منظمة التعاون والتنمية، والأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي يحتاج إلى الإصلاح والتطوير لئلا تهمش تلك المنظمات أو تنتهي، كما ينبغي أن نتوقع نشوء مؤسسات جديدة من أجل المساهمة في إعادة تشكيل المشهد العالمي بمعاييره الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية الآخذة في التبلور الآن.

الدوافع لذلك كثيرة وواضحة، فمع الازدهار الاقتصادي للصين والهند والبرازيل وروسيا وتركيا وغيرها من الاقتصادات الناشئة تكتسب هذه الدول قدرا أكبر من التأثير على الشؤون الدولية، وفي تغيير أسلوب التعامل التجاري في النظام الدولي. وتعتبر استجابة الصين وغيرها من الاقتصادات الواعدة، للأزمة الاقتصادية عام2007 شهادة على الدور المتنامي لهذه الدول، ويتضح ذلك أيضا من خلال الدور المتنامي لمجموعة العشرين g – 20 للدول المتقدمة والنامية الذي زاد في تأثيره وأهميته على دور مجموعة الثمانية g – 8 التي كانت تضم الدول المتقدمة فقط خاصة في مجال التخفيف من المخاطر المرتبطة بالأزمة المالية وفي الاستجابة العالمية الإيجابية لها.

إن التوصل إلى توافق في أي من هذه المؤسسات للعمل العالمي في مجالات متباعدة مثل التجارة والأمن يزداد صعوبة بشكل متصاعد، لا سيما مع انضمام المزيد من اللاعبين في صنع القرار، وأيضا نظرا إلى حقيقة أن الاقتصادات الناشئة غالبا ما تمتلك أجندات وأهدافا ملحة على درجة كبيرة من التباين بين بعضها البعض، مع ملاحظة أنه لم يكن من السهل أبدا التفاوض في إطار جولة تجارية تضم أطرافا متعددة عندما تتبنى الولايات المتحدة وأوروبا هذه الأجندة أو تلك، ومع ذلك نحن «أي الغرب»، نكافح الآن من أجل الدخول إلى أسواق تلك الدول، ناهيك عن الصعوبة الناشئة عن العوائق الجديدة أمام التجارة والاستثمار المترتبة على اختلاف الأنظمة والشركات التي تمتلكها الدولة في تلك الدول.

يمكن القول في ضوء ذلك إن التغيير المتوقع سيتخذ شكل التطور لكنه لن يكون ثوريا أو جذريا، وسينطوي على درجة كبيرة من الأهمية، على سبيل المثال، قد تحتفظ الولايات المتحدة وأوروبا بدورهما القيادي في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كما هو حاصل الآن، ولكن هذه المؤسسات طرأت عليها إصلاحات بطريقة أو بأخرى لكي تعكس القوة المتنامية للاقتصادات الناشئة، ولا شك أن شكل وحجم النظام الدولي يتطور اليوم، وسوف يستمر ذلك بشكل أكبر خلال السنوات المقبلة من خلال المزيد من التطوير والإصلاح ليعكس الثقل الاقتصادي المتزايد للصين والهند والبرازيل وغيرها من الاقتصادات الصاعدة.

وهناك شيء واحد مؤكد: في تقييم تأثير هذه القوى الاقتصادية الصاعدة يجب أن نكون حذرين بشأن كيفية تجميعها. وهناك الكثير من الاقتصادات الصاعدة عدا الصين والهند وروسيا والبرازيل، مثل المكسيك وإندونيسيا وفيتنام، حيث تشكل هذه الدول مجموعة متنوعة لها مصالح وتحديات مختلفة، حتى أنه من الصعب القول إنهم متوحدون في السياسات أو الإجراءات، وإذا كنا نتطلع إلى عام 2030، فإنه سيكون من الصعب رسم خط فاصل بين الدول المتقدمة والدول النامية حينذاك.

خمسة أسئلة تحدد ملامح المستقبل

السؤال الأول: هل ستساهم الاقتصاديات الصاعدة التي تقودها الصين والهند وروسيا وتركيا بقدر أكبر في المسؤوليات الدولية أم ستظل مشغولة في العقد المقبل وما بعده بالتحديات الداخلية التي تواجهها؟ ذلك أنه من المعلوم أن الكثير من تلك الدول تستهلك الكثير من الجهد في مواجهة التحديات الداخلية، ففي روسيا أعيد انتخاب بوتين زعيما قويا، ولكن البلد نفسه يواجه عقبات كبيرة على طريق تحقيق الإصلاحات القانونية وتحديث الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط، وبالمثل، تحتاج الهند إلى إصلاح اقتصادها لكنها تواجه قيودا سياسية مع عدم وجود حلول واضحة على المدى القصير أو المتوسط، أما الصين فقد حققت نجاحا اقتصاديا تضمن في أحد جوانبه إخراج 500 مليون شخص من دائرة الفقر في أقل من 20 عاما، لكن الإصلاح السياسي يتم بوتيرة بطيئة للغاية.

المطلوب من الغرب التعاون مع هذه الدول لمساعدتها على حل مشاكلها الداخلية، وبالمقابل على هذه الدول أن تكون منفتحة بشكل أكبر من الغرب، بحيث تساهم الاقتصاديات الناشئة «القوى الدولية الصاعدة الجديدة» في دور أكبر في حل المشكلات والقضايا الدولية.

السؤال الثاني: هل تعتقد هذه الدول ذات الاقتصاديات الصاعدة أنها في حاجة إلى تطوير شبكاتها المؤسساتية الخاصة بها، أو أنها ستشارك بشكل متزايد في تحمل أعباء القيادة العالمية جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إطار النظام الدولي الجاري إصلاحه؟.

من السهل القول إن العبء يقع على هذه الدول لتثبت أنها تريد أن تكون ((شريكا مسؤولا)) إزاء المؤسسات الدولية وفقا لقول بوب زوليك، ولكن هناك أيضا عبء الحاجة إلى تشجيع مشاركتهم الفعالة والمناسبة، وما يدعو إلى التفاؤل حيال هذه النقطة أن دولة كالصين تشعر أن قربها من الولايات المتحدة أكثر من قربها من الهند وروسيا، لكن ينبغي على الصين والبرازيل بصفة خاصة أن تبديا المزيد من المسؤولية تجاه القضايا والمشكلات الدولية.

السؤال الثالث: مع صعود تلك الدول على المسرح العالمي، هل ستبدي مزيدا من المرونة من خلال آليات تعزز التعاون الاستراتيجي أم ستقوم بتوظيف قوتها الناشئة لصالح أهدافها الوطنية وحسب؟ فقط رأينا الصين تعمل على توسيع مصالحها الأساسية لتشمل ادعاءات واسعة جنوب بحر الصين، فهل يمكن للتعاون الإقليمي العمل على إعادة تعريف حدود السيادة لحوالي 6 دول جارة للصين؟ وهل يمكن للهند العمل معنا ومع الآخرين لمكافحة الإرهاب في جنب آسيا بطرق تدعو إلى المزيد من التعاون فيما بين الجهات الفعالة الرئيسية في تلك المنطقة، وأيضا مع التعاون الوثيق بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي تتطلبها الحرب على الإرهاب وحيث تشكل الثقة العامل الرئيسي في هذه الحالة.

السؤال الرابع: هل ستتبنى تلك الدول اقتصاد السوق ومبدأ تكافؤ الفرص والانفتاح على التجارة الحرة أم ستنتهج خليطا من الرأسمالية والاشتراكية؟.

هذا السؤال فرض نفسه بقوة عقب الأزمة الاقتصادية والمالية في عام 2007 حيث ذهب البعض إلى القول إن النموذج الخليط، أي الرأسمالية التي تدعمها الدولة هي النموذج الأكثر ملاءمة لتحقيق النمو، ويبدو من الواضح أن هذا التوجه سيكون التوجه السائد عام 2030.

