أفكار وآراء

ترامب .. لن ينسحب من الشرق الأوسط

05 فبراير 2017
05 فبراير 2017

عماد عريان -

ذهبت تحليلات ومقالات عدة نشرت على هذه الصفحات قبيل وخلال وبعد انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة إلى ضرورة عدم التعجل في قراءة مواقف الرئيس الجديد دونالد ترامب خاصة فيما يتعلق بأجندته الخارجية وتفسير كثير من بنودها على أنها عودة أمريكية إلى العزلة والانكفاء على الداخل والانسحاب من قضايا العالم وقيادته، وجاء في سطور تلك التحليلات أن المبدأ لدى القوى العظمى عموما هو عدم الانسحاب من مواقع النفوذ وتكريس الوجود لحماية المصالح الاستراتيجية العليا وأن ترامب لن يكون استثناء من هذا المبدأ حتى ولو تغيرت أساليبه ووسائله تحقيقا لهذا المبدأ.

وإذا كان ترامب قد كشف مبكرا عن كثير من أفكاره السياسية التي قادته إلى البيت الأبيض وخاصة ما يتعلق منها بالسياسات الحمائية ورفض ما يسمى بالتدخل الإنساني في مناطق العالم أو دعم الثورات والانتفاضات الشعبية دعما للتحول الديمقراطي، إلا أن كل هذه المبادئ عندما تطرح على لسان «رجل أعمال من الدرجة الأولى» فإنها تعني سعيه للاستفادة بقدرات بلاده وإمكاناتها بأقصى قدر ممكن وتعظيم «العائد على مواردها» عشرات إن لم يكن مئات المرات بما يعني تسيدها العالم من منطلق القوة المطلقة وليس الانكفاء على الذات، ببساطة المبدأ لدى ترامب لم يكن في الغالب الانسحاب من قيادة العالم ولكن قيادة هذا العالم من مركز أقوى في تعبير صريح عن سياساته اليمينية التي يمكن اختزالها في شعار من كلمتين ورد كثيرا على لسانه تصريحا وتلميحا وفي أحاديث فريقه السياسي؛ هو «أمريكا أولا».

ومن بين التوجهات الخارجية التي حملت واحتملت أكثر من قراءة لترامب، تلك المتعلقة بسياساته تجاه الشرق الأوسط، إلى حد دفع البعض إلى توقع انسحاب الرئيس الأمريكي الجديد من المنطقة وترك ترتيب أوضاعها لقوى دولية وإقليمية بديلة كروسيا وتركيا على سبيل المثال، إلا أن تطورات الأيام القليلة الماضية أكدت أن ترامب لن ينسحب من الشرق الأوسط ولا قضاياه ولكنه سيتعامل معها بمقاربات مختلفة، وخير دليل على ذلك دعوته العملية إلى إقامة مناطق آمنة في سوريا وتصعيده الخطير ضد إيران وكذلك العملية العسكرية للقوات الخاصة الأمريكية ضد عناصر «القاعدة « في اليمن، وفي خضم ذلك قراره بمنع مواطني سبع دول شرق أوسطية من دخول الأراضي الأمريكية.

ولعل في ذلك تأكيد جديد على ما ذكره خبراء أمريكيون بأن الشرق الأوسط سيكون المنطقة الأكثر تعقيدا في سياسة ترامب الخارجية، وحددوا هنا أربعة مجالات في المنطقة تغوص فيها الولايات المتحدة بعمق، حيث سيواجه ترامب أسئلة حول هذه السياسة،إلا أنه سيلقى فقط «القليل من الإجابات الواضحة» مؤكدين أن هذه القضايا هي اليمن، و« تركيا وسورية والأكراد»، و«الإصرار الوحشي لداعش»، وما أسموه بـ«العذاب العراقي»، وفي السياق ذاته حذر تقرير مخابرات أمريكي صدر عن «مجلس المخابرات الوطني» من مستقبل مظلم وصعب قد يواجهه ترامب،إضافة إلى خطر حدوث نزاعات دولية غير مسبوقة في العالم لن تستطيع إدارته التعامل معها.وتوفع التقرير إن «السنوات ما بين 2017-2022 ستشهد صعوداً لتوترات داخلية في بعض دول الشرق الأوسط وما بين دولها»، وحذر التقرير من أن المشهد الدولي الظاهر يدفع عصر الهيمنة الأمريكية بعد الحرب الباردة إلى نهايته، مع توجه منطقة الشرق الأوسط إلى المزيد من التشظي والتقسيم بسبب الصراعات الدولية وتراجع الاقتصاد وتردي بنى الدول ومؤسساتها «، وأكد التقرير أن «التنظيمات المتطرفة أصبحت تحل محل الدولة في حين أن المزيد من الدول قد تتوجه نحو التحالف مع موسكو التي سيزداد نفوذها الشرق أوسطي، ليمتد إلى شمال إفريقيا وجنوبها ووسطها».

هذه التحذيرات أو التوقعات أو القراءات، أيا كان المسمى، تعني بشكل أو بآخر ان السياسة المستقبلية لترامب تجاه الشرق الأوسط قد تكون أكثر تدخلا في قضايا المنطقة بحلول أمنية ظاهرة على غرار الأمر التنفيذي للرئيس الأمريكي إلى وزارتي الدفاع والخارجية بوضع خطة لإنشاء مناطق آمنة للاجئين المدنيين داخل سوريا وغيرها من الدول القريبة، يمكن فيها للمواطنين السوريين الذين نزحوا من وطنهم انتظار توطين دائم،مثل إعادتهم لبلادهم أو إعادة توطينهم في بلد ثالث»,ويتزامن مع ذلك عزم الرئيس الأمريكي وقف برنامج استقبال اللاجئين السوريين لمدة 120 يوماً، وقد ناقش ترامب بالفعل ذلك الاقتراح مع قيادات خليجية بما قد يكفل تمويلا خليجيا ودعما إقليميا صريحا، مثلما طالب بذلك من قبل الرئيس الأمريكي.

وإذا قرر ترامب إقامة مناطق آمنة فقد يزيد هذا من التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، ويمثل اختلافا كبيراً عن نهج أوباما.أما إذا قرر فرض قيود «على الطيران» فوق هذه المناطق، فقد يتطلب ذلك زيادة في حجم القوة الجوية الأمريكية أو القوة الجوية للتحالف، وقد يتطلب هذا أيضاً نشر قوات برية لتوفير الأمن، وبينما لا نجد خطة تفصيلية بأماكن أو آليات إقامة هذه المناطق الآمنة، إلا أنه ليس من المتوقع مرورها بسلاسة أو بسهولة خاصة مع اعتراض الأطراف والدول المعنية التي اعتبرت مثل هذا التوجه انتهاكا لسيادتها وعملا خطيرا يهدد كيانها ووحدتها ما لم يتم التنسيق معها بشأنها، الأمر الذي سيمثل تحديا كبيرا لأول قرارات ترامب الأمنية تجاه المنطقة. أما المؤشر الثاني المهم على استمرار التورط العسكري الأمريكي في المنطقة فيتمثل في أول عملية عسكرية امريكية في اليمن في عهد ترامب وهي تلك التي انتهت بمقتل مدنيين وجندي امريكي قبل أيام وأسفرت عن مقتل عديد من المدنيين من الأطفال والنساء باعتراف القيادة المركزية للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط، بينما كشف تقرير «القاعدة في اليمن: في طور التوسع» الصادر عن مجموعة الأزمات الدولية، ان العملية أدت الى مقتل «العديد من المدنيين بينهم على الأقل عشر نساء وأطفال» بالإضافة الى رجال من القبائل المحلية واعتبرت المجموعة المستقلة التي تحلل النزاعات حول العالم ان العملية «لا تبشر بالخير» في الجهود المبذولة من اجل «مواجهة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بذكاء وفعالية» لأنها تعزز حجة التنظيم الذي يؤكد أنه «يدافع عن المسلمين ضد الغرب»، أضف إلى ذلك أن القوات الأمريكية ذاتها وقعت على وجه التقريب في كمين لعناصر القاعدة ما دفع البيت الأبيض إلى التأكيد على أنه لا يمكن اعتبار العملية ناجحة بنسبة 100%.

وتبقى المسألة الإيرانية هي الأكثر إثارة للترقب والاهتمام في ضوء تصعيد ترامب الكبير ضد طهران خاصة بعد تجربة الصاروخ الباليستي الإيراني وتهديد البيت الأبيض بفرض عقوبات جديدة، تم اتخاذ بعضها بالفعل، بما ينسف أي تحسن طرأ على علاقات طهران - واشنطن قبل تولي ترامب، والمعروف عن مرتكزاته السياسية في هذه المسألة اعتمادها حتمية الوقوف أمام ما يعتبره محاولات إيرانية لدفع المنطقة لحالة عدم الاستقرار وزيادة نفوذها عليها، فإيران - من وجهة نظره - وانطلاقا من ذلك يرى ضرورة إعادة النظر في الاتفاق النووي مع إيران لأنه «اتفاق كارثي»على حد وصفه، ثم لابد من إلغاء الاتفاق أو إعادة النظر فيه مرة أخرى لتعديله لأنه لا يمثل المصالح الأمريكية ويضر بأمن إسرائيل ومصالحها بشكل مباشر، وعلى أقل تقدير فلابد من وضع محددات بخصوص الاتفاق تضمن وضع إيران تحت المساءلة بشكل تام ويعزز من عدم محاولة إيران اختبار أسلحتها والذي لم ينص الاتفاق على منعه. وأغلب الظن أن المسألة الإيرانية على وجه الخصوص ستكون غاية في التعقيد بالنسبة لسياسات ترامب الخارجية، نظرا للضمانات الدولية أولا لاتفاق(5 1 ) النووي، وكذلك لصلابة الموقف الإيراني ودور طهران الإقليمي المؤثر، ليس هذا فحسب ولكن تداخل الدور الإيراني مع قوى دولية أخرى كروسيا في عديد من بؤر التوتر كسوريا والعراق ولبنان وسياسات ترامب غير المريحة تجاه أطراف خليجية وإقليمية اخرى، كلها عوامل تجعل المشهد بالفعل متداخلا ومختلطا بشدة بما يعني أن سياسات ترامب في المنطقة لن تعيش أجمل فتراتها على الإطلاق، وعلينا مجددا قراءة تقرير«مجلس المخابرات الوطني» الأمريكي بدقة.