الملف السياسي

هل يعيد ترامب صياغة العلاقات عبر «الأطلسي»؟!

06 فبراير 2017
06 فبراير 2017

بشير عبد الفتاح -

بظلال كثيفة من الغيوم ألقى فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة على العلاقات الأمريكية الأوروبية التي بدأت تتلمس طريقها الوعرة نحو القلق والتقلب وتآكل الثقة منذ انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي.

فبادئ ذي بدء لعلنا لا نبالغ إذا ما زعمنا أن وصول ترامب للمكتب البيضاوي قد مثل تهديدا وجوديا لمشروع الاتحادي الأوروبي الذي طالما تملكت الأوروبيين شكوك مربكة في مواقف واشنطن الحقيقية حياله منذ الشروع في تدشين مسيرته الاتحادية الطويلة منتصف القرن الفائت، حيث يستبد بأولئك الأوربيين هاجس بشأن وجود رغبة أمريكية في إفشاله والحيلولة دون بلوغه مبتغاه من الوحدة والقوة على كافة الأصعدة لاسيما صعيدي الدفاع والسياسة الخارجية، حتى لا تتحول أوروبا إلى قوة عالمية موحدة وضاربة تنافس القطب الأمريكي الأوحد صدارة النظام العالمي الذي تواصل واشنطن عزفها المنفرد على قمته منذ انهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي عام 1991م، فلا يزال كثير من البريطانيين يتذكرون دور واشنطن في دفع لندن للالتحاق بالسوق الأوربية المشتركة عام 1975، ثم محاولة توظيفها كذراع لواشنطن داخل تلك المنظومة بغية عرقلة مساعي ألمانيا لتحويلها إلى اتحاد فيدرالي متجانس ومتماسك اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، ولعلنا لا نتجاوز حدود الدقة حالة ادعائنا أن الرفض البريطاني الشعبي للموقف الأمريكي من علاقة لندن بالاتحاد الأوروبي كان أحد العوامل الرئيسة التي شجعت قطاعا عريضا من البريطانيين على التصويت لأجل خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.

وانطلاقا من هذا التصور لم يتورع الأوروبيون عن شن حملة عنيفة على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي اعتبر اعتلاؤه سدة الحكم في واشنطن مؤججا لأزمة الثقة بين بروكسل واشنطن، كما ارتأوه ركنا ركينا في هجوم ثلاثي المحاور يسعى إلى تقويض الاتحاد الأوروبي، وفي هذا السياق أكد مؤخرا «غي فيرهوفشتات»، وهو مسؤول بارز في الاتحاد الأوروبي وأبرز مفاوضيه لخروج بريطانيا من التكتل خلال خطاب أمام معهد «تشاتام هاوس» بلندن: «عدت لتوّي من الولايات المتحدة، وقد اكتشفت أنه بالإضافة إلى التهديدين اللذين يتربصان بالاتحاد الأوروبي والمتمثلين في الإسلاميين المتشددين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثمة تهديد ثالث يلوح في الأفق يتجلى في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وتتفاقم مخاوف الأوروبيين من تداعيات فوز ترامب برئاسة أمريكا على مشروعهم الوحدوي مع تزامن مجيء ترامب وتحديات أوروبية باتت تثقل كاهل القارة العجوز تتضح في أزمة أوكرانيا التي فخخت علاقات دول الاتحاد مع موسكو إلى الحد الذي دفع بدول شرق أوروبا الأعضاء في الاتحاد إلى الوقوع في براثن الهلع من أن يستغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعهد ترامب بتحسين علاقات واشنطن مع موسكو برغم العقوبات الأوروبية والأمريكية التي ترزح الأخيرة في أغلالها كضوء أخضر للتحرك باتجاه بسط نفوذ روسيا مجددا على هذه الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي السابق قبل العام 1990م على غرار ما يحدث منذ نحو عامين في أوكرانيا.

ويأتي انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد تصويت نسبة 51.9% من الناخبين البريطانيين بواقع 17.4 مليون شخص في استفتاء أجري في شهر يونيو الماضي بمشاركة تاريخية للناخبين ناهزت الـ72 %؛ لمصلحة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد مقابل 48.1% بواقع16.1 مليون عبروا عن تأييدهم للبقاء فيه، وما رافق ذلك من تنامي التوقعات بحذو دول أوروبية أخرى حذو بريطانيا على ذات الدرب وفي مسار التمرد الشعبي الغربي على المنظومة السياسية التقليدية والمشروع الوحدوي الأوروبي؛ ليسلط الضوء على التهديد الوجودي الذي يحيط بالاتحاد الأوروبي بالتزامن مع صعود ترامب.

وفي حين سبق للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما التأكيد على أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإن أوجد حالة من الغموض في شأن مستقبل المشروع الاندماجي الأوروبي، إلا أنه لن يضر بالعلاقات بين واشنطن وأوروبا، غير أن أوباما حذر من أن أي خلاف بين لندن وبروكسل في شأن الخروج البريطاني سوف يضعف الأمن الأوروبي في مواجهة التهديدات الروسية. وتأسيسا على كل ما ذكر آنفا أكد وزير الخارجية الفرنسي «جان مارك ايرولت» في تعليق عما وصفه بالزلزال السياسي الذي شهدته واشنطن في ذكرى مرور 27 عاما على سقوط حائط برلين: «لا يمكن أن يغمض لأوروبا جفن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد وبعد انتخاب دونالد ترامب».

وفي السياق ذاته أعرب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، وهو نرويجي الجنسية، عن مخاوفه من أن يتنصل الرئيس الأمريكي ترامب من التزامات بلاده فيما يخص الاتفاقات المتعلقة بالضمانات الأمنية إزاء الحلف. وجاء الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب بعد أسبوع من أدائه اليمين الدستورية، وحمل عنوان «حماية الأمة من دخول إرهابيين أجانب إلى الولايات المتحدة» الذي فرض بموجبه حظرا لأجل غير مسمى على دخول اللاجئين السوريين، وحظرا لمدة ثلاثة أشهر على دخول رعايا إيران وست دول عربية، حتى ممن لديهم تأشيرات لدخول الولايات المتحدة، ظنا منه أنه سيبقى من أسماهم «الإرهابيين الإسلاميين المتشددين» خارج الولايات المتحدة، ليسكب مزيدا من الزيت على نيران التوجس وأزمة الثقة المتنامية بين بروكسل وواشنطن.

فمن جهة، لم يحل إعلان الحكومة البريطانية حصولها على إعفاء لرعاياها المجنسين والمزدوجي الجنسية من القيود الأمريكية الجديدة، حيث سيستثنى المسافرون إلى الولايات المتحدة الذين يحملون، إضافة إلى الجنسية البريطانية، جنسية إحدى الدول السبع المشمولة بقرار الحظر الأمريكي (العراق وإيران وليبيا والصومال والسودان وسورية واليمن) انطلاقا من دولة أخرى غير الدول السبع، لن يسري عليهم قرار الحظر، حتى ولو تحركت رحلاتهم من إحدى هذه الدول، لم يحل دون تفجر معارضة شرسة لزيارة ترامب المتوقعة هذا العام لبريطانيا، إذ وقع مليون بريطاني على عريضة تطالب بإلغاء تلك الزيارة، وذلك على خلفية إصداره الأمر التنفيذي المثير للجدل، مما يعني أنها حصلت على أكثر بكثير من العدد اللازم من التوقيعات كي يناقش الأمر في البرلمان، وبينما لم تعر الحكومة البريطانية اهتماما الدعوات المطالبة بإلغاء زيارة ترامب إلى المملكة المتحدة تبقى تلك الدعوات مؤشرا على تنامي حالة من الرفض الشعبي العارم في أوروبا لدونالد ترامب، كما تعكس قلقا شديدا من تأثير سياساته المثيرة على مستقبل العلاقات بين ضفتي الأطلسي التي قد تتبدل قواعدها في المراحل المقبلة.

ومن جهة ثانية، أعلن الناطق باسم المفوضية الأوروبية «مارجاريتيس سكيناس» أن العواقب القانونية للمرسوم الأمريكي ليست واضحة بعد من حيث انعكاساتها المحتملة على رعايا الاتحاد الأوروبي من حملة جنسيتين، وعدم تعرضهم لأي تمييز، بناء على الجنسية أو العرق أو الدين، سواء على صعيد اللجوء أو في أي من السياسات، وذلك بسبب المعلومات المتضاربة التي يتلقاها الأوربيون من الأمريكيين بهذا الصدد، وبدورها كررت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تنديدها بهذا الأمر الرئاسي الأمريكي، مشددة على أن مكافحة الإرهاب الضرورية والحازمة، لا تبرر إطلاقا تعميم التشكيك بالأشخاص من دين معين، وتحديدا الإسلام، واعتبرت أن هذه التدابير تتناقض مع رؤيتها لأسس التعاون الدولي والمساعدة الدولية للاجئين.

ويبقى ملف العلاقات الأمنية بين واشنطن وبروكسل هو الأكثر إثارة بعد فوز ترامب برئاسة أمريكا، حيث دعا وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير دول الاتحاد الأوروبي إلى عدم التعويل على أمريكا بعد انتخاب ترامب، لاسيما في مجالي السياسة الخارجية والدفاع، خصوصا في ظل حديث ترامب خلال حملته الرئاسية عن ضرورة أن يتحمل الأوروبيون نصيبا أكبر من تكلفة الدفاع عن القارة العجوز التي تتحمل واشنطن وحدها نحو 70% منها، وأن ترفع دول الاتحاد نسبة إنفاقها الدفاعي السنوي داخل الناتو إلى 2% من ناتجها القومي الإجمالي.