السؤال الخامس: هل ستلتزم الدول ذات الاقتصادات الناشئة بالقيود الخاصة باستهلاك الموارد العالمية من نفط وماء .. إلخ، حيث إن تقدمها المتنامي سيدفعها إلى زيادة استهلاكها من هذه الموارد؟ إن دولا كالصين ترى أن الغرب استهلك منذ الثورة الصناعية القدر الأكبر من هذه الموارد ويعتبر المسبب الأكبر للتغيرات المناخية التي تعتبر إحدى المشكلات الرئيسية في العالم اليوم نتيجة زيادة الانبعاث الحراري، فلماذا يريد الغرب فرض تلك القيود على تلك الدول الآن؟ تزداد هذه المشكلة عمقا مع شح تلك الموارد في الصين والهند بشكل خاص، حيث يؤدي زيادة الطلب عليها بسبب النمو المطرد في عجلة التصنيع إلى زيادة أسعارها، وهو ما يفسر توجه الصين نحو القارة الإفريقية للاستثمار في تلك الموارد. ويخلص بريليانت إلى القول إننا في حاجة ماسة إلى إيجاد سبل لمعالجة هذه القضايا من أجل عالم أكثر توازنا واستقرارا.

القوى الناشئة ومقومات القيادة العالمية

«العجز في القيادة العالمية» للباحث الدكتور وولتر سي لادويج، الاستاذ الزائر في معهد الخدمات العامة الملكي لدراسات الدفاع والأمن (RUSI)، وهو يدور حول تعذر استمرار الولايات المتحدة الاحتفاظ بقياتها للعالم في ظل التراجع المتزايد لقدرتها وإرادتها – المقومان الأساسيان للتوصل للقيادة العالمية – وما يمكن أن ينجم عن ذلك من تراجع للمبادرات والمنظمات الدولية والنظام العالمي ككل، وإلى جانب أن القوى الناشئة لن تتمكن هي الأخرى من الاستحواذ على القيادة العالمية بسبب العديد من الصعوبات التي تقف أمامها لبلوغ هذه الغاية.

القدرة وحدها لا تكفي

هنالك مبالغة إلى حد كبير في وسائل الإعلان الجماهيرية سواء بالنسبة لما يتردد حول التداعي الأمريكي المتزايد إلى الوراء أو صعود النظراء المنافسين، لكن وبالرغم من ذلك، فإن استياء الرأي العام الأمريكي على ما يبدو من الحروب التي استمرت عقودا طويلة، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وازدواجية المواقف في النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية هذا الاتجاه فرض تحديا كبيرا سببه الأكبر إحجام القيادة الدولية القادرة عن تفعيل هذا النظام.

وتوضح نظرية هيمنة الاستقرار أن استمرار نظام دولي معين – مثل النظام الدولي الليبرالي الاقتصادي المفتوح الموجود في الوقت الراهن – يتطلب فرض قيادة الدولة المهيمنة في هذا النظام، وغياب مثل هذه القيادة يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، على سبيل المثال، يرى تشارلز كندلبيرجر أن العجز في القيادة العالمية من قبل الاقتصاد المهيمن كان السبب الرئيس في تفشي الفوضى الاقتصادية التي وقعت بين الحربين العالميتين وتسببت فيما عرف حينذاك بالكساد العظيم، ويوضح هذا المثال الحاجة إلى مطلبين: القدرة، والإرادة.

وفي سنوات ما بين الحربين العالميتين توفرت لدي بريطانيا الإرادة، لكن لم تتوفر لها القدرة، فيما الولايات المتحدة كانت على عكس ذلك، تمتلك القدرة، لكنها كانت تفتقر إلى الإرادة كي تقود، ويرى وولتر لاويج أن النظام الدولي الراهن، والمؤسسات التي تدعمه ،مثل الأمم المتحدة، البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وحتى العولمة تعتبر إلى حد كبير نتاجا للمبادرة وللقيادة الأمريكية، ولنا أن نتساءل: ماذا سيحدث لهذا النظام إذا لم تعد الولايات المتحدة موجودة؟.

ذهب بعض الباحثين المتفائلين في الإجابة عن هذا السؤال إلى القول: «إن الأنظمة والمؤسسات بإمكانها الاستمرار في عملها في عدم وجود دولة «قائدة» تقوم بتطبيق قواعد الطريق على الخريطة الدولية».

ولكن إذا كان نهوض بقية العالم يعني عدم تمثيل توزيع القوى الفعلي فإنه لا بد أن تساورنا الشكوك في إمكانية أن تستمر تلك المؤسسات الدولية في العمل بفعالية. ويضيف لادويج إنه من المحتمل أن تتضح حالتا التفاؤل والتشاؤم فيما يتعلق بمصير النظام الدولي الحالي في ظل غياب أو عجز أو تراجع القوة المهيمنة «الولايات المتحدة» أمام الاختبار. فمما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تمتلك القدرة على قيادة العالم خاصة وهي تعمل جنبا إلى جنب حلفائها، لكنها أصبحت تفتقر إلى الإرادة على نحو متزايد. حيث أصبح عامة الأمريكيين يركزون بشكل كبير على ديون البلاد التي تزداد بشكل تصاعدي، في الوقت الذي تقل فيه الوظائف، وأيضا في الوقت الذي تقل فيه الالتزامات الدولية لواشنطن، كما أن دعم الالتزامات الأجنبية يتراجع باستمرار ويزداد معه الشك حول تأثير العولمة، وليس من المحتمل لأي من الحزبين «الديمقراطي والجمهوري» أن يفوز بالسلطة من خلال تحدي هذه المشاعر. في استعراضه للصعوبات التي تواجه القوى الناشئة في تطلعها نحو الصعود إلى دور القيادة العالمية، يلاحظ لادويج أن أوروبا ركزت خلال العقد ونصف الماضيين على الوحدة، فيما الأزمة الاقتصادية الحالية تشير إلى أن الدول الأوروبية ستكرس كل ما يتاح لها من أدوات اقتصادية وسياسية للحفاظ على الاتحاد الأوروبي حيا والإبقاء على اليورو لأطول فترة ممكنة.

إن ما يسمى بالقوى الناشئة، مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا، جميعها تواجه قيودا كبيرة على الإرادة والقدرة، بما يحول دون وصولهم إلى القيادة العالمية، والسبب يعود إلى الافتقار وإلى الاستقرار الداخلي، والعديد من القضايا التي تدور حول استدامة النمو الاقتصادي، والتركيبة السكانية غير المواتية، علاوة على أن العديد من هذه الدول لديها مصالح قد لا تنسجم مع أهدافها، وكل ذلك يشكل صعوبات وعراقيل تحول بينهم وبين إمكانية ممارستهم لدور القيادة العالمية.

ويعتقد لادويج أن «نهوض بقية العالم»، من المرجح أن يعزز هذا العجز في القيادة العالمية مع تعدد الأقطاب الفاعلة على حلبة السياسة العالمية، وبما يعني في نهاية المطاف تعذر وجود دولة واحدة تتوفر لديها القدرة الكافية لقيادة العالم عام 2030.

يستاءل لادويج في نهاية مقالة: إذا كان الأمر كذلك فأي نوع من التأثير سينجم عن هذه التقلبات؟.

في الإجابة عن هذا السؤال يقول لادويج: «إن من شأن تراجع المبادرات العالمية وتفشي النزعة الإقليمية في ذات الوقت أن يؤدي إلى الحد من فاعلية مؤسسات الحكم العالمية، وعلى سبيل المثال، فإن مفاوضات منظمة التجارة العالمية البالغة التعقيد قد تفسح الطريق لاتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية، لكن الأكثر مدعاة إلى القلق احتمال أن المشكلات العالمية التي تتطلب استجابة عالمية، مثل تغير المناخ أو انتشار الأسلحة النووية، سوف تواجه صعوبة أكبر لأنه سيتعذر التعامل معها في ظل تراجع المنظمات الدولية، ويختم لادويج بقوله: إذا كان كيندليبرجر على حق، فإنه ينبغي لنا أن نتوقع أن عجز القيادة العالمية سوف ينذر بزيادة حالة التقلب المتزايد في السياسة الدولية في المستقبل القريب».

الهند والصين و شكل العالم عام 2030

«نهوض بقية العالم من خلال قراءة علاقات أمريكا بكل من الصين والهند»، قراءة معمقة لوالتر لوهمان مدير مركز الدراسات الآسيوية في مؤسسة التراث، هذا البحث يتضمن تصورا لشكل مثلث العلاقات الأمريكية – الصينية – الهندية، أو بشكل أدق علاقات الولايات المتحدة بالصين من جهة وبالهند من جهة أخرى، ومدى تأثير تلك العلاقات على النظام العالمي الذي ستتبلور ملامحه بعد نحو عقد ونصف. يتمثل نهوض «بقية العالم»، في مظاهره الرئيسة أكثر ما يتمثل من خلال علاقة الولايات المتحدة بكل من الصين والهند، باعتبار أنه لا يوجد علاقتان أكثر أهمية بالنسبة لنجاح أمريكا في تأمين مصالحها في البيئة العالمية الناشئة وفي تشكيل نظام عالمي جديد أكثر من تلك العلاقتين. فمن المعروف أن العلاقات الرسمية للولايات المتحدة من جمهورية الصين الشعبية (PRC) هي في الأساس علاقات ضعيفة، وستبقى كذلك لفترة طويلة، فالولايات المتحدة والصين لديهما مصالح وأيديولوجيات متعارضة، ويتضح التحدي في القدرة على إدارة الصراعات بطرق تقلل من التأثير السلبي على البلدان الثلاثة وعلى البلدان الأخرى في النظام الدولي، فعلى سبيل المثال المواقف الأمريكية والصينية إزاء تايوان على طرفي نقيض، ذلك أن الصين تعتبر تايوان جزءا من أراضيها فيما الولايات المتحدة تعتقد أن الوضع السيادي في تايوان غير مستقر، وتحتفظ الصين بصلاحيتها في استخدام القوة لتسوية هذه المسألة في الوقت الذي لا تبدي فيه الولايات المتحدة التزاما واضحا إزاء الدفاع عن تايوان، وينبغي الإشارة هنا إلى أن الاتفاق الموقع بين الصين وأمريكا عام 1982 ينص بشكل صريح على أن تقلل الولايات المتحدة من صادرات الأسلحة لتايوان بشكل تدريجي، لكن واشنطن تدعي أن قانون العلاقات مع تايوان ينص على تزويدها بما يكفي من الأسلحة للحفاظ على ما يكفي من القدرة للدفاع عن النفس، يمكن أن نضيف إلى ذلك أيضا القيود التي فرضها الرئيس رونالد ريجان المعبر عنها بضمانات ريجان الست، خاصة سياسة عدم الضغط أو التوسط بين الطرفين عبر المضايق البحرية، حيث تبدي كل من واشنطن وبكين موقفا موحدا إزاء هذا الوضع القائم، دون أن يحاول أي منهما التدخل لتغييره، ما يعني أن الأمر سيظل على ما هو عليه الآن ما لم تغير تايوان موقفها، كأن تقرر الانضمام إلى الصين مثلا، لكن مشهد العلاقات بين الصين وتايوان يدفع إلى الاعتقاد بأنه ينحو منحى التحسن منذ عام 2008.

المثال الآخر يتضح في مسألة النزاع حول بحر الصين الجنوبي حيث يتلخص الموقف الصيني في امتلاك بكين للحق التاريخي والقانوني لكل الأراضي جنوبي الصين وغالبية البحر، لكن الولايات المتحدة لا يهمها ادعاء الصين ملكيتها للأرض، وإنما يهمها أكثر ادعاؤها لملكية البحر، لما يمكن أن ينتج عن هذا الادعاء من تهديد لمصالحها جنوب شرق آسيا لأنه يتعلق بحرية الملاحة في تلك المنطقة الاستراتيجية بالغة الأهمية لواشنطن.

يستطرد لوهمان بالقول إن حماية مصالح الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بالصين يعني المحافظة بقدرة عالية على نشر القوات العسكرية، ودعم التحالفات مع الدول الصديقة ودعم تلك الدول، والتأكيد على حقوقها وامتيازاتها ماديا ودبلوماسيا، وهو ما يعني الحفاظ على مجموعة من السياسات الثابتة، ويتطلب الإبقاء على خطوط اتصالات نشطة، لكن يمكن القول في النهاية إن استمرار العلاقات بين واشنطن وبكين على هذا الوضع دون أي تغير متوقع يمكن أن يطرأ على تلك العلاقات قد يكون مريحا لكل منهما، لكن يبدو من الواضح أن الصينيين يطلبون من الأمريكيين إبداء المرونة في العلاقات، في الوقت الذي يفتقرون فيه تلك المرونة.

الهند .. علاقات أكثر تجانسا

يرى لوهمان أن صعود الهند يمثل التحدي المعاكس، فأساسيات العلاقة بين الولايات المتحدة والهند هي في العموم جيدة والخلافات بينهما لا تكاد تذكر، كما أن الأيديولوجيات الحاكمة تبدو متشابهة إلى حد كبير، ويتمثل التحدي الوحيد هنا في إدارة العلاقة بينهما بطريقة تحقق أقصى قدر من الفرص المتاحة، وثمة مثالان لتوضيح التقارب في المصالح بين الولايات المتحدة والهند فأولا، وبالنسبة للصين، نجد أن المخاوف الأمريكية إزاء التحديث العسكري الصيني ونواياها في غرب المحيط الهادئ تعكس بشكل متزايد المخاوف الهندية حول قدرات ونوايا الصين في منطقة لا تبعد كثيرا عنها، كما أن تحدي الصين النشط في المنطقة الحدودية الشمالية للهند ورعاية بكين لجارة الهند اللدود باكستان يشكلان تهديدا أمنيا واضحا للهند. والواقع فإن العديدين في نيودلهي يرون أن الصين تطوقهم من الشمال من خلال جيرانهم.

ويستطرد لوهمان بالقول: إن الصين لا تسعى إلى تحقيق طموحاتها الإقليمية شرق بحارها الإقليمية وعلى طول الحدود الهندية في الوقت الراهن لكن يمكن أن يؤدي هذا الوضع غير المشتعل الآن إلى زيادة الضغط على كل من البلدين. ويبدو من الواضح أن كلا من أمريكا والهند لديهما مصالح مشتركة في كبح الطموحات الصينية. يمكن الإضافة إلى ما سبق أن علاقات أمريكا والهند مع الصين تبدو معقدة للغاية، فكلاهما لديه مصالح مشتركة، واستثمار وتجارة، كما أن المصالح في النظام الاقتصادي الدولي على المحك. ويتشابه الهنود مع الأمريكيين في حرصهما على تضييق دائرة أي خلافات بينهم من خلال آلية تقلل إلى حد كبير من إمكانية تأثير تلك الخلافات على العلاقات الثنائية بينهم وعلى الاقتصاد والنظام الدولي. هناك أيضا موضوع الإرهاب الذي يعتبر عاملا رئيسيا في التحالف القائم الآن بين أمريكا والهند وهو الذي يبدو من الواضح أنه سيعتبر أحد أركان النظام الدولي عام 2030، فقبل فترة طويلة من هجمات 11 سبتمبر كانت الهند إحدى ضحايا الحوادث المأساوية للإرهاب حيث كانت تتعرض لآلاف الحوادث الإرهاب سنويا، ومنذ 9/‏‏11، أصبحت الولايات المتحدة أكثر حساسية لمأزق الهند، وحيث أصبحت واشنطن أكثر تفهما لموقف الهند إزاء باكستان، وتبدو الهند حاليا شريكا أساسيا للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب ولديهم وجهة نظر مشتركة إلى حد كبير في أن باكستان ترعى الإرهاب، وأيضا إزاء أفغانستان في تطلعهما نحو إحلال السلام والاستقرار فيها والحيلولة دون عودة طالبان لحكمها، مع الأخذ في الاعتبار أن الهند إحدى أكبر الدول المانحة لأفغانستان.

ويخلص لوهمان في ختام مقاله إلى النتيجة أن الطريقة التي تدير بها الولايات المتحدة هذه العلاقات المتباينة والمعقدة لن تمكنها فقط من تأمين مصالحها المباشرة وإنما من شأنها أن تساعد أيضا في التأثير على صعود بقية العالم، وأنه يمكن القول باختصار إن العالم الذي تتلاقى فيه الآمال الأمريكية – الهندية ويجد فيه من الطموحات الصينية سيكون عالما أفضل، وأن تحقيق هذا الهدف يتطلب نهجين مختلفين جدا.

صعود الصين لا يعني انهيار الغرب

هل يعني صعود الآخرين سقوط الغرب؟ تقرير مهم لجيفري جيدمين رئيس معهد ليحاتوم بلندن يتحدث فيه عن نظام عالمي جديد يتشكل الآن بالفعل، وأنه بالرغم من العديد من التكهنات حول صعود قوي جديدة كالصين والهند لتحل محل الولايات المتحدة أو تتقاسم معها قيادة العالم عام 2030، إلا أنه من الصعوبة بمكان التصور بأن تلك التنبؤات قابلة للتحقيق، فهنالك صعوبات قد تواجهها تلك القوى بحيث تعرقل صعودها، وهنالك أيضا فرصة متاحة للولايات المتحدة لتجنب المزيد من السقوط الذي يعتبر الكاتب أن السبب الرئيس له التحلل من القيم التي كانت تشكل الدرع الواقية للحلم الأمريكي، انشغلت عقول الكثيرين منذ فترة حول نقاش عميق لا يزال مستمرا حول ظاهرة ما يسمى بصعود الآخرين، وعلى الأخص الصين والهند، وما يعنيه ذلك بالنسبة للنظام العالمي الليبرالي، بيد أن ما نعرفه حول هذا الموضوع يبدو واضحا للغاية، فمنذ نحو ربع قرن تقريبا، كانت نهاية الحرب الباردة مؤشرا على نهاية الثنائية القطبية، وهو ما أدى إلى مزيد من التقارب في العلاقات الدولية بفعل العديد من العوامل مثل حجم السكان، النمو الاقتصادي، العزة القومية، والطموحات الاستراتيجية، بما أدى إلى تغيرات نسبية في خريطة القوى العالمية بدأت ملامحها في التبلور بالفعل، لكن يبدو من الواضح أيضا أننا نضيع الكثير من الوقت في توقع أمور مثل ماذا يعني صعود الصين بالنسبة للنظام العالمي الجديد الذي ستكتمل ملامحه بعد نحو 20 عاما؟، وهو سؤال قد لا نملك إجابة محددة له حتى الآن، فهناك من يردد أن صعود الطبقة المتوسطة في الصين يمكن أن يصاحبه قدر أكبر من المشاركة السياسية خلال السنوات القادمة، وهو ما يعني أن تصبح السياسة الصينية أكثر توافقية وديمقراطية بما هي عليه الآن، وبما يقلل من النزعة القومية وفعل التهور لديهم، وهنالك من يرى في الصين المستقبل الدولة السلمية، والقوة الصاعدة المتدثرة بغطاء الاستقلال الاقتصادي من خلال شبكة التجارة العالمية التي تتمتع بها، وهو ما يشبه حد كبير الخطأ الذي ارتكبناه في الماضي عندما اعتقدنا أن التقدم في التجارة العالمية ممكن أن يمنع نشوب الحروب، وأيضا عندما اعتقدنا أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تلعب دورا رياديا على صعيد تحقيق السلام العالمي.

بالطبع فليس ذلك مدعاة للكف عن التنبؤ والتفكير في الاتجاهات الاقتصادية، والإنفاق الجماعي، والتركيبة السكانية، والاستقرار الاجتماعي في دولة كالصين، لكن دعونا نفكر في السياسة والمحفزات التي ينبغي علينا اتباعها ويكون من شأنها أن تساعدنا على تشكيل نظام عالمي جديد يتوافق مع مصالحنا ويدعم قيمنا ويعمل في ذات الوقت على تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء للعالم.