أفكار وآراء

هل يقبل الفلسطينيون بخيار دولة واحدة لشعبين مختلفين؟

07 فبراير 2017
07 فبراير 2017

د. عبدالعاطي محمد -

أعادت رغبة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس خلط الأوراق في مسار القضية الفلسطينية، وذلك من حيث التخلي عن حل الدولتين واستبداله بحل الدولة الواحدة. وبينما يسمح الحل الأول بقيام دولة فلسطينية مستقلة، يقضي الحل الثاني بقيام دولة واحدة على أرض فلسطين التاريخية، وفيه خلاف جذري بين من ينشدونها دولة ديمقراطية علمانية يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون معًا بحقوق متساوية، وبين من يرونها دولة لشعبين لا يحظى فيها الفلسطينيون بنفس حقوق الإسرائيليين.   

ومع أن مسألة نقل السفارة إلى القدس ليست جديدة على المواقف الأمريكية من القضية الفلسطينية حيث تبناها رئيس أمريكي أو أكثر من قبل دون أن ينفذها، إلا أن ورودها ضمن رؤية دونالد ترامب لسياسة بلاده تجاه قضايا الشرق الأوسط عزز من مخاوف الإقدام عليها فعلا هذه المرة بالنظر إلى كل ما ارتبط بشخصية رجل البيت الأبيض الجديد من استعداد لهدم معظم إن لم يكن كل ما سار عليه أسلافه من سياسات خارجية وداخلية. وكلك لأنها جاءت وسط تدهور غير مسبوق في مسار العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية وصل عمليا إلى الوفاة الإكلينيكية لحل الدولتين، وما نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس إلا اعتراف لا يقبل الشك من جانب الولايات المتحدة بأن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل، وهو ما يتنافى تماما مع الأسس التي قام عليها حل الدولتين واعترف بها وتبناها ليس فقط باراك أوباما ولكن الرؤساء الأمريكيين السابقين منذ بدايات التسعينات من القرن الماضي.

لم يكن غريبًا ولا مفاجئًا أن تعبر حكومة بنيامين نتانياهو الإسرائيلية عن ارتياحها لرغبة ترامب بنقل السفارة، ولم يكن غريبا أيضا أن تهلل إسرائيل لفوز ترامب، ليس فقط لأنها كانت على خلاف كبير مع أوباما وخصوصا في فترة حكمه الأخيرة و التي أنهاها هو ووزير خارجيته جون كيري بتوجيه اللوم والنقد الحاد لحكومة نتانياهو وتحميلها مسؤولية فشل إدارته في تفعيل حل الدولتين، وإنما وجدت حاكما جديدا في البيت الأبيض يتلاقى معها في سياسات فرض الأمر الواقع لصالح من يحظى بالقدر الأكبر في موازين القوى، فضلا عن نزعته العنصرية التي لا يخفيها، بل يتفاخر بها. وفي هذا وذاك ضوء أخضر لإسرائيل بأن تستمر في إعطاء ظهرها لحل الدولتين، وهو ما توالت المؤشرات عليه عقب فوز ترامب.

ومن الطبيعي أن تجزع السلطة الفلسطينية لهذا الموقف الأمريكي، حيث سارع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتحذير الإدارة الأمريكية الجديدة من الإقدام على خطوة كهذه لما تشكله من خطر كبير على مسيرة الحل السلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وألمح إلى أنه في حالة نقل السفارة والاستمرار في التوسع الإسرائيلي الاستيطاني، فإن السلطة الفلسطينية ستلجأ إلى خيارات عدة مضادة. وقد تكفل صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين بالكشف عن جوانب من التحرك المضاد المتوقع، وذلك في حوار أجرته معه مؤخرا محطة سي. ان. ان الأمريكية، حيث قال عريقات: «إن منظمة التحرير الفلسطينية ستسحب اعترافها بإسرائيل إذا تم نقل السفارة لأنه لا يمكن تحت أي ظرف أن تعترف المنظمة بإسرائيل و تقول الولايات المتحدة إن القدس جزء منها، كما ستموت الاتفاقية الموقعة مع إسرائيل (أوسلو 1993) لأن نتانياهو قرر تدميرها، ولذلك سيكون نتانياهو مسؤولا عن دفع مرتبات الفلسطينيين في الضفة وغزة.. وسوف نذهب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ونطالب بتعليق عضوية إسرائيل إلى أن تخضع للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن».

وأضاف عريقات -فيما يعد تطورا لافتا قد يغير مسار كل التحركات- «في ظل عدم إمكانية تحقيق حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية سوف يطالب الفلسطينيون بحقوق متساوية ومواطنة متساوية مع إسرائيل.. نظام الفصل العنصري هذا يجب أن ينتهي وسوف نحاول توفيق أوضاعنا في واقع الدولة الواحدة الذي تم خلقه بالقوة وبالمستوطنات». ومما يذكر في هذا الصدد أن منظمة التحرير كانت قد تبنت رسميا في عام 1988 خيار حل الدولتين، كما أن الراحل ياسر عرفات كان قد أرسل في 9 سبتمبر 1993 خطابًا إلى إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اعترف فيه بإسرائيل وحقها في العيش في أمن وسلام، وأكد التزام المنظمة بالحل السلمي للصراع بين الجانبين ونبذ «الإرهاب» وإلزام جميع عناصر المنظمة بذلك. ورد عليه رابين بخطاب مماثل تعترف فيه إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيًا للشعب الفلسطيني وأنها ستبدأ مفاوضات معها في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط.

ومن الواضح أن عريقات كان يحاول بهذه التصريحات أثناء إدارة ترامب عن تنفيذ خطة نقل السفارة إلى القدس، وإلى تحذيرها هي وحكومة إسرائيل من التخلي عن حل الدولتين. ولكن التصريحات تشير إلى أن السلطة الفلسطينية استشعرت أن هذا وذاك من الوارد أن يحدث فعلا لا قولا، وليس من المستبعد أن تكون معلومات إسرائيلية قد وصلت السلطة الفلسطينية تؤكد رفض إسرائيل بشكل نهائي لحل الدولتين. فربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها ذكر تعبير الدولة الواحدة على لسان مسؤول رفيع في السلطة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو على الأقل وكأنه خيار مطروح حقا. صحيح أنه خيار قائم بتعبير الأمر الواقع، حيث لا يزال الاحتلال قائما والدولة الفلسطينية لم تقم بعد بما يعني أن هناك دولة واحدة هي إسرائيل وشعب فلسطيني يعيش تحت احتلالها لأراضيه بغض النظر عن وجود السلطة الفلسطينية ككيان سياسي يعبر عنه. ولكن من الصحيح أيضًا أن هناك عملية للسلام تركت تراثًا عريضًا من الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية ومن السياسات والقرارات الدولية وكذلك العربية، انصبت كلها على حل الدولتين، بينما لم يكن هناك ذكر لحل الدولة الواحدة. وعندما يجرى الحديث الآن عن حل الدولة الواحدة، فإن هذا يعني أن هناك أمرًا جللاً قد يحدث في القريب العاجل، ومعه ينهار كل ما أفرزته عملية السلام منذ مؤتمر مدريد 1992.

خيار الدولة الواحدة ليس جديدا على تاريخ القضية الفلسطينية، ولكن طرحه بالصورة التي قدمها عريقات أبعد ما يكون عن الصورة القديمة له وإن عريقات كان قد استدعى بعضًا من عباراته. ويقصد بهذا الحل إقامة دولة ديمقراطية واحدة على أرض فلسطين التاريخية تضم اليهود والعرب كلهم يعيشون فيها على قدم المساواة دون تمييز في المعاملة أو الحقوق والواجبات، وهي دولة توصف بأنها علمانية ديمقراطية وتحمل اسم الدولة الفلسطينية الديمقراطية. وقد ظهرت هذه الفكرة بشكل واضح منذ أول يناير 1968 وتبنتها حركة المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها (ما عدا حماس بالطبع لأنها لم تكن موجودة في ذلك الوقت) عندما حددت هدف النضال الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية يعيش فيها اليهود والعرب دون تمييز وبحقوق متساوية. ومن الناحية التاريخية كان للفكرة جذورها منذ عشرينات القرن العشرين وحتى قيام دولة إسرائيل 1948 عندما كانت الهجرات اليهودية تتوافد على فلسطين التاريخية التي كانت أوسع جغرافيا (سوريا الكبرى) وخصوصا بعد وعد بلفور 1917. وقتها كانت المطالب العربية والفلسطينية تتركز على رفض إنشاء وطن قومي لليهود ورفض تقسيم فلسطين إلى دولتين والقبول باليهود ضمن دولة فلسطينية واحدة، وهو ما لم يحدث كما هو معروف تاريخيًا. وبين عامي 1948 و1968 ظل الفكر العربي يدور في حلقة مفرغة من الشعارات حول استرداد فلسطين والقضاء على إسرائيل، والمطالبة في الوقت نفسه بتطبيق قرارات الأمم المتحدة التي تتضمن بالطبع الاعتراف بإسرائيل.

هنا أعلنت حركة فتح تبنيها لهدف إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية ثم أيدتها كل من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية. وووفقا لفكر فتح آنذاك فإن هذه الدولة تتسم بوجود مجتمع ديمقراطي تقدمي، ودولة مفتوحة للفلسطينيين واليهود الذين يتخلون عن صهيونيتهم، وهي جزء من الأمة العربية على طريق وحدة عربية مستقبلا، وأن طريق تحقيق هذه الدولة هو الكفاح المسلح.

ورغم حماسة حركات المقاومة الفلسطينية آنذاك لهذه الفكرة وكذلك حماسة واقتناع بعض القوى والأحزاب الإسرائيلية اليسارية والعلمانية، إلا أنها لم تستمر طويلا وانتهت نظريا وعمليا بعد أن ترسخ وجود إسرائيل وتوالت الهزائم العربية. واليوم عندما يستدعي عريقات الفكرة فإنه يعلم جيدًا أنه لا إمكانية على المستوى الفكري والنظري أو الظروف الملائمة لتحقيق الدولة الواحدة التي تتعامل بالمساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فلا إسرائيل دولة ديمقراطية كما تدعي ولا الأوضاع بإجمالها بقت على حالها بل تغيرت رأسًا على عقب، ولا الفلسطينيون على اتفاق حول هذه الفكرة بالنظر إلى توجهات حماس الإسلامية. ولكن ما يبرر استدعاء عريقات لفكرة كهذه هي في حوزة التاريخ فقط، هو إعادة المناقشة حول يهودية دولة إسرائيل باعتبارها العقبة الأساسية التي أعاقت حل الدولتين. إعادة المناقشة تعني أمرين: إما أن تتوقف إسرائيل عن اعتبار كل فلسطين التاريخية أرضًا يهودية (أرض الميعاد) وتحصر يهودية الدولة عند حدود 1967 فقط، بما يعني الانسحاب وإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، وهنا لا محل لمطالبة الفلسطينيين والعرب بالاعتراف أولا بيهودية إسرائيل لأنهم معترفون أصلا بوجود دولة إسرائيل، وإما الإصرار على يهودية الدولة بالمطلق فتكون هناك دولة واحدة لشعبين لا يتساوون في الحقوق والواجبات (الفصل العنصري) وهو واقع لن تقوى عليه أي حكومة إسرائيلية لا من الناحية الأمنية ولا السياسية ولا الاقتصادية